بعد احتلال العراق، رسخت أمريكا نظام الطائفية السياسية في الحكم، ليكون بديلاً عن نظام حزب البعث، ويقوم النظام الجديد على أساس التمثيل النسبي للمكونات الطائفية والعرقية، وبناء على ذلك تم تقسيم السلطة وموارد الدولة بين هذه المكونات، مع ترسيخ فرضية أن العرب الشيعة هم الأكثرية في البلد، وبمقتضى النظام الهجين (الطائفي الديمقراطي) يكون الحكم لهم، عبر حصر رئاسة الحكومة الجهة التنفيذية للسلطة فيهم، وتحقيق قدر ضئيل من التوازن مع المكونات الأخرى، بإسناد رئاسة الجمهورية للكرد، ورئاسة البرلمان للعرب السنة.
وعلى ضوء ذلك مارست السلطة الجديدة أقصى درجات الطائفية في الحكم، وأرست لذلك قوانين وتشريعات خاصة، مثل (قانون اجتثاث البعث) و (المادة 4 إرهاب)، ومن خلالها أقصت المنافسين عن إدارة البلاد، وألقت بالمعارضين في غياهب السجون، فيما مارست أذرع مليشياوية عمليات موازية اتخذت طابع التصفية الدموية والتغيير الديموغرافي القائم على التقتيل والتهجير واسع النطاق.
وشكلت مرحلة حكم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي 2006- 2014، ذروة الممارسة الطائفية في الحكم، إذ شارفت فيها البلاد على الدخول في أتون حرب أهلية دامية، حيث تمكن من تعزيز سلطته، وتهميش البرلمان والمؤسسات الدستورية الأخرى، وسيطر على الأجهزة العسكرية والأمنية، ودعم تشكيل وعمل المليشيات المسلحة خارج إطار القانون.
وقد ساهم سعي المالكي الحثيث للانفراد بالسلطة في إثارة قلق منافسيه من الشيعة، وحلفائه الأكراد، في تحقيق إجماع على منعه من الوصول لولاية ثالثة عام 2014، والوقوف أمام عودته للسلطة مرة ثانية في الانتخابات اللاحقة، لتتحول فترة وصول منافسه في حزب الدعوة حيدر العبادي لرئاسة الوزراء إلى فترة سكون للخطاب الطائفي، وصولاً إلى انتخابات عام 2018، وتشتت أصوات الشيعية واحتدام التنافس بينهم، ما أدى إلى ترشيح عادل عبدالمهدي ليكون رئيس وزراء تسوية بين الأطراف المتخاصمة، وانتهاء بالتظاهرات الشعبية التي لا تزال فصولها دائرة، حيث علّق المراقبون الآمال على غلبة الخطاب الوطني شعبياً، على حساب انتهاء المد الطائفي؛ وهو الرهان الذي قد يصبح في مهب الريح بعد مقتل سليماني.
عودة الطائفية
جاء مقتل الجنرال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس الإيراني في 3 يناير الجاري، بعملية أمريكية في بغداد، ليكون حبل نجاة لأحزاب الحكم في العراق التي وضعها الشارع العراقي -خصوصاً الشيعي- في موقف حرج، بعد تغول الفساد وترسيخ فشل الدولة على كل الصعد، الأمر الذي أدى إلى موجة احتجاجات عارمة بدأت بالمطالبة بمكافحة الفساد وانتهت بالمطالبة بإقصاء النخبة السياسية الحاكمة وأحزاب السلطة.
التحشيد ضد أمريكا بدأ بتبني البرلمان العراقي قراراً يلزم الحكومة بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، ومع استحالة هذا الأمر بسبب ارتهان الاقتصاد العراقي للسطوة الأمريكية، واعتماد بغداد على واشنطن في العديد من الملفات العسكرية والأمنية، وخشية حكومة تصريف الأعمال من انهيار الاقتصاد في حال فرض عقوبات اقتصادية عليها، بدأ خطاب الجهات الشيعية المرتبطة بإيران يتجه نحو التحشيد الجماهيري باستخدام الشعارات الطائفية، تجسد ذلك في المظاهرة التي دعا لها الصدر، وهو ما أثار المخاوف من احتمال عودة الخطاب الطائفي إلى المربع الأول الذي بدأت منه.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي جاسم الشمري: أن “الطائفية هي أساس بقاء واستمرار العملية السياسية في العراق، ومع تيقن الطبقة الحاكمة أن الخطاب الطائفي تراجع بشكل كبير جداً على الصعيد الجماهيري، يحاولون اليوم زج الخطاب الطائفي في الواجهة بما يملكون من قوة عسكرية ومالية وإعلامية، لإفشال الحراك الجماهيري”.
وأضاف الشمري في حديثه لـ”المجتمع”: أن “الجماهير العراقية اليوم أوعى مما كانت عليه في المرحلة السابقة، لذلك ستفشل محاولة تأجيج الطائفية من جديد”، مستدركاً بالقول: إن “التظاهرات التي قادها الصدريون استندت إلى مواجهة الوجود الأمريكي على أساس مليشياوي طائفي، وهم لديهم جمهورهم الذي يمكن استخدامه كائدات في تحقيق ما يصبون إليه وتحريك مشاعر الجماهير ضد الوجود الأجنبي، بما يخدم المصالح الإيرانية”.
وأشار إلى: أن “الخطاب التحشيدي الذي تستخدمه المجاميع المرتبطة بإيران سيكرس مسألة تحويل العراق لساحة مواجهة بين طهران وواشنطن”، منوهاً إلى أن “استهداف السفارة الأمريكية بالصواريخ مؤخراً سيزيد من تعرض العراق للمزيد من معارك تصفية الحسابات بين الطرفين، لأن العراق هو الخاصرة الرخوة في هذه المواجهة، فالعراق اليوم يعيش حالة اللادولة، وعدم وجود حكومة، وضعف الأجهزة الأمنية”.
وأكد على أنه “رغم مساعي الأطراف المليشياوية لإذكاء الخطاب الطائفي، إلا أن الجماهير العراقية أكثر وعياً وإدراكاً من أن تقع في هذا الفخ، إلا إذا عمدت هذه الأطراف إلى افتعال حادث مشابه لتفجير المرقدين في سامراء في شباط 2006، وهذا الأمر متوقع في حال شعرت الطبقة السياسة أن وجودها على المحك، وبالتالي سيكون الصراع الطائفي هو حبل النجاة الذي يبقها في السلطة”.
يشار إلى أن النظام السياسي الطائفي، أتاح الفرصة لإيران لتعزيز نفوذها في العراق، عبر دعم قوى سياسية حليفة لها وفصائل شيعية مسلحة، تشكلت في إيران خلال الحرب مع العراق 1980 – 1988، وأصبحت تلك القوى حجر الأساس في نظام الحكم الذي اسسه الأمريكان عام 2003، وبعد احتلال تنظيم الدولة لأجزاء واسعة من الأراضي العراقية وهزيمة الجيش، تشكلت مجموعات مسلحة تحت اسم “الحشد الشعبي”، ساهمت في هزيمة “داعش” وتحولت إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة بدعم إيراني، وهو ما جعل الساحة العراقية ساحة للمواجهة بين واشنطن وطهران.
مليونية فاشلة
مع انتهاء المظاهرة “المليونية” التي دعا إليها الصدر، بدأ الجدل حول مدى نجاح الفعالية في تحقيق أهدافها، وحقيقة احتشاد ما قيل إنه مليون متظاهر وراء مطلب إخراج القوات الأمريكية من العراق.
ويرى مراقبون أن الصدر يمارس لعبة سياسية مزدوجة الرؤوس، فهو يدعي أنه يدعم ساحات الاحتجاجات ومطالبها، فيما يشارك في العملية السياسية ويفاوض أطرافها، وفي ذات الوقت ينفذ الأجندة الإيرانية التي تتخذ من العراق ساحة للثأر من مقتل سليماني.
وبهذا الصدد يؤكد الصحفي العراق عمر الجنابي على: أن “المليونية التي دعا لها الصدر وفصائل الحشد فشلت بكل المقاييس، فالأعداد لم تكن بالمستوى الذي تم الإعلان عنه، والمظاهرة لم تدم أكثر من ساعتين”.
وأضاف في حديثه لـ”المجتمع”: أن “الصراع الإيراني الأمريكي على الأرض العراقية مقتصر على فصائل الحشد، دون أي سند من القاعدة الجماهيرية العريضة، المعنية بإصلاح أوضاع العراق وإخراجه من دائرة الاستقطاب الأمريكي الإيراني”.
وتابع الجنابي: “ويمكن القول بأن محاولة تأجيج الخطاب الطائفي هي واحدة من عدة وسائل استخدمت لضرب الاحتجاجات الشعبية التي تريد استقلال القرار العراقي، وقد فشلت فشلاً ذريعاً كما فشلت قبلها كل الوسائل التي استخدمت لشيطنة الحراك الشعبي”.
ونوه الجنابي إلى: أن “محاولة تأجيج الخطاب الطائفي أدت إلى نتائج عكسية في ساحات التظاهر، حيث وحدت القوى الشبابية طاقاتها في مواجهة هذا الخطاب، وتوحدت الرؤية باتجاه رفض أي مشروع يقدم رؤية للحل من هذه الزاوية، وآخرها الدعوة إلى تشكيل أقاليم جديدة، حيث لم تلاقي هذه الدعوة أي دعم جماهيري، وهو ما دفع القوى السياسية التي دعت إليها للتبرؤ من الأمر في خطابها الإعلامي”.
سلاح ذو حدين
استخدام الطائفية في العمل السياسي ممارسة جديدة على الساحة العربية بشكلها المؤسسي الذي ظهر في لبنان أولاً ثم في العراق تالياً، ويرى الخبراء في علم الاجتماع السياسي أن الطائفية السياسية لا يمكن أن تقدم إلا دولة فاشلة بكل المعايير، والدليل على ذلك نموذج الدولة في العراق ولبنان اليوم، التي أفضت إلى إجماع شعبي وسياسي على رفض هذا النظام ومخرجاته العملية.
كما أن الخطاب الطائفي سلاح ذو حدين، ومن يلجأ إليه بهدف تحقيق غاية سياسية محدودة، لا يدرك أن الوجه الآخر لهذا السلاح هو الإخلال بالعقد الاجتماعي الذي هو أساس بناء الدول الناجحة، ويمكننا أن نقول إن وعياً شعبياً بدأ يدب في الوسط الشعبي العراقي ما بعد انتخابات عام 2014 التي نبذت المالكي وأخرجته من العملية السياسية، بعد أن وجدت الجماهير أن المكاسب التي حققتها الأحزاب الطائفية تحولت إلى مكاسب شخصية وجهوية، فيما حصدت هي مظاهر الخراب والفساد والدولة الفاشلة.
ويرى المراقبون أن انتخابات عام 2018 التشريعية في العراق كانت تجليا واضحا لرفض الطائفية شعبياً، إذ تفككت المكونات السياسية التي تأسست على أسس طائفية وعرقية، بحيث لم يتمكن أي طرف من تحقيق الأغلبية التي تمكنه من تشكيل حكومة لها قدرة على تسيير الأمور منفردة.
ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن المظاهرات الشعبية في الساحات العراقية اليوم، هي قمة هرم الرفض الشعبي للطائفية السياسية، لذلك فإن محاولة توظيفها من جديد ستبوء بالفشل على الأرجح، ومرد ذلك إلى حالة الوعي التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي، مع التأكيد على أن الظاهرة تبقى قائمة ولكنها ضعيفة ليست بالقوة التي تمظهرت بها في السنوات العشر الأولى لما بعد احتلال العراق.