أحكام وكيفية صلاة الاستسقاء لطلب الغيث والمطر
حين يشتد القحط،
وتيبس الأرض، ويغيب الغيث، وتتطلع العيون إلى السماء، يتذكر المؤمن أن المطر بيد
الله وحده، لا الغيوم تُنزل ولا الرياح تُثمر إلا بأمره تعالى، هنا تتجدد معاني
العبودية في أبهى صورها، حين يجتمع الناس على صعيدٍ واحدٍ، رافعين أكفَّ الضراعة،
متذللين للعزيز الوهاب، في مشهدٍ تهتز له القلوب وتخشع له الأبصار.. إنها صلاة
الاستسقاء.
حكم الاستسقاء ودليل مشروعيته
عند الشافعية،
والحنابلة، ومحمد بن الحسن من الحنفية: أن الاستسقاء سُنة مؤكدة، سواء كان
بالدعاء والصلاة أم بالدعاء فقط، حيث فعله النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته
والمسلمون من بعدهم، وأما أبو حنيفة فقال بسُنية الدعاء فقط، وبجواز غيره، وعند
المالكية تأخذ الأحكام الثلاثة التالية: سنة مؤكدة، ومندوب، ومباح(1).
والأصل فيها
أنها استغفار لأجل السقيا، يقول تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّاراً {10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً) (نوح)، كما ثبتت مشروعية الاستسقاء بالسُّنة النبوية الصحيحة.
ما دعاء صلاة الاستسقاء؟
كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا قحط الناس خرج إلى المصلى فاستسقى، فقد روى البخاري، ومسلم، عن
عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى،
فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ»، وروى البخاري عن شَرِيك بْن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ الْمِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ،
فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
يَدَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ
اسْقِنَا»، قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ،
وَلَا قَزَعَةً، وَلَا شَيْئًا، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ،
وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ،
فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ.
قَالَ: وَاللهِ
مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي
الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ،
فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ،
وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا
عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالْجِبَالِ، وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ،
وَالْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا
نَمْشِي فِي الشَّمْسِ».
وروى أبو داود
بسند حسنه الألباني عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: شَكَا
النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ
بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا
يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم، حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ صلى
الله عليه وسلم، وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ
جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ
عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ
أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا
أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ».
ثُمَّ رَفَعَ
يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ
حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ، وَهُوَ
رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ، ثُمَّ
أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ
السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكِنِّ ضَحِكَ صلى الله عليه
وسلم، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
لماذا شرع الاستسقاء؟
إن الإنسان إذا
نزلت به الكوارث، وأحدقت به المصائب فبعضها قد يستطيع إزالتها، وبعضها لا يستطيع
بأي وسيلة من الوسائل، ومن أكبر المصائب والكوارث الجدب المسبب عن انقطاع الغيث،
الذي هو حياة كل ذي روح وغذاؤه، ولا يستطيع الإنسان إنزاله أو الاستعاضة عنه،
وإنما يقدر على ذلك ويستطيعه رب العالمين، فشرع الشارع الحكيم سبحانه الاستسقاء،
طلباً للرحمة والإغاثة بإنزال المطر الذي هو حياة كل شيء ممن يملك ذلك، ويقدر
عليه، وهو الله جل جلاله(2).
والاستسقاء
بصلاة ركعتين وخطبة ودعاء(3).
وقت الاستسقاء
إذا كان
الاستسقاء بالدعاء فلا خلاف في أنه يكون في أي وقت، وإذا كان بالصلاة والدعاء، فقد
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنها تجوز في أي وقت عدا أوقات الكراهة(4).
ما يستحب فعله
قبل صلاة الاستسقاء
1- الموعظة: يعظ
الإمام الناس، ويأمرهم بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، وأداء الحقوق؛
ليكونوا أقرب إلى الإجابة، فإن المعاصي سبب الجدب، والطاعة سبب البركة، قال تعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:
96).
2- الصيام قبل
الاستسقاء: اتفقت المذاهب على الصيام، ولكنهم اختلفوا في مقداره، والخروج به إلى
الاستسقاء، لأن الصيام مظنة إجابة الدعاء، لما رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه
وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر..»، ولما فيه من كسر الشهوة، وحضور
القلب، والتذلل للرب سبحانه.
3- الصدقة قبل
الاستسقاء: اتفقت المذاهب على استحباب الصدقة قبل الاستسقاء، ولكنهم اختلفوا في
أمر الإمام بها، قال الشافعية، والحنابلة، والحنفية، وهو المعتمد عند المالكية:
يأمرهم الإمام بالصدقة في حدود طاقتهم، وقال بعض المالكية: لا يأمرهم بها، بل يترك
هذا للناس بدون أمر؛ لأنه أرجى للإجابة، حيث تكون صدقتهم بدافع من أنفسهم، لا بأمر
من الإمام.
4- آداب
شخصية: استحب الفقهاء آداباً يفعلها الناس قبل الاستسقاء، بعد أن يعدهم الإمام
يوما يخرجون فيه لها، وهي: التنظف بغسل وسواك؛ لأنها صلاة يسن لها الاجتماع
والخطبة، فشرع لها الغسل، كصلاة الجمعة، ويستحب أن يخرج متواضعاً خاشعاً متذللاً
متضرعاً، حتى يكون مظنة إجابة الدعاء(5).
صفة صلاة الاستسقاء؟
لا خلاف في أن
صلاة الاستسقاء ركعتان، ولا أذان لها ولا إقامة، بل ينادي الصلاة جامعة(6).
واختلف في صفتها
على رأيين:
الأول: تصلى
ركعتين يكبر في الأولى سبعاً، وخمساً في الثانية مثل صلاة العيد.
الثاني: تصلى
ركعتين كصلاة النافلة والتطوع.
واتفقت المذاهب
على الجهر بالقراءة في الاستسقاء؛ لأنها صلاة ذات خطبة، وكل صلاة لها خطبة
فالقراءة فيها تكون جهراً؛ لاجتماع الناس للسماع، ويقرأ بما شاء، ولكن الأفضل أن
يقرأ فيهما بما كان يقرأ في العيد، وقيل: يقرأ بسورتي «ق» و«نوح»، أو يقرأ بسورتي «الأعلى»
و«الغاشية»، أو بسورتي «الأعلى» و«الشمس».
ثم يخطب الإمام
خطبتين كخطبتي العيد بأركانهما وشروطهما وهيئاتهما، وقيل: يجوز أن تكون خطبة
واحدة، ويحثّ الناس على التوبة والاستغفار، ويدعوهم إلى الإحسان وردّ المظالم،
ويكثر من الدعاء والابتهال، ويُستحب أن يقلب الإمام رداءه أثناء الدعاء، تفاؤلًا
بتحوّل الحال من القحط إلى الخصب، ومن الشدة إلى الفرج(7).
المعاني الإيمانية والدعوية في صلاة الاستسقاء
1- تجديد
الإيمان: ففيها تذكيرٌ بأن المطر بيد الله وحده، لا سلطان فيه لمخلوق.
2- الدعوة إلى
التوبة: لأن الذنوب سبب لحرمان المطر، قال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن: 16).
3- إظهار
الافتقار إلى الله: يجتمع الناس متواضعين بثيابٍ بسيطة وهيئةٍ خاشعة، مستشعرين ذلّ
العبودية.
4- تربية
المجتمع على التضامن والإصلاح: إذ يُستحب أن يُسبق الاستسقاء بردّ المظالم والصلح
بين الناس، وإخراج الصدقات للفقراء.
اقرأ أيضاً:
- الكويت تستعد لإقامة صلاة الاستسقاء السبت المقبل
- خسوف القمر.. آية من آيات الله ودعوة للصلاة والتوبة
- صلاة الاستخارة.. كيفيتها وأهميتها ومتى تحتاجها؟
- صفة صلاة الاستخارة.. 6 خطوات
- 10 أخطاء شائغة في صلاة الاستخارة.. تجنبها
________________
(1) المغني: ابن
قدامة (2 / 283).
(2) الموسوعة
الفقهية الكويتية (3/ 306).
(3) المجموع:
للنووي (5 / 64).
(4) فتح القدير
(1 / 440).
(5) الفقه على
المذاهب الأربعة، (1/ 329).
(6) الدين
الخالص (5/ 139).
(7) الموسوعة
الفقهية الكويتية، (3/ 312).