تزكية أطفال المسلمين من خلال اللعب
تعد تزكية نفس الطفل من أهم أهداف
التربية الإسلامية، وعلى المربي استغلال الفرص والمواقف المختلفة في تشكيل شخصية
الطفل وتوجيه سلوكه، ويبرز اللعب كفرصة فعالة لتزكية الطفل بكل نواحي شخصيته، بما
يتناسب مع فطرته التي خلقه الله عليها، فكيف يمكن استثمار اللعب في غرس الفضائل
وبناء شخصية متوازنة للطفل؟
أولاً: مفهوم التزكية
وأهميتها للطفل:
التزكية في اللغة تعني الطهارة والنماء،
واصطلاحاً يقصد بها تطهير النفس من الصفات السيئة وتنميتها بالصفات الحسنة، قال
لله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ
مَن زَكَّاهَا) (الشمس: 9).
والتزكية لا تقتصر على الكبار فقط، كما يتصور البعض، بل تبدأ من الطفولة، وهنا تتجلى أهميتها حيث تتشكل المبادئ وتُغرس القيم، وهي بمثابة تربية شاملة تهدف إلى تهذيب سلوكه، وتقويم غرائزه، وترسيخ القيم الإيمانية، وتوجيه مشاعره وأفكاره نحو الخير، وهناك وسائل كثيرة لتزكية نفس الطفل، ولكن اللعب يعد من أسهل الأدوات التربوية لتحقيق هذا الهدف؛ لأنه أمر فطري ومحبب للنفوس.
ثانياً: أداة اللعب كتأصيل تربوي ونفسي:
1- تعزيز عمل المخ والوعي
بالذات:
تُشير أبحاث علم النفس إلى أهمية اللعب
الحر وغير الموجّه في تعزيز وظائف الدماغ والتحكم بالنفس، فقد وجدت دراسة لجامعة
هارفارد (2020)(1) أن الأطفال الذين يُتاح لهم اللعب المنتظم أكثر قدرة
على الوعي بالذات وفهم مشاعرهم؛ ما ينعكس على سلوكهم في المدرسة والمنزل، لأنه
يُنمّي بداخلهم مجموعة من القيم والصفات مثل:
- التحكم في الدوافع والانفعالات.
- الشعور بالمسؤولية والرحمة.
- المرونة الفكرية عند مواجهة مواقف
متغيرة.
- اتخاذ القرار الأخلاقي دون تدخل خارجي.
وذلك يرجع لأن اللعب يُتيح للطفل تجربة المشاعر المختلفة، والتفاعل معها في بيئة آمنة، فعندما يفوز أو يخسر، يفرح أو يغضب، يتعلم كيف يدير عاطفته، هذه التجربة المتكررة هي أساس ما يُعرف بالتنظيم الانفعالي، وهو قلب التزكية النفسية.
2- غرس القيم الأخلاقية
وتنمية الضمير:
في كل لعبة، هناك فرصة لتكوين معنى
أخلاقي، وتعلُّم سلوك سويّ، فعلى سبيل المثال:
- في اللعب الجماعي، يتعلم الطفل مفاهيم
التعاون، والإنصاف، والصبر على تناوب الدور، ويتدرّب على احترام القوانين.
- في اللعب التخيلي، يُجرب أدوارًا
حياتية فيسري في داخله الإحساس بالمسؤولية، ويتشكل ضميره الأخلاقي مبكرًا.
- في ألعاب التحدي، يُمارس ضبط النفس
وتقبل الخسارة، ويُدرَّب على المثابرة وعدم الانسحاب عند أول فشل.
كل ذلك يجعل من اللعب مدرسة نفسية عميقة،
تصقل الشخصية وتزرع القيم، بشرط أن يُمنح الطفل فيها مساحة الحرية، وفرصة الخطأ
والتعلم الذاتي، تقول د. ستيوارت براون، مؤسس معهد اللعب: «اللعب يعلّم الأطفال
دروس الحياة دون أن يشعروا، ويُنمّي بداخلهم الضمير قبل أن تفرضه القوانين»(2).
3- الصحة النفسية للطفل:
في عصر الشاشات والسرعة والتشتت الذهني،
أصبح اللعب أكثر من مجرد متعة؛ فهو أصبح علاجًا نفسيًا ووقائيًا ضد القلق
والاكتئاب والانطواء، فقد أثبتت دراسات علم الأعصاب، كما ورد في تقرير الأكاديمية
الأمريكية لطب الأطفال(3)، أن اللعب المنتظم يخفّض من معدلات
الكورتيزول (هرمون التوتر)، ويرفع من مستوى السيروتونين (هرمون السعادة).
فاللعب يساعد على تفريغ الضغوط المكبوتة
داخل الطفل، ويمنعه من اللجوء إلى سلوك عدواني أو انسحابي، وهو ما يجعل اللعب
عاملًا موازنًا للنمو العاطفي والذهني.
وهكذا يتضح أن اللعب ليس مضادًا للجدية،
بل هو الشرط الحقيقي لها، فالطفل الذي يلعب بحرية؛ يفكر بصفاء، ويتعلم بتركيز،
ويتعامل بمرونة نفسية.
ثالثاً: كيف نُفعّل اللعب
في تزكية النفس عمليًا؟
تفعيل اللعب ليكون وسيلة لتزكية النفس لا
يتم بعشوائية، بل يحتاج إلى وعي المربي وبصيرة منه ليجعل من كل لحظة لعب فرصة
لبناء النفس والترويح عنها في آن واحد، فمثلاً:
1- اللعب الذي يُذَكّر
بالله ويثبت العقيدة:
- جعل اللعب بوابة لذكر الله لا غفلة
عنه، كأن تُفتتح اللعبة بدعاء، أو يُختم الشوط بحمد.
- في الألعاب التمثيلية، يمكن أن يتقمص
الأب والطفل دور بائع ومشترٍ، ويذكر نفسه بمراقبة الله له في البيع والشراء،
والأمانة والصدق.. وغيرها.
- عند اللعب في الحدائق المفتوحة أو
الشرفة يمكن اختيار لعبة مثل التسابق على إيجاد أجمل زهرة، ثم بعدها يتم التحدث عن
إبداع الله في خلقه وتنوعها.
2- اللعب القائم على
القيم:
اختيار ألعاب تحمل في مضمونها قيمًا
أخلاقية وروحية، كألعاب التعاون مثل ألعاب تحتاج لفريق كامل، والمشاركة، وضبط
النفس؛ مثل كظم الغيظ عند الخسارة، أو حدوث خطأ من لاعب آخر، فكل موقف داخل اللعبة
يصبح مرآة لسلوك النفس، وفرصة للتقويم الفوري بلطفٍ دون أن يشعر الطفل بالتلقين أو
المحاسبة.
3- اللعب بوصفه انعكاسًا
داخليًا:
مراقبة المربي -من بعيد ودون تدخل- لنوع
الألعاب التي يختارها الطفل تلقائيًا، تساعده على فهم وتوجيه سلوكيات طفله فيما
بعد، فاللعب يعكس حالته النفسية أو القيم التي بدأت تتشكل داخله.
4- اللعب بوصفه تمرينًا
على المجاهدة:
اللعب مليء بالمواقف التي تُثير الإحباط
أو الغضب أو الفرح أو الرغبة في السيطرة أو الإقصاء أو الغيرة، فهنا تأتي لحظة
التزكية الحقيقية؛ حين يُدرَّب الطفل –بلطف– على إدارة مشاعره، واحترام الآخر،
والتسامح عند الفوز أو الخسارة، هذه اللحظات تُنمي مجاهدة النفس وتطور مهارات
الطفل.
5- اللعب بالإيحاء
التربوي:
توظيف اللعب الرمزي (مثل التمثيل أو
اللعب بالعرائس) لتجسيد مواقف تربوية؛ كصبر نبي، أو خلق كريم، أو صراع بين الخير
والشر، بحيث يعيش الطفل المعاني.
إن الطفل حين يعيش مشهدًا تربويًا من
خلال تمثيل أو لعبة، فإن هذا المشهد لا يغادر وجدانه بسهولة، بل يتحول إلى مرآة
داخلية يُراجع بها نفسه لاحقًا، هكذا يتحول اللعب إلى تربية عميقة، تأخذ طريقها
للنفس من أوسع الأبواب؛ باب الخيال.
إن اللعب أمر ترويحي عن النفس، وفي ذات الوقت أداة خفية تزكّي النفس دون أن تُرهقها، وتبني الوجدان بصدق، دون أن تصطدم بالمقاومة الداخلية للطفل، فيجب على كل مربٍّ أن يُحسن استغلال تلك الأداة ويستفيد منها الاستفادة المثلى.
______________________
(1)Harvard
University Center on the Developing Child 2020. Executive Function &
Self-Regulation.
(2) Brown,
Stuart. 2009. Play: How It Shapes the Brain, Opens the Imagination, and
Invigorates the Soul.
(3) The
Power of Play: A Pediatric Role in Enhancing Development in Young Children Free
, ( AAP, 2018).