«حماس» و«إسرائيل».. هدنة أم حرب إلى قيام الساعة؟

عاطف الجولاني

21 أغسطس 2025

367

حالة الرعب والذهول التي سيطرت على «الإسرائيليين» خلال الأيام الماضية لم يشهدها العدو الصهيوني منذ عدة عقود مضت، ولعل هذا ما دفع رئيس الدولة العبرية عايزر وايزمن إلى القول بأن «إسرائيل» كانت خلال تلك الأيام القليلة الماضية ساحة حرب حقيقية، فقد خسرت «إسرائيل» خلال عشرة أيام ما لم تخسره في بعض معاركها مع جيوش عربية جرارة، وأصبح كل "إسرائيلي" مهددًا ينتظر أن يأتيه الموت في كل لحظة من حيث لا يدري.

فخلال تسعة أيام فقط خسرت «إسرائيل» في الفترة الواقعة ما بين 25 فبراير وحتى 4 مارس الحالي ما يزيد على 60 قتيلًا و300 جريح، وإلى جانب هذه الخسارة الكبيرة التي تكبَّدتها «إسرائيل» في الجانب المادي، خسرت عنصر الأمن والاستقرار الذي خاضت حروبًا طاحنة من أجل تحقيقه.

وفي إحصائية أعدتها مصادر "إسرائيلية" أشارت إلى أن نحو 200 "إسرائيلي" قُتلوا خلال هجمات مسلحة شنها مجاهدون فلسطينيون منذ اتفاق أوسلو الذي وقَّعته «إسرائيل»، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في شهر سبتمبر «أيلول» 1993م، وهو عدد ضخم جدًّا مقارنة بالفترة التي سبقت توقيع الاتفاق، وقد علَّق أحد "الإسرائيليين" على ذلك بقوله: «إن الاتفاقات التي عقدتها قيادته مع الفلسطينيين جلبت "للإسرائيليين" العنف والقتل لا السلام والأمن»، وربما كانت هذه هي إحدى الرسائل التي أرادت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحركة الجهاد الإسلامي أن يوصلاها "للإسرائيليين" والعالم.

الضربات الاستشهادية العنيفة التي شنتها كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»- في قلب مدينة القدس، وتل أبيب، وعسقلان جعلت العالم أجمع يقف على قدم واحدة، ويستنفر طاقاته لحماية العملية السلمية الظالمة، والحيلولة دون تحطيمها.

ورغم توالي ردود الفعل المنددة والمستنكرة من دول العالم التي سارعت إلى شجب العمليات الاستشهادية ووصفها بالإرهاب، فإن كل ذلك لم يكن له أي تأثير يذكر على تصميم الاستشهاديين على مواصلة توجيه ضرباتهم في العمق "الإسرائيلي"، ضاربين عرض الحائط بكل التهديدات "الإسرائيلية" والتنديدات العربية والدولية.

«إسرائيل» تعلن الحرب الشاملة ضد «حماس»

ربما اكتشف رئيس الوزراء "الإسرائيلي" متأخرًا الخطأ الفادح الذي ارتكبه حين أصدر قراره بتصفية يحيى عياش -مهندس العمليات الاستشهادية «السابق» في كتائب عز الدين القسام- وقد أشار محلل "إسرائيلي" في صحيفة «هآرتس» "الإسرائيلية" في أعقاب العملية الاستشهادية الأولى في مدينة القدس في 25 فبراير «شباط» الماضي إلى أن اغتيال عياش هو «الحدث الذي فتح فتحة واسعة أمام العمليات الانتقامية التي وقعت»، وأضاف: «لو لم تخلق «إسرائيل» المبرر لما قامت حماس بأية عملية انتحار» على حد تعبيره.

وقد وجد بيريز نفسه في حالة تخبط إزاء ما شاهده من انفجارات متلاحقة هزت كيان «إسرائيل» والمنطقة، وفشلت كل ضغوطه على السلطة الفلسطينية في منع عمليات التفجير، وكعادتها في أعقاب كل عملية عسكرية سارعت السلطات "الإسرائيلية" إلى فرض الطوق الأمني حول الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن ذلك لم يجد نفعًا في الحيلولة دون تنفيذ عمليتين جديدتين بعد ستة أيام فقط رغم الإغلاق المفروض.

وفي أعقاب العملية الثانية في مدينة القدس في 3 مارس «آذار» والتي أوقعت 19 قتيلًا  وسبعة جرحى عقدت الحكومة "الإسرائيلية" جلسة طارئة أقرت في ختامها سلسلة إجراءات سياسية وأمنية شملت الإعلان بصورة واضحة عن بدء ما وصفته ب «حرب شاملة» ضد حركة حماس، كما قررت اتخاذ إجراءات صارمة ضد عائلات منفذي العمليات الاستشهادية بما في ذلك نسف بيوتهم، وطرد أقاربهم خارج الأراضي المحتلة، كما قررت الحكومة "الإسرائيلية" تعليق المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وإعادة النظر في مواصلة تطبيق إعادة الانتشار في مدينة الخليل، ودعت الدول العربية إلى اتخاذ إجراءات للحد من نشاط حركات المقاومة الإسلامية في أراضيها.

وإلى جانب ما سبق مارست الحكومة "الإسرائيلية" ضغوطًا شديدة على السلطة الفلسطينية لاتخاذ إجراءات صارمة ضد أعضاء وقادة حركة حماس، وطالبتها بتحطيم البنية التحتية للحركة في المساجد والكليات والجامعات والمؤسسات المختلفة، كما سلمت الحكومة "الإسرائيلية" للسلطة الفلسطينية قوائم بأسماء الذين تطالب باعتقالهم أو تسليمهم إليها، وفي وقت لاحق وفي أعقاب العملية الاستشهادية الرابعة في "تل أبيب" والتي أوقعت 13 قتيلًا ونحو 125 جريحًا في صفوف "الإسرائيليين" قررت الحكومة "الإسرائيلية" تشكيل وحدة خاصة لملاحقة وضرب ما أسمته بـ«الإرهاب» حتى داخل المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، والتي تنص اتفاقات أوسلو على أن المسؤولية الأمنية فيها للسلطة الفلسطينية.

السلطة الفلسطينية وجدت نفسها في أسوأ وضع تمر به منذ قيامها قبل عامين، حيث سارعت الحكومة "الإسرائيلية" إلى تحميلها مسؤولية العمليات الاستشهادية التي وقعت داخل المناطق الخاضعة للسلطة "الإسرائيلية"، ولأول مرة تحدث المسؤولون "الإسرائيليون"، وفي مقدمتهم بيريز بصورة علنية أمام وسائل الإعلام عن أنهم أمروا السلطة الفلسطينية بتنفيذ اعتقالات واسعة ضد أعضاء حركة «حماس».

وقد نقلت وسائل الإعلام تفاصيل ما دار بين رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات وبين رئيس هيئة أركان الجيش "الإسرائيلي" أمنون شاحاك خلال اللقاء الذي عُقِد بينهما عند حاجز إبريز بعد يوم من العملية الأولى في القدس، حيث خاطب شاحاك عرفات قائلًا: لم أحضر للحوار معك، وإنما لأعطيك مجموعة من الأوامر لتنفيذها.

وعلى إثر الضغوط التي مارستها الحكومة "الإسرائيلية" على السلطة الفلسطينية سارعت الأخيرة إلى شن حملات اعتقالات واسعة في صفوف حركة حماس طالت المئات منهم، كما أصدر رئيس السلطة -وبناءً على طلب من بيريز- قرارًا بحظر كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وبقية الأجنحة العسكرية التابعة لعدد من الفصائل الفلسطينية واعتبرها تنظيمات خارجة على القانون.

«حماس»: مصرون على مواصلة المقاومة

وعلى الرغم من ضراوة الحملة التي شنتها سلطات الاحتلال "الإسرائيلية" والسلطة الفلسطينية ضد حركة حماس، فإن الحركة قد أكدت إصرارها وتصميمها على مواصلة طريق الجهاد والمقاومة، وفي بيان أصدرته الحركة بعد يومين من تنفيذ عمليتي القدس وعسقلان في 25/ 2/ 1996م أكدت أن الهجمة الشرسة التي تتعرض لها لن تمنعها من مواصلة درب الجهاد والاستشهاد، مؤكدة أن اتهامها بممارسة الإرهاب ليس سوى جزء من هجمة تستهدف وجود الفلسطينيين كشعب وقوة.

وفي بيان آخر أصدرته الحركة في 29/ 2/ 1996م أكدت مجددًا أنها ترى في الجهاد منهجًا ثابتًا لتحرير الأرض من دنس المحتل، وأضافت «أما اللغة التي بيننا وبين العدو فهي لغة المقاومة والجهاد حتى تحرير أرضنا ومقدساتنا»، كما نفت أن تكون قد جرى بينها وبين "الإسرائيليين" أي حوار، وقالت: «إن الأحاديث التي يطلقها البعض حول وجود حوار بين حركة حماس والعدو الصهيوني إنما هي محض افتراء وعارية عن الصحة تمامًا، فالحركة لم تُجرِ أي حوارات مع العدو الصهيوني في داخل فلسطين أو خارجها».

مصادر «حماس»: لا وجود لأي نوع من المفاوضات بين «حماس» و«إسرائيل»

واتهمت الحركة سلطة الحكم الذاتي بالوقوف وراء هذه الإشاعات «بهدف التشويش على صورة الحركة الناصعة في أذهان الشعب الفلسطيني».

وكان مسؤول في السلطة الفلسطينية هو الطيب عبد الرحيم -عضو مجلس الحكم الذاتي الفلسطيني المنتخب- قد روَّج لوجود اتصالات وحوارات بين حركة «حماس» و«إسرائيل»، وزعم أن حركة «حماس» تسعى لطرح نفسها كبديل للتفاوض مع الحكومة الإسرائيلية، وقال: إن المبادرة التي طرحتها الحركة بعد عمليتي القدس وعسقلان تؤكد ذلك.

مصادر في حركة «حماس» أكدت لـ«المجتمع» أن الطيب عبد الرحيم والسلطة الفلسطينية لجئوا خلال الفترة الماضية وبعد العمليات الجريئة التي نفذتها الحركة إلى اختلاق الأكاذيب حول وجود حوارات بين «حماس» و«إسرائيل» وكذلك حول وجود خلافات وانشقاقات داخل حركة «حماس» تجاه مسألة استمرار العمل العسكري ومقاومة الاحتلال.

السلطة الفلسطينية تصدر بيانات مزورة باسم «حماس» وكتائب «القسام» لإظهار وجود انشقاق في صفوف «حماس».

وأضافت هذه المصادر أن السلطة الفلسطينية وفي سبيل تحقيق ذلك لجأت إلى إصدار بيانات مزورة نسبتها إلى كتائب القسام وإلى خلايا المهندس يحيى عياش، بهدف إحداث بلبلة في الأوساط الإعلامية، وأوضحت هذه المصادر أن مسؤولي السلطة قاموا باستدعاء عدد من رموز حركة حماس وكتائب القسام في قطاع غزة إثر عمليتي القدس وعسقلان، وطلبوا منهم إصدار بيانًا ينفون فيه مسؤوليتهم عن العمليتين حتى يتسنى للسلطة مواجهة الضغوط الإسرائيلية، وبعد أن رفض هؤلاء الرموز تلبية طلب السلطة قامت السلطة من جانبها بإصدار بيان نسبته إلى كتائب القسام ينفي مسؤولية «حماس» عن العمليتين.

وأضافت مصادر حماس لـ«المجتمع» أن السلطة الفلسطينية وتحديدًا أمين مجلس السلطة الطيب عبد الرحيم قامت بتزوير بيان آخر نسبته إلى خلايا المهندس يحيى عياش إثر الانفجار الثاني في مدينة القدس في 2/ 2/ 1996م، والتي أوقعت 19 قتيلًا، وزعم البيان المدسوس أن تلك العملية هي الأخيرة، وأعلن وقف العمليات العسكرية ضد الأهداف "الإسرائيلية" «من أجل إعطاء حكومة «إسرائيل» وقيادة حماس السياسية في الداخل فرصة للتوصل إلى هدنة عبر السلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك خلال الأشهر الثلاثة القادمة» على حد زعم البيان المدسوس، ويذكر أن عملية تل أبيب وقعت في اليوم التالي لهذا البيان.

وأكدت مصادر حماس أن السلطة أرادت عبر البيانات المدسوسة التي أصدرتها إظهار وجود تناقض في بيانات الحركة، ووجود أجنحة متصارعة داخلها، كما نفت هذه المصادر مزاعم السلطة بوجود حوار بين «حماس» و«إسرائيل» وأكدت أن حركة حماس التي عارضت بشدة بالقول والفعل الاتفاقات الهزيلة بين السلطة و«إسرائيل»، لا يمكن أن تنافس سلطة الحكم الذاتي على التفاوض مع الكيان الصهيوني.

وأضافت هذه المصادر أن المسؤولين "الإسرائيليين" حاولوا أكثر من مرة خلال العامين الماضيين فتح حوار غير مشروط مع حركة حماس، وأن الحركة رفضت ذلك بشدة وأوصدت الأبواب أمام كل تلك المحاولات.

وحول العرض الذي تقدمت به الحركة بعد عمليتي القدس وعسقلان، وأعلنت فيه استعدادها لوقف نشاطها العسكري ضد المدنيين "الإسرائيليين" مقابل وقف الإرهاب الصهيوني المنظم ضد حركة حماس وكتائب القسام، ووقف مظاهر الاعتداء والعدوان على المدنيين الفلسطينيين وإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، والشيخ صلاح شحادة، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، قالت مصادر حركة «حماس» إن هذا العرض الذي أطلق عليه البعض اسم «المبادرة» ليس الأول من نوعه الذي تطرحه حركة حماس، بل سبقه عروض مماثلة، مؤكدة أن هذا العرض لا يتضمن أي تنازل، كما اعتقد البعض، وأنه لا يعني تخلي الحركة عن نهجها الجهادي في مقاومة الاحتلال.

وأوضحت هذه المصادر أنها كانت قد طرحت في وقت سابق عبر بياناتها عرضًا بوقف استهداف المدنيين من كلا الجانبين، وأن "الإسرائيليين" لم يردوا في حينه على ذلك العرض. وأضافت أن العرض الجديد الذي تقدمت به الحركة مؤخرًا تضمن شروطًا إضافية غير تلك التي وردت في العرض السابق.

وأكدت مصادر «حماس» أنها تنظر للجهاد كخيار استراتيجي لمقاومة الاحتلال وطرده، وأنها لا يمكن أن تتراجع عن هذا الخيار رغم ضراوة الحملة الدولية التي تتعرض لها بسبب إصرارها على التمسك بطريق الجهاد والمقاومة، وعبَّرت هذه المصادر عن أسف الحركة وألمها الشديد من التشكيك الذي يصدر عن بعض الأوساط الإسلامية كلما طرحت الحركة عرضًا أو مبادرة سياسية، أو كلما مرت فترة هدأت فيها أعمالها الجهادية نتيجة ظروف قاهرة صعبة، وأكدت أن أية تحركات أو مواقف سياسية تقوم بها الحركة تصب في النهاية في المسار الجهادي الذي اختارته الحركة وتتحمل وحدها التبعات القاسية له.

وأضافت هذه المصادر أن الحركة تواجه الآن حملة دولية مركزة للقضاء عليها واجتثاثها، وأن الولايات المتحدة وقوى دولية أخرى تبذل جهودًا هائلة لضرب الحركة ومحاصرتها سياسيًّا وإعلاميًّا، وماليًّا، وتحاول تشويه صورتها وإبرازها كحركة إرهابية دموية تستهدف الأبرياء، وأن جهودًا إقليمية ودولية تبذل لتنسيق الخطوات في مواجهة الحركة والعمل ضدها.

وقالت هذه المصادر: إن الحملة الإقليمية والدولية ضد الحركة التي تقف وحيدة في المواجهة تفرض على كل القوى والشعوب الحريصة على مقدسات الأمة في القدس والأقصى، ودعم ومساندة الحركة التي تقف رأس حربة في مواجهة الاحتلال الصهيوني والمخططات التي تبذل لتصفية قضية فلسطين وبيعها، وحددت مصادر حماس الخطوات المطلوبة من القوى والحركات والشعوب الإسلامية لدعم جهاد الحركة في مواجهة الاحتلال في النقاط التالية:

1- ضرورة قيام القوى والحركات والتجمعات الإسلامية بالإعلان بوضوح وعبر جميع الوسائل الممكنة بالتعبير عن تضامنها مع جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال.

2- تقديم الدعم السياسي والإعلامي والمالي للقوى المجاهدة في فلسطين، والتي تعاني من حصار شديد في هذه الجوانب بهدف الضغط عليها وصرفها عن مسارها.

3- ضرورة مسارعة علماء الأمة ومفكريها إلى مساندة القوى المجاهدة في فلسطين من خلال مواجهة محاولات تشويه جهاد الشعب الفلسطيني والتصدي للفتاوى المشبوهة، والمزاعم المضللة التي تصور هذا الجهاد على أنه إرهاب وانتحار، واستهداف للأبرياء.

انعكاسات العمليات الاستشهادية ودلالاتها

يتفق المراقبون على أن العمليات الاستشهادية الأخيرة التي هزت أركان المجتمع "الإسرائيلي"، وأحدثت فيه تصدعات كبيرة قد خلطت الكثير من الأوراق السياسية في المنطقة، بل إن بعضهم ذهب إلى القول: إن هذه العمليات شكلت انعطافة حادة في مسار الأحداث في المنطقة، ولم تقتصر آثارها على الوضع في الساحة الفلسطينية و"الإسرائيلية".

فعلى صعيد العملية السلمية في المنطقة تعرضت هذه العملية لهزة عنيفة على مختلف المسارات ربما تكون الأخطر من نوعها منذ انطلاقتها في مدريد، وقد وصف أحد المراقبين العملية السلمية في المنطقة في أعقاب التفجيرات بأنها «أصبحت في مهب الريح» وقد انطلقت الأصوات في كل مكان تحذر من الخطر الذي يتهدد العملية السلمية التي كادت تنهار.

الولايات المتحدة التي تبنت طوال السنوات الماضية دعم عملية التسوية في المنطقة، وضمان مواصلتها واستمرارها سارعت إلى الدعوة لعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي الأمريكي من أجل بحث انعكاسات التفجيرات على مستقبل العملية السلمية، كما قطع وزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر زيارته لترينيداد وعاد إلى الولايات المتحدة لتدارس الأوضاع في المنطقة.

وعلى الجانب "الإسرائيلي" تصاعدت الأصوات المنادية بوقف العملية السلمية التي بات الجمهور "الإسرائيلي" مقتنعًا بأنها لم تحقق له الأمن والاستقرار، وإن وفرت له الأرض والسيطرة، وقد هددت الحكومة "الإسرائيلية" بوقف المفاوضات مع الفلسطينيين إذا لم تتوقف الأعمال المسلحة ضدها، وإذا لم تقم السلطة الفلسطينية بضرب حركة حماس، وقال نائب وزير الخارجية "الإسرائيلي" إيلي دايان: «إذا ما استمرت الأعمال الإرهابية، فإن عملية السلام ستنهار»، وقد علقت الحكومة "الإسرائيلية" خلال الأسبوع الماضي المفاوضات مع الجانب السوري في أعقاب عملية التفجير، وقالت إن الأجواء لا تسمح بعقد الاجتماعات في ظل حالة العنف السائدة، وإذا كانت الضغوط الدولية الداعمة لاستمرار العملية السلمية ستترك فرصة لإنقاذ هذه العملية من السقوط والانهيار، فإن الضربة التي وجهتها حركة حماس عبر عملياتها الاستشهادية لفرص رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز بالفوز في الانتخابات القادمة كانت قاضية ولم تترك له أي آمال ولو ضعيفة بتجاوز المأزق الحاد الذي وجد نفسه فيه إلا إذا حدثت معجزة غير متوقعة.

ويرى مراقبون "إسرائيليون" وغربيون أن بيريز وقع ضحية لحساباته وتقديراته الخاطئة التي يتحمل وحده مسؤوليتها، ويتساءل المراقبون: هل كان بيريز بحاجة إلى ورقة اغتيال عياش لتعزيز فرصه الانتخابية؟ وهل قدَّر قبل اتخاذ هذا القرار ردة الفعل المتوقعة من حركة حماس إزاء اغتيال واحد من أعظم أبطالها ورموزها المجاهدة؟

استطلاعات الرأي "الإسرائيلية" تظهر تقدم اليمين "الإسرائيلي" على حساب حزب العمل الذي لم يعد مقنعًا للمواطن "الإسرائيلي" الذي تساوره الكثير من الشكوك بقدرة بيريز على توفير الأمن والاستقرار له، وقد نجح اليمين "الإسرائيلي" في استثمار عمليات حماس الأخيرة بصورة جيدة لتعزيز موقعه السياسي ولكنه في نفس الوقت يدرك حجم المأزق الذي سيواجهه في التعامل مع حركة حماس في حال وصوله للحكم.

أما بالنسبة لتأثير العمليات الأخيرة على حركة حماس فقد أشارت أوساط مُقَرَّبة من الحركة إلى أن الحركة تدرك حجم التحديات التي تستهدفها بعد عملياتها الأخيرة، ولكنها تدرك في نفس الوقت التأثير الإيجابي لهذه العمليات على القضية الفلسطينية والصراع مع العدو الصهيوني، وكذلك على صورتها في أوساط الشعب الفلسطيني والشعوب العربية و"الإسرائيلية.

فعمليات حماس الأخيرة التي أوجعت الكيان الصهيوني وأصابته بحالة من الهستيريا كرست لدى تلك الأوساط أن هذه الحركة هي الوحيدة التي تملك الرد على القمع "الإسرائيلي" والجرائم "الإسرائيلية" بحق الفلسطينيين، وأنها الجهة الوحيدة التي استطاعت إدخال الرعب داخل كل بيت في «إسرائيل»، بل داخل قلب كل "إسرائيلي".

ومن الناحية السياسية باتت حماس بعملياتها النوعية قادرة على تهديد وزعزعة الأمن "الإسرائيلي"، وبالتالي التأثير على مجمل الأوضاع في المنطقة، وهذا ما سيدفع جميع الأطراف «السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، والقوى الإقليمية والدولية» إلى أخذ وزنها وقدرتها على التأثير بالحسبان.

الرئيس السابق لجهاز المخابرات "الإسرائيلي" «الشاباك» كرمي غيلون وصف عمليات حماس الأخيرة بأنها عمل محنك جدًّا، وأضاف «ولا أعتقد بأن شخصًا جادًا يتوقع تصفية العنف بعد اختفاء المهندس -أي عياش- عن الخارطة، لقد هيَّأ المهندس تلاميذه... ويوجد إلى جانب المهندس أشخاص آخرون سيستمرون بأعمال العنف، وأعتقد بأن لديه تلاميذ آخرين».

«كتائب عز الدين القسام» قادرة على تحويل المدن "الإسرائيلية" إلى مدن أشباح

أما الرئيس الحالي للشاباك «عامي إيالون» فصرح للإذاعة "الإسرائيلية" في أعقاب العمليات الاستشهادية الأربع أن كتائب عز الدين القسام تتمتع بمستوى عالٍ من التنظيم، وأنها قادرة على تحويل المدن الإسرائيلية إلى مدن أشباح، وأضاف أن لدى هذه الكتائب احتياطيًّا يضم المئات من الشبان الذين يبدون استعدادهم للتحول إلى قنابل بشرية.

لقد نسفت عمليات التفجير الأخيرة جميع دعاوى التعايش بين "الإسرائيليين" المحتلين وبين الفلسطينيين والعرب، كما أكدت أن الاتفاقات الظالمة لا يمكنها أن تنهي الصراع أو تلغي الحقوق، وأن توقيع فئة من الشعب الفلسطيني على تضييع هذه الحقوق لا يلزم بقية الشعب بالرضوخ لشروط تلك الاتفاقات الهزيلة، كذلك أظهرت تلك العمليات فشل جميع الإجراءات والاحتياطات الأمنية التي اتخذتها السلطة "الإسرائيلية"، وفي مقدمتها سياسة الطوق الأمني.

وباختصار، فإن أول نتيجة يمكن استخلاصها من أحداث الأسبوعين الماضيين هي أن ملف القضية الفلسطينية ما زال مفتوحًا على مصراعيه، ولن يغلق ما دام هناك مجاهدون يؤمنون بحقهم وعدالة قضيتهم(1).






____________________

(1) نُشر بالعدد (1191)، 22 شوال 1416هـ/ 12 مارس 1996م، ص22.  

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة