لماذا لا يرتضي الإنسان تشريع الإنسان؟!

لا تستقيم حركة الإنسان في الحياة إلا بمرجعية واضحة تحدد منطلقه وغايته، وترسم معالم الطريق بينهما، ولذلك لا تكون المرجعية حيّة التي تنبض في واقع صاحبها حتى تُمِدّه بتصور شامل للوجود، يربط بين العلم والعمل، وبين المرجعية الربانية التي تجعل مناط كرامة الإنسان في عبوديته لله، والمرجعيات الوضعية التي ترفعه إلى مقام السيد المطلق، بون شاسع في المنطلق والمصير، بل وتعارض جذري لا يلتقيان إلا في ظواهر شكلية تخفي اختلافًا جوهريًا، ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة بناء الوعي بالمرجعية الأصيلة التي تحفظ اتساق التصور وسلامة المسار، وتمنع تمزق الحياة بين رقع متنافرة لا يجمعها خيط واحد.

وشتان في مسالك الحياة بين من يعلم أنه مهما خُدِم فهو خادم بدوره، وأنه سيّد مضاف ومالك مجازيّ مهما اتسعت حدود سلطانه، وأنه لم يُخلَق بذاته ولا لذاته؛ ومن يقتنع أنه سيد حقيقي ومخدوم لذاته وقائم بذاته، ومهما وقع تماس بين التصورين عند تقاطعات ظاهرية أو تشابهات بادية، يظل المنطلق والمنتهى مختلفين، بل متعاكسين.

ولعلّ هذا يبيّن سِرّ الارتباط الطردي بين الدعوة إلى أن تكون للإنسان حرية التشريع والتمرد على شرع الله تعالى، بل وعلى مبدأ الألوهية أصلًا؛ لأنه لا يجتمع شرعان من مصدرين ليسا نِدَّيْن بحال (خالق ومخلوق)، وليتعايشا معًا لا بد لأحدهما أن ينضبط في ركاب الآخر، ولا يكون الانضباط الحقّ إلا من الأدنى بالأعلى، وغير ذلك باطل، فمن لم يتقبّل مخلوقيته ورتبته الأدنى، فهو بالضرورة يُعلِن الاستعلاء ويطالب ضِمنًا بمساواة السيد بالعبد والخالق بالمخلوق، بدءًا بحق التشريع، واستمرارًا في سلسال من النديّة يصل لحدّ إنكار الألوهية مطلقًا!

ويشهد تاريخ تمرد البشر على مختلف القوانين والتشريعات الوضعية –ولو كانت تحت مسمّى دين ما- أن جوهر الإنسان غير مُعَدٍّ ليطيق تشريع نِدّ له عليه، ولا تطيب نفسٌ سَوِيَّة بتسلّط نفسٍ مثلِها عليها بالحكم والتشريع والولاية، إلا أن يكون ذلك بإملاء من سلطان أعلى من سلطان البشر، بل من غير جنسه، وتأمل كيف كانت السلطة السياسية الأوروبية في العصور الوسطى تستمد نفوذها وتبسط هيبتها على النفوس من وثاقة اتصالها بالكنيسة وزعمها أنها منتخبة سماويًّا وأن الحاكم ظل الإله في الأرض(1).

وتتخذ المنازعات الحقوقية للسلطة الحاكمة صبغة التمرد والثورة عادة، لأنها من بشر ضِدّ بشر، أي أنك تتطالب بشرًا مثلك أن يمنحك ما يمارسه هو حقًا أصيلًا، ففيمَ استأثر به دونك وعلا به عليك وهو بشر مثلك؟! (كنزاع العبودية بين السود والبيض)، وفيم قرّر وشرَّع بالنيابة عن فئة وهو لا يحيط بحقيقة وضعها؟! (كالنزاع بين النسوية والذكورية)، ويظنون أنهم حلّوا جذور ذلك الإشكال الإنساني الوجودي بالمخدر الوهمي المُسمّى الديموقراطية، حيث الكل مشارك في حُكم الكل!

ويضاف لآفات تشريع البشر للبشر أنه لا ضمان للامتثال العميم به حقًا، ولا سلطان على مخالفيه أجمعين، ذلك أن عين القانون حتمًا لا تحيط بكل معاكسيه، ولا يتأتى لشرع أن يسود مجتمعًا حقيقة إلا أن يسود نفوس أهله أولًا، فينشئ فيهم الرادع الداخلي والوازع الفردي بتعبير العصر، أو التقوى بتعبير الشرع.

لذلك لا بد لكل سائر في الحياة من تحديد المنظور الذي ينظر منه للوجود ككل، ابتداء وانتهاء، قبل الانفتاح والأخذ من اليمين والشمال على طول الطريق، فإمّا التصور الشرعيّ الحقّ، فوقتها لا نخترع التصورات من عند أنفسنا اختراعًا، وإمّا مختلف التصورات الوضعية والفلسفات الوجودية التي ابتدعها البشر، ووقتها لا بد سنقع في تعارضات حال التطبيق؛ لأنه ليس من شأن البشر ولا طاقاتهم الوصول لتصور وجودي، محيط شامل مستقر صامد، على اختلاف الأزمنة والنفوس، وسنقع من جهة أخرى في تعارض مع ذواتنا، التي تدّعي أنه لا إله إلا الله، ثم لا يقوم من معاني التوحيد في نَفسِها ما يملأ عينها لتنظر للوجود بنور الله تعالى وترجع إليه في مرجعيتها!

خذ مثلًا نظام الحقوق في التشريع الإنساني، تجد المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تحفل بنصوص الحقوق المطلقة للإنسان من حيث هو إنسان، فلا يباح –نظريًّا على الأقل- المَساس بها أو التفاوت فيها بين البشر، ولا يفوت نابِهًا مدى ذبذبة التطبيق الواقعي لذلك!

وأما التصور الشرعي فيبدأ من مفهوم الحق لغة وشرعًا، وهو النّصيب الواجب لفرد أو جماعة، فمِن أين يمكن لمخلوق أن يستوجب حقًّا من بين المخلوقات الأخرى أو دونها أو عليها؟ ومن المُخَوّل أن يُحقّ بين المخلوقات حقوقًا بحسبها؟ الجواب في الحالين هو: الله تعالى، الخالق المالك الحقّ، فالأشياء والكائنات لا حقّ لها إلا ما قرّره صانعها جلّ وعلا، والله تعالى هو الحق الذي منه يكون توزيع النصيب الحقّ وتقرير درجته واجبًا كان أو مندوبًا، وبهذا المنطلق الاعتقادي تفهم وجهًا من وجوه منطق الشارع في أنك لا تقتل مخلوقًا من مخلوقات الله تعالى ولا تؤذيه حتى تعلم حكم الله تعالى فيه، ولا تُعذِّب أو تحرق بالنار، وللذبح والصيد هيئة شرعية..، إلخ،  فكل هذه الأحكام والضوابط مُنطلقها أنّ الخلق خلق الله تعالى، والسيادة سيادته تعالى، فلا حركة تتمّ ولا سلطان يمضي، ولا حق يُمنح أو يُمنع، ولا حياة تُصان أو تُهدَر، إلا وفق حكمه سبحانه في ملكوته.

ومن ثم، لا وجود في التصور الشرعي لما يسمّى حقوقًا مُسَلَّمًا بها ذاتيًّا، بل كل حق منحته الشريعة في سياق لأحد هو هبة لا فضل للإنسان ذاتيًّا فيها، وحتى حين يقال إن طرفًا استحقها لإيفائه بحق في المقابل، كما فيما يستحقه الزوجان من بعضهما بموجب عقد النكاح مثلًا، يظل الإحقاق كله من وضع الشارع ولولا وضعه ما أُحِقّ، وأما ما لم يُعْطَ فلا يسمّى حقًّا أصلًا، لأن في تسميته بـ الحق الممنوع ما يوحي بنزع ملك من مالك كان يستحق أن يتملكه، فكيف ولم يكن ثمة ملك ابتداء؟

وتأمل كيف تبدأ المواثيق الوضعية بالإثبات: لكل إنسان من حيث هو إنسان الحق في الحرية والمساواة والحياة الكريمة وغيرها، معتبرة الإنسان هو المركز وهذه الحقوق مكفولة له ذاتيًّا، أما التوحيد فيبدأ وينبني على النفي: لا إله الله إلا الله، ومن مقتضيات نفي الألوهية عن كل ما خلا الله تعالى أنه لا حق لغير الله تعالى أن يُحقّ حقًّا ابتداء، فالأمر كله إليه يعطي ويمنع كيف يشاء ولا يُساءَل، ومن ثم لا حق لمخلوق إلا ما أحقّه الله تعالى، وكل حق جعله الله تعالى لمخلوق في سياق فهو منّة الله تعالى عليه، وليس كسبًا منه ولا استحقاقًا، وإلا فالأصل أنه ليس لمخلوق من الأمر شيء.

تأمل –مثلًا آخر- حقّ حِفظِ النفس الذي يُستشهد به بوصفه مطابقًا للمراد من قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)؛ أي تعريض النفس للموت أو القتل، وليس الأمر كذلك، فتعريف إهلاك النفس في الإسلام يكون بوضعها في غير ما أراد منها خالقها فتكون عاقبتها الخسران، وأيّ موضع أراده منها أو بها خالقها فليس هلاكًا لها، وإن كان فيه حَتْفُها (موتها)، لأن النفس البشرية مَصُونَة بصونِ أمر الله تعالى، محفوظة بخدمتها له، لا أنها بذاتها مُعَدَّة لتُغَلَّف وتُعَلَّبَ!

ثم إذا جئنا لحق حفظ المال –مثلًا آخر- نجد في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «مَا خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ (أي الزكاة) مَالًا إِلَّا أَهْلَكَتْهُ» (رواه البيهقي)، فيظن الظانُّ أنّ الإهلاك يعني: الزكاة تأكل من مال الفرد فتُفنيه على المدى! فإذا طالعتَ شرحًا من شروح أهل العلم بالشرع والعربية، وجدت أنّ الحديث حَضٌّ عَلَى تَعْجِيلِ الزّكاة متى وَجَبت، قبل أَنْ تختلط ببقية المال بعد وُجُوبها فِيهِ، فتُسَوّل نفس صاحبها له اختلاس شيء منها، فيكون في ذلك هَلَكته، فتأمل البون الشاسع بين تصوُّرَيْ الهلاك!

وبهذا يتضح سبب تخبط كثير من المسلمين حين يتأثرون بالتصور البشري المبتدع الذي يفترض من عند نفسه مجموعة من الحقوق فينصّبها أصلًا مُستحقًّا لكل إنسان من حيث هو إنسان أولًا، ويرجعون على التصور الشرعي القائم على معاملة الإنسان من حيث هو عبد مخلوق أولًا، فيستاؤون مما استقر في الشرع بل وفي فطرة الوجود من سنن التفاضل وتفاوت درجات ومراتب وأنواع الحقوق والواجبات والمثوبات، سواء بين الرجال والنساء أو غيرهما من أنواع المقارنات بين الخلائق.

ومن أسف أنه عندما نتكلم عن إنشاء مرجعية تَصِحّ بها حركة المسلم في الوجود وتنضبط بوصلة حياته، ينحصر تعريف موارد تلك المرجعية في علوم الشرع، ثم تُحَجَّر علوم الشرع في علم الفقه فحسب، ثم يُختَزل الفقه في أبواب العبادات الكبرى فقط، وبذلك يتمّ للمسلمين فهم إسلامهم وتستقيم حياتهم به! والحق أنّ موارد ومصادر إنشاء مرجعية راسخة أكثر من ذلك، إذا كنا نتكلم عن علم حَيّ يتعلمه أحياء ليخوضوا به الحياة، وليس عن معلومات تُخزّن في ثلاجات الأذهان أو تُرَفّف على قوائم الإنجاز.

ومن هنا كان سبب التخبط في تصوراتنا الوجودية وتشتت حركتنا من بعد، هو عدم رسوخنا في مرجعيتنا الأصيلة التي نعلن الإيمان بها، وإقدامنا في ذات الوقت على الاستقبال من شتى المرجعيات بترقيعات لا انسجام بينها، فحالنا كما عبر الشاعر: 

نُرَقِّعُ دُنيانا بِتَمزيقِ دينِنا          فَلا دينُنا يَبقى وَلا ما نُرَقِّعُ





_______________________

(1)  https://www.historiadahistoriografia.com.br/revista/article/download/1499/839/6030

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة