ربانية التعليم

إن «ربانية التعليم» أحد أهم المفاهيم
التربوية في عملية التدريس عمومًا، وفي مجال التعليم والتربية الدعوية بشكل خاص،
ويعني هذا المفهوم أن عملية التعليم يجب أن تكون بحكمة، وتتضمن التدرج في تدريس
صلب العلم قبل فروعه، ولا يقوم بهذا العمل إلا الفقهاء الحكماء، والمربون الوعاة.
وربانية التعليم لا تتم بتبليغ الفقه
المجرد فقط، وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة، ووفق أفضلها أيضًا، ومنها: إعطاء صغار
العلم قبل كباره، وقد أخذ هذا المعنى التربوي اسمه من أحد معانيه الخاصة الواردة
في قول ابن عباس رضي الله عنه كما في كتاب العلم من صحيح البخاري: «كونوا ربانيين
حكماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي بصغار العلم قبل كباره» وصفة الربانية قد
تكون نسبة إلى «الرب عز وجل»، أو إلى «التربية» وإطلاقها على هذا المفهوم التربوي
من باب إطلاق الخاص على العام.
وقد سبق الإسلام بهذا الإدراك الواعي
إحدى أهم مسائل وأسس التربية المعاصرة.
ألا ترى أن المناهج في المراحل الدراسية
المتعددة يسبق بعضها بعضًا، والمساقات الجامعية ينبني بعضها على بعض، ولا يسبق
تدريس بعض الأجزاء أجزاء أخرى! فكل من ترتبط أجزاؤه وفق نسق منطقي، والعلم،
بشموليته، تنسق فنونه بعضها ببعض، بحيث لا يتقدم المبهم الدقيق على الواضح السهل،
ولا النتيجة على المقدمة، ولا الأهم على المهم، ولا يتقدم صعب على سهل، وغير ذلك.
وقد أوضح ابن حجر شمولية معنى صغار العلم
وكباره فقال: «والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها وقيل:
يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده»(1).
إن الذي يحدو إلى توضيح هذا المعني
التربوي في مجال العمل الإسلامي الدعوى -رغم معرفته في عالم التدريس والتربية
المنهجية- هو ما يظهر أحيانا من محاولة بعض الدعاة والمربين أو الخطباء تزويد
الناشئة أو من هم دون المستويات الملائمة بكمية هائلة من المعلومات الشرعية أو
الدعوية، أو اختيار ما لا يناسبهم من ناحية المعاني، وقد يكون الأمر في غالب
الأحوال رغبة المربين بالحصول السريع على طبقة متقدمة من الدعاة، أو تبليغ أكبر
كمية من المعلومات بأقصر الطرق، وقد تكون -في أحيان قليلة كما نرجو- بسبب حب
المربي لنوع من الوجاهة والرئاسة، فيحب الظهور بمظهر العالم المتمكن، أو لأجل
مباهاة الأقران، فيسارع إلى تبليغ المعلومات الوافرة والمتقدمة.
كما أن الناشئة أو طبقات الدعاة المختلفة
هي الأخرى تتطلع إلى الاستزادة من كثرة المعلومات والتشوف إليها دون الاستفادة
العميقة منها، أو دون امتلاك الاستعداد الكافي لهضمها وإدراكها وتشوفهم -يتجاوز
العلوم الأساسية- لمعرفة غيرها من شوارد المعرفة أو خصوصيات المسائل وقد يكون
الدافع لهؤلاء -في بعض الأحيان- إخلاصهم للدعوة ومحاولة الارتقاء السريع بمستواهم،
كما قد يكون أيضًا -في أحيان أخرى- محاولة منهم للاستشراف الشخصي للتصدر، أو حبًا
في الاستطلاع الفكري، أو طمعًا في التدخل بما لا يعنيه من أجل إشباع غريزة التطلع.
مبررات ربانية التعليم
قبل الشروع بالشرح التفصيلي لمسائل
ربانية التعليم، نوضح أهم مبررات هذا المفهوم: من أجل عدم الوقوع في المفسدة لقصر
الفهم، وقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن هدم الكعبة ثم بنائها حتى لا تظن
قريش أنه بناها لينفرد بالفخر عليهم، فترك المصلحة خوفًا من الوقوع في المفسدة.
عدم إضاعة العلم
إذ إن كل من له أوائل تقود إلى أواخره،
ولهذا فلا بد من أخذ الأوائل قبل الأواخر، والفروع قبل الأصول، وذلك في العلم
الواحد، والفن الواحد، إذا ما كانت كل من الفروع والأصول على مستوى واحد من صعوبة
الفهم، وعلى درجة واحدة من الأهمية أما عكس العملية فيقود إلى إضاعة العلم.
عدم التنفير من العلم والتخبط به
ولهذا المعنى أشار الغزالي واعتبرها من
وظائف المربي والمعلم، فحدد ذلك بقوله: «.. أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه فلا
يلقي إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره، أو يخبط عليه عقله.
ولذلك قيل: كِل لكل عبد بمعيار عقله، وزن
له بميزان فهمه حتى تسلم منه وينتفع بك وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار»(2).
إذ إن طالب العلم إذا ما أخذ علمًا لا
يستوعبه، أو أن حدود تجاربه الحيوية وطبيعته النفسية لا تستطيع إدراكه فإنه يودي
به إلى عدم توازنه بل إلى انحرافه، ولذلك فإن الفلسفة والمناظرات الكلامية أو بعض
أمور المنطق قادت بعض طلبة العلم إلى الشطط، بل إلى الانحراف عندما لم يتم بناؤهم
الفكري ولم يستكملوا علم الشرع، كما حصل لأمثال ابن سينا وابن رشد، مما اضطر بعض
العلماء -لوجود هذه الظاهرة- إلى تحريم دراسة المنطق -كابن الصلاح وغيره- بينما
صار المنطق والكلام سلاحًا ضد أعداء الإسلام بيد جهابذة العلماء -كابن تيمية
والغزالي- رحمهما الله تعالى، ولذلك فقد يكون في معرفة القليل من الجاهلية انحراف
أو ضلال، وفي معرفة الكثير منها -عند فهم القواعد والأصول- مزيد إيمان ويقين.
عدم الوقوع في الترف الفكري
إذ إن تعلم المبتدئ جملة من العلوم التي
لا يعمل بها، ولا يستفاد منها، تجعل منه شخصًا نظريًا، فتؤدي الظاهرة عند توسعها
إلى عيب كبير في صفوف الدعاة، إذ يتحول الداعية عندئذ إلى أشبه بباحث نظري يبحث في
الكتب وحسب، فيفلسف الأحداث دون استيعاب، وبالتالي يحصل الفتور في العمل، والضعف
في الإيمان، وتصبح بضاعته مجموعة من الأحاديث النظرية والمجادلات، وتكون متعته في
المباحث النظرية والمطالعة المجردة، بل قد يتحول الداعية -كما تشهد التجارب- إلى
كاتب يبرر الانحراف، ويفلسف الأخطاء، ويدافع عن الفتن، وينقد العمل الجاد، بل وقد
يكبر الأمر الصغير، ويهون الشأن الكبير، وكل ذلك لأنه أسير تأملاته النظرية،
وثقافته غير المتوازنة.
الأمان من الخطأ
فإن كثرة الحديث تورد كثرة الخطأ
والالتباس، وفي القلة أمان من ذلك «وكثرة الكلام ينسى بعضه بعضًا» وقد قالت العرب
«من كثر كلامه كثر سقطه» كما أورد مسلم في مقدمة صحيحه، قول الرسول صلى الله عليه
وسلم: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».
الابتداع في الدين
ما دام عدم الأخذ بهذا المفهوم مما نهى
عنه الشارع، فإن عدم الأخذ به من الابتداع في الدين لمخالفته الهدي النبوي، وقد
ذكر ذلك الشاطبي ضمن أنواع الابتداع فقال:
«.. ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا
تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، مسامعها إما أن
يفهمها على غير وجهها، وهو الغالب، وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، والعمل
بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئًا، وهو أسلم، ولكن المتحدث لم يعط الحكمة حقها من
الصون، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله»(3).
انفضاض الناس
إن الإكثار من الحديث، وما قد يجره من ملل على السامع يجعل الناس تاركين للعلم وراءهم وبالتالي يفقد العالم هيبته.
والعلم كعروض التجارة، تزداد الرغبة فيها عند
القلة، وليس المقصود حجر الناس عن العلم، وإنما من أجل زيادة حرصهم عليه، حتى لا
يكون من كثرته وإشاعته تزهيد الناس فيه، وابتعادهم عنه.
وفي حكمة لقمان قوله: «إن العالِم الحكيم
يدعو الناس إلى علمه بالصمت والوقار، وإن العالِم الأخرق يطرد الناس عن علمه
بالهذر والإكثار»(4).
آفاق الربانية
وحتى يصبح مفهوم الربانية واضحًا لا بد
من التوسع في ذكر بعض آفاق هذا المفهوم، وما قد يتضمنه من تقديم بعض العلوم على
بعض، أو أجزاء فن ما دون أجزائه الأخرى، أو تقديم خاصية قبل غيرها، وما قد يرتبط
بتدريس العلم وتعليم المعرفة من أمور ملازمة.
ومن هذه الآفاق:
1- الجزئيات قبل الكليات:
والمقصود بهذا ما ورد في كتب الفقه من
مسائل يطالب المكلف بفعلها أو تركها إيجابا أو استحبابًا، وقد أوردت الشريعة أدلة
تلك المسائل، ثم جاء العلماء بعد ذلك واستنبطوا من هذه الجزئيات مجموعة قواعد كلية
قد تتخلف آحاد الجزئيات عنها وصارت معرفة هذه الكليات طريقًا لضبط الجزئيات،
ولكنها تظل غير صالحة لقيام التكليف عليها فالمسلم مكلف بفروع الشريعة وهي التي
سيحاسب عليها في الآخرة ومعرفتها إذن لا بد منها للمكلفين ابتداء، أما الكليات فلا
بد للعالم من إدراكها وفهمها بعد فهم الجزئيات التي قادت إلى التقعيد كي يمكن له
التدرب على الاستنباط والقياس، ثم الاجتهاد في الفروع المستحدثة.
ونضرب مثلًا على هذا المنهج أيضًا بأصول
الفقه الذي دون كعلم تالٍ للفقه، فالفقه الحنفي على وجه الخصوص بُني جملة وتفصيلًا
على فروع الفقه، فأصبح رغم أصوليته تابعًا للفقه، وأصول المذاهب الثلاثة الأخرى
رغم توسعها وفقًا لمناهج علم الكلام إلا أنها لم تنضج إلا بواسطة تطبيق الفروع
الفقهية المستندة على الأدلة، وبقى الأصول علمًا لا بد منه للمجتهدين بينما الفقه
علم سائر المكلفين وقواعد الفقه ما هي إلا مثل آخر إذ إنه لم يتبلور إلا في القرن
السابع واستفاد منه العلماء ولكن معرفة الفروع تظل سابقة عليه في ضرورة تعلمها كما
كانت سابقة عليه زمانًا، رغم أنها تجمع العديد من الفروع وتسهل حفظها وإدراكها.
2- الأصول قبل الفروع:
وهذا مبدأ واضح وضروري، فتعلم أصول
الشريعة لا بد منه قبل فروعها وأرفع الأصول: أصل العقيدة، كمعرفة البارئ تعالى
وأسمائه وصفاته والإيمان به وبأنبيائه ورسله، ودون معرفة ذلك فالعمل يصيبه
الإحباط؛ ولذلك قال السلف: العلم قبل العمل، وترجم الإمام البخاري لهذا المعنى
فقال:
«باب: العلم قبل القول والعمل، لقول الله
تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ
لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد: 19)،
فبدأ بالعلم وأن العلماء هم ورثة الأنبياء(5).
بينما الفقه وفروع الشريعة تبع لذلك
وكذلك في الفن الواحد، ففي الفقه مثلًا معرفة ما تصح به العبادة أولى بالمعرفة من
سنن العبادات وزوائدها وهكذا.
ولهذا نرى بعض الصحابة استشهد في المعارك
وهم لا يعرفون بعد من جزئيات الشريعة إلا معنى «لا إله إلا الله» كما أن كلمة
التوحيد كما يحصل في الجهاد تعصم دم المرء وذلك لضرورة تقدم فهم الإيمان إجمالًا
وبعد دخول الإنسان في دين الله تعالى يبدأ بالاستفصال عن الأحكام التي تتضمنها
كلمة التوحيد.
وحتى في إطار الأدب نجد أن العملية
التعليمية تتخذ هذا المفهوم التربوي فلا ينتقل المدرس إلى علم الهوامش وتعليقات
العلماء وزوائد الخلان، ونوادر الظرف حتى يستكمل أصول العلم والمعارف، ثم لا بأس
عليه من الانتقال.
ونكتفي من ذلك ببعض ما أشار إليه الجاحظ
حيث يقول: «ولا تلتمس الفروع إلا بعد إحكام الأصول، ولا تنظر في الطرف والغرائب
وتؤثر رواية الملح والنوادر وكل ما خف على قلوب الفُرَّاغ وراق أسماع الأغمار إلا
بعد إقامة الحدود والبصر بما يثلم من ذلك العمود فإن بعض من كلف برواية الأشعار
بدأ برواية أشعار هذيل قبل رواية شعر عباس بن الأحنف، وناس من أصحاب الفتيا نظروا
في العين والدين قبل أن يرووا الاختلاف في طلاق السُنَّة»(6)(7).
__________________
(1) فتح الباري (1/ 162).
(2) إحياء علوم الدين (1/ 57).
(3) الاعتصام.
(4) عيون الأخبار (2/ 122).
(5) فتح الباري (1/ 160).
(6) البرصان والعرجان للجاحظ، ص3.
(7) نشر بالعدد (1006)، 6 المحرم 1413هـ/
7 يوليو 1992م، ص48.
للمزيد:
- الأسبوع الدراسي الأول.. والتحديات الجديدة
- رسالة وزير التربية إلى نظَّار المدارس في الكويت
- لقاءات «المجتمع» مع الأستاذ خالد المذكور المعيد بجامعة الكويت
- وزارة التربية تعلن مسؤولياتها في مطلع هذا العام الجديد
- التنشئة العلمية للطفل المسلم ضرورة عصرية
- مناهج التربية الدينية.. بين الواقع
والمأمول