هل قام العلماء بدورهم في توجيه الأمة تجاه القضية الفلسطينية؟

العلماء مصابيح
الظلام في ليل الأمة الحالك، وقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يبيِّنوا الكتاب ولا
يكتموه، فانقسموا –في الآونة الأخيرة- إزاء هذا التكليف الرباني فيما يتعلق
بالقضية الفلسطينية إلى فئات ثلاث:
الأولى: علماء
رسميون –وهم قلة قليلة- صدقوا فيما عاهدوا الله عليه؛ فجهروا بكلمة الحق وأعلنوها
في سمع الزمان، مبيِّنين حكم الله تعالى في وجوب جهاد من احتل الأرض ودنَّس
المقدسات، منبِّهين على خطورة الرضا بالدون والركون إلى الدنيا، محذِّرين من أنظمة
خائنة متخاذلة وضعت يدها في يد أعداء الله؛ لتجريم الجهاد والقضاء على الثلة
المؤمنة والعصابة المسلمة التي تجاهد في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وإن كان
ثمة ضرورة للتسمية، فإنني أخص سماحة مفتي ليبيا الشيخ الصادق بن عبدالرحمن
الغرياني، وسماحة مفتي عُمان الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، حفظهما الله من كل سوء،
ووفقهما لكل خير.
والوصف نفسه
يصدق على فئام من العلماء المستقلين الذين لم تأخذْهم في الله لومةُ لائم؛ فكانت
أصواتهم سياطاً تجلد ظهور المنافقين، وتنادي عليهم بأن هلموا إلى الجهاد إن كنتم
صادقين، وربطوا بين الواقع والماضي مستدلين بآيات القرآن: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ
لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ
اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46)، وأعلنوا وجوب دعم إخواننا المجاهدين في غزة، وصدعوا
بأن المحاصرين لغزة من بني جلدتنا شركاء في القتل؛ وأن المتسبّب كالمباشر، وأن من
كان عنده فضلُ ماء فمنعه ابنَ السبيل فهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
وضعوا أيديهم
على موطن الداء، ووصفوا الدواء، ولم تَخْلُ كلماتهم وبياناتهم من شدة تغلّفها
حكمة؛ لأن الوضع يتطلب ذلك، وقد تعمد الإعلام المأجور أن يتجاهل تلك الكلمات الناصعة والأحكام الواضحة من أجل أن يطويها النسيان في عالم يمور موراً في كل يوم
بالجديد المثير.
الثانية: علماء رسميون اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً؛ وكانوا من عوامل التثبيط والتخذيل للأمة
عن الجهاد؛ فَلَوَوْا أعناق النصوص، وكانوا كما قال المسيح عليه السلام: «مثل
علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر، لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلص إلى
الزرع، ومثل علماء السوء كمثل قناة الحش ظاهرها جص وباطنها نتن، ومثل القبور
ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى».
وإن تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ أمرُ أولئك الذين أباحوا للأجهزة الأمنية المتعاونة مع الصهاينة اعتقال
المجاهدين في مخيم جنين والإرشاد عنهم بدعوى حفظ الأمن، ولئلا يصير في الضفة ما
صار في غزة! قالوا ذلك –عياذاً بالله- خدمة لأولياء نعمتهم، وبيعاً لدينهم بدنيا
غيرهم؛ تزييناً للباطل وتحريضاً على قتل المجاهدين؛ فكانوا –بحق- شركاء في الجريمة
والعلم منهم براء، وصدق فيهم قول ربنا جل جلاله: (فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ
وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران: 187).
وهناك آخرون من
دونهم مستقلون –زعموا- وكانوا بحق مستقلين عن الحق حائدين عنه، خائضين في الباطل،
لا تكاد تفرِّق بينهم وبين بعض الإعلاميين ممن يبيع لسانه وقلمه بعرض من الدنيا
قليل، فنطق بعض هؤلاء متهكِّماً على السادة الأعزة من المجاهدين، واصفاً إياهم
بأنهم جرذان، وأنهم لا يحسنون التطهر من النجس! وأنهم أعوان للصهاينة؛ «رمتني
بدائها وانسلت»، وأنهم حزبيون خدم لإيران.. إلى آخر تلك التهم التي جعلت كثيراً من
الناس يستحضرون حال المنافقين الأولين الذين قال الله عنهم: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا
جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب: 19).
قال ابن تيمية
رحمه الله تعالى: (وهذا السَّلْقُ بالألسنةِ الحادَّةِ يكونُ بوُجوهِ: تارَةً
يقولُ المنافقونَ للمؤمنينَ: هذا الَّذي جَرَى علينا بشُؤْمِكم؛ فإنَّكم أنتم
الَّذينَ دعوتُم النَّاسَ إلى هذا الدِّينِ وقاتَلْتُم عليه وخالَفْتُموهم؛ فإنَّ
هذه مقالَةُ المنافقينَ للمؤمنينَ مِن الصَّحابةِ. وتارَةً يقولونَ: أنتم الَّذين
أشَرْتُم علينا بالمقامِ هنا والثَّباتِ بهذا الثَّغْرِ إلى هذا الوقتِ، وإلَّا
فلو كُنَّا سافَرْنا قبْلَ هذا لَمَا أصابَنا هذا.
وتارَةً
يَقولونَ: أنتم مع قِلَّتِكم وضَعْفِكم تُريدونَ أنْ تكسِروا العدُوَّ وقد غَرَّكم
دينُكم، كما قال تعالَى: (إِذْ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ
دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:
49)، وتارَةً يقولونَ: أنتم مجانينُ لا عقلَ لكم، تُريدونَ أنْ تُهْلِكوا
أنفسَكم والنَّاسَ معَكم، وتارَةً يَقولونَ أنواعًا مِن الكلامِ المُؤذي الشَّديدِ.
سبحان الله! كأن
الشيخ رحمه الله تعالى شاهدٌ حاضرٌ في معركة «طوفان الأقصى» وقد سمع مقالات هؤلاء
المخذّلين المرجفين ممن يتزيَّوْن بزي العلماء!
الثالثة: علماء
رسميون وغير رسميين آثروا الصمت على الكلام، وكأن الأمر لا يعنيهم، غافلين عن قوله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة: 159)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه
ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار»، وما درى هؤلاء أن التاريخ شاهدٌ على
الجميع، وأنه إن كان المتكلم بالباطل شيطاناً ناطقاً؛ فإن الساكت عن الحق شيطان
أخرس؛ نعوذ بالله من الحالين.
والواجب المنوط
بالعلماء –رسميين ومستقلين– أن تكون لهم مواقف شرعية يخلّدها التاريخ في بيان جملة
من القضايا التي تعظم الحاجة إليها في أيامنا هذه فيما يتعلق بفلسطين:
أولها: الحديث
المتكرر عن قدسية أرض فلسطين، وأنها مذكورة في القرآن بوصف البركة في عدة مواضع،
وأنها مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاتحيها هم الصحابة الكرام؛ فليست ملكاً
لزعماء ولا ساسة من أجل أن يتنازلوا عنها أو عن جزء منها.
ثانيها: التأكيد
على مشروعية الجهاد، وأنه السبيل الأوحد لاسترداد الحقوق، وردع الظالمين؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال: 39)، وأن المجاهدين هم تاج شرف هذه الأمة وعنوان نهضتها
وسَراة عزتها.
ثالثها: الكشف
عن صفات المنافقين المذكورة في القرآن الكريم، مع إسقاطها على الأحداث المعاصرة
التي تدور في فلسطين، من أجل أن يتهيأ للعامة قياس النظير على النظير وإلحاق
الشبيه بالشبيه؛ مع تقرير أن النفاق ليس مرضاً قد انقضى زمانه، بل ظاهرة متجددة في
كل عصر.
رابعها: الإجابة
عن أسئلة الناس التي يلبِّس بها الدجاجلة المبطلون على العامة، من جنس قولهم:
لماذا لم ينصر الله المجاهدين إن كانوا على الحق؟ هل يجوز لأولئك المجاهدين أن
يكونوا سبباً فيما نزل بأهل غزة من البلاء العظيم؟ كيف تستطيع الدول العربية أن
تنصرهم مع أن بعض تلك الدول بينها وبين الصهاينة عهود ومواثيق؟
خامسها: بيان
أحكام الله عز وجل في الولاء والبراء، مع تنزيل تلك الأحكام على أنظمة رضيت
بموالاة بني صهيون، فبعض هؤلاء أمدَّ الصهاينة بالسلاح، وبعض آخر جعل من موانيه
ومياهه كلأ مباحاً يمخر عبابها سفنٌ معبَّأة بالسلاح تتجه للصهاينة وهو يعلم،
وفريق ثالث سخر إعلامه للنيل من المجاهدين، وتأييد سردية الصهاينة وأنهم مظلومون!
وبعد، فقد آن
لأهل العلم والدين أن يتوبوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، ويتخلصوا من إثم
الكتمان، وأن يقوموا لله في نصرة دينه والجهاد في سبيله، والله تعالى الموفق
والمستعان.