هل يمكن تكرار سيناريو «المسجد الإبراهيمي» في «الأقصى»؟!

منذ احتلال مدينة الخليل في يونيو 1967م،
اتخذ الاحتلال «الإسرائيلي» المسجد الإبراهيمي هدفاً مركزياً في مشروعه التهويدي،
نظراً لمكانته الدينية والتاريخية في الوعي الإسلامي، ولرمزيته العميقة في التاريخ
الفلسطيني.
وفي الوقت الذي خضع فيه معظم مساجد الضفة الغربية لإدارة عسكرية صهيونية تقليدية، اتخذ الاحتلال تجاه المسجد الإبراهيمي
مساراً خاصاً، إذ اقتحمه حاخام الجيش «الإسرائيلي» شلومو غورين فور دخول قوات
الاحتلال إلى الخليل، وأغلق أبوابه، وأقام داخله طقوساً دينية يهودية، معلناً أن
للمكان حقوقاً يهودية تاريخية.
ما احتاج في المسجد الإبراهيمي إلى عقود من الزمن يُنفذ في
«الأقصى» خلال سنوات قليلة!
منذ ذلك الحين، بدأت سياسة «التقسيم
الزماني» من خلال منح اليهود حق الدخول والصلاة في أوقات محددة، كانت في البداية
مقتصرة على أيام بعينها في الأعياد اليهودية، لكنها توسعت تدريجياً حتى صارت
أوقاتاً شبه يومية، وبفعل غياب ردود فعل عربية وإسلامية مؤثرة، ترسخ هذا الوجود
وأصبح أمراً واقعاً.
توالت الإجراءات «الإسرائيلية» في العقود
التالية لتعزيز السيطرة، بما في ذلك فرض قيود أمنية مشددة على دخول المصلين
المسلمين، وإغلاق الأسواق المحيطة، ووضع بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة، وصولاً
إلى حادثة مفصلية في 25 فبراير 1994م، عندما نفذ المستوطن باروخ غولدشتاين مجزرة
بحق المصلين المسلمين في صلاة الفجر خلال شهر رمضان، أسفرت عن استشهاد 29 شخصاً.
«الإبراهيمي».. والتقسيم المكاني
هذه الجريمة لم تُقابل بمنع المستوطنين
من دخول المسجد، بل كانت ذريعة لفرض «التقسيم المكاني» رسمياً، حيث أوصت لجنة «شمغار
الإسرائيلية» بتقسيم المسجد إلى جزأين؛ 63% لليهود، و37% للمسلمين، مع إغلاق
المسجد أمام المسلمين في الأعياد اليهودية.
تكرار سيناريو «الإبراهيمي» بـ«الأقصى» يفتح الباب أمام مواجهة
دينية وسياسية واسعة
خلال السنوات التالية، فرضت سلطات
الاحتلال المزيد من التغييرات، فأدخلت تجهيزات إنشائية ومشاريع بنية تحتية تحت
ذريعة التطوير الأمني والخدمي، مثل الحفريات وتركيب مصعد وأجهزة إنذار، وهي خطوات
نظر إليها الفلسطينيون كجزء من عملية تهويدية شاملة.
وفي عام 2010م، أدرجت حكومة نتنياهو
المسجد الإبراهيمي ضمن «قائمة التراث اليهودي»، لتتحول تسميته ووضعه القانوني بما
يسمح باعتباره كنيساً مفتوحاً للمسلمين في أوقات محددة، بدلاً من كونه مسجداً
يُسمح لليهود بدخوله استثنائياً.
وبعد 15 عاماً من ذلك القرار، وفي يوليو
2025م، أعلنت الحكومة «الإسرائيلية» سحب إدارة المسجد من وزارة الأوقاف الفلسطينية
وبلدية الخليل، ونقلها إلى المجلس الديني لمستوطنة كريات أربع، لتكتمل بذلك حلقات
السيطرة الكاملة على الموقع؛ إدارياً وأمنياً ودينياً.
هذه التجربة الطويلة في المسجد
الإبراهيمي، الممتدة على مدى ما يقرب من 6 عقود، تطرح سؤالاً ملحاً: هل يسير
المسجد الأقصى المبارك في المسار نفسه، ولكن بسرعة أكبر بكثير؟!
المتابع لما يجري في المسجد الأقصى منذ
عام 2015م يلحظ تشابهاً واضحاً في الخطوات؛ فقد بدأت السلطات «الإسرائيلية» بفرض
تقسيم زماني غير معلن، من خلال تنظيم اقتحامات يومية للمستوطنين تحت حماية الشرطة،
وتقييد دخول المصلين المسلمين، لا سيما في ساعات الصباح، وإخلاء ساحات المسجد من
الفلسطينيين قبيل الاقتحامات، ومع مرور الوقت، اكتسبت هذه الاقتحامات غطاء سياسياً
متزايداً من أحزاب اليمين المتطرف، حتى باتت مشهداً يومياً مألوفاً في التغطيات
الإخبارية.
وفي منتصف عام 2023م، طرح النائب في حزب
الليكود عميت هاليفي خطة لتقسيم المسجد الأقصى مكانياً، بحيث يُخصص جزء من ساحاته
لإقامة كنيس يهودي دائم، ويُمنح لليهود حق الصلاة فيه على مدار العام، هذا الطرح
وجد دعماً علنياً من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي يسعى لتسريع الخطوات،
في منافسة مع زميله وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، المعروف بدوره في مشروع ضم الضفة الغربية.
إجراءات ميدانية
التشابه بين الحالتين لا يقف عند حدود
التصريحات، بل يمتد إلى الإجراءات الميدانية؛ ففي الخليل، مُنع رفع الأذان في
المسجد الإبراهيمي عشرات المرات شهرياً، وفي «الأقصى» تتكرر مشاهد إغلاق الأبواب،
وإخلاء المصلين، والسماح للمستوطنين بأداء طقوس علنية، شملت في بعض المناسبات
الغناء والرقص ورفع الأعلام «الإسرائيلية» في باحات المسجد.
أي مساس بالمسجد الأقصى سيكون خطاً أحمر وقد يؤدي إلى تداعيات
تتجاوز حدود فلسطين
كما أن السيطرة على المناطق المحيطة جزء
من الخطة في الحالتين؛ ففي المسجد الإبراهيمي، استولت دولة الاحتلال على عقارات
وشوارع محيطة لتأمين التواصل الجغرافي مع المستوطنات، وفي القدس، اتخذت إجراءات
مشابهة؛ مثل مصادرة نحو 20 عقاراً في طريق باب السلسلة الملاصق لـ«الأقصى» وضمها
للحي اليهودي، وهو ما يعيد إلى الأذهان السيطرة على منطقة باب المغاربة بعد احتلال
القدس عام 1967م.
الفرق الأبرز أن ما احتاج في المسجد
الإبراهيمي إلى عقود من الزمن، يُنفذ في «الأقصى» خلال سنوات قليلة، بفضل القوة
السياسية المتصاعدة لتيار الصهيونية الدينية، والدعم الميداني من جماعات المعبد
التي تسعى لبناء ما تسميه «المعبد الثالث» في موقع المسجد الأقصى، وهذه السرعة
تجعل خطر استنساخ التجربة أكبر وأقرب، وتجعل الحاجة لرد فعل حقيقي أكثر إلحاحاً.
إن تكرار سيناريو المسجد الإبراهيمي في «الأقصى»
لا يعني فقط تغيير الوضع القائم في أقدس موقع إسلامي بالقدس، بل قد يفتح الباب
أمام مواجهة دينية وسياسية واسعة، تُغير مسار الصراع برمته، فالمسجد الأقصى، بما
يمثله من مكانة في الوجدان الإسلامي، سيكون أي مساس به بمثابة خط أحمر، وقد يؤدي
إلى تداعيات تتجاوز حدود فلسطين.
التجربة تقول: إن الاحتلال يسير وفق
خطوات مدروسة؛ يبدأ بخلق وقائع ميدانية، ثم يسعى لتطبيعها، ثم ينتقل إلى تقسيم
زماني، يتبعه تقسيم مكاني، لينتهي بالسيطرة الإدارية الكاملة، هذا ما حدث في
الخليل، وهذا ما نراه يتكرر في القدس بوتيرة متسارعة.
على الفلسطينيين والمسلمين الانتقال من رد الفعل الكلامي إلى
مبادرات توصِل الأمور بالقدس إلى التأزيم
وإن لم تُفعَّل أدوات القانون الدولي
التي تَعتبر القدس و«الأقصى» أراضيَ محتلة، ولم تُمارس ضغوط سياسية واقتصادية على
الاحتلال، ولم يشعر الاحتلال بأن إجراءاته في هذه الأماكن المقدسة لها ثمن ضخم لا
يمكنه تحمله، فإن المسار سيكتمل بلا عوائق.
وهنا يأتي دور الفلسطينيين بالذات على
المستويين الشعبي والرسمي، ومعهم العرب والمسلمون، في الانتقال من رد الفعل
الكلامي إلى مبادرات عملية توقف التدهور، وتوصِل الأمور في القدس إلى مرحلة
التأزيم التي لا غنى عنها لخلق الواقع الذي يجعل الاحتلال يفكر مرتين قبل الإقدام
على تنفيذ خطوات حمقاء جديدة في المسجد الأقصى، قبل أن نجد أنفسنا أمام واقع جديد
يستحيل التراجع عنه، لا سمح الله.
اقرأ أيضاً: