; نقوش علي جدران الدعوة: بداية السقوط | مجلة المجتمع

العنوان نقوش علي جدران الدعوة: بداية السقوط

الكاتب د. جاسم المهلهل آل ياسين

تاريخ النشر الثلاثاء 03-مارس-1998

مشاهدات 15

نشر في العدد 1291

نشر في الصفحة 66

الثلاثاء 03-مارس-1998

إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، فتوسيد الأمر لغير أهله إيذان بخراب العمران، وإهمال مرافق البلاد، وانشغال عن تربية الرجال، وإيثار للمصلحة الذاتية أو الطائفية أو القومية العنصرية وإغفال للمصالح العام، وغض النظر عن المنكرات، وإظهار بعض الليونة في مقاومة الموبقات وشدة في مواضع اللين، ولين في موضع الشدة، وتهاون وتخاذل أمام اليهود

والأعداء وغلاظة وقسوة أمام المسلمين.

وتوسيد الأمر إلى غير أهله يؤدي إلى فوضى في الاقتصاد فيؤخر ما حقه التقديم، ويقدم ما حقه التأخير، ويرتبط التقديم أو التأخير بمصلحة القائمين على الأمر الآخذين من السلطة بنصيب ويبعد عن دائرة القرار والتأثير كل ذي رأي سديد وعمل رشيد، فلا يتقدم غير أصحاب الأهواء الذين يملكون لسانًا طويلًا وقلمًا سيالًا، وقلبًا منافقًا، وعقلًا لا يعرف حقًا ولا ينكر باطلًا

توسيد الأمر إلى غير أهله يؤدي إلى خلل اجتماعي، فلا يسمح لمؤسسة تعمل وهي تخالف الاستبداد، وتنادي بحرية العباد، ولا يسمح لشخص يعلو إن لم يذل نفسه ويرغم أنفه لصاحب الهيلمان، ويدفع أصحاب الآراء الحرة والكرامة الإنسانية إلى الانعزال بعيدًا عن المجتمع الذي انقلب حاله وانفلت معياره، ولم يقر قراره فلا يتقدم الركب غير العمى الذين لا يبصرون، والبكم الذين لا ينطقون، والصم الذين لا يسمعون.

وهل في هذا الجو يزداد إنتاج أو يزدهر اقتصاد أو تقوی أمة، أو تعلو دولة؟ وهل في هذا الجو يتم الحفاظ على موروثات له ومكتسبات؟ وهل في هذا الجو ترهب دولة أعداءها أو تحفظ أمة حدودها؟ وتاريخنا مملوء بتوسيد الأمر إلى غير أهله في نواح  عديدة من أهمها وأولاها بالدراسة ما نطلق عليه الولاية العامة لما تتمتع به من قدرة في تصريف الحياة، بحيث لا تترك مجالًا إلا ولها فيه تأثير، وفي تاريخ الدولة الأموية والعباسية  والعثمانيين أمثلة عديدة لتوسيد الأمر إلى غير أهله إما بتولية  صغار لم يبلغوا الحلم، وإما بتحكم نساء القصور في الأولياء أو الأوصياء، وإما بقلة الكفاءة مع إقامة حاجز من بطانة الأشرار بين الولاة وبين الأخيار، وإما بالاستبداد وترك المشورة، وإما باللهو والغفلة، ومجالس الأنس والمتعة والانشغال عن تدبير شأن الرعية وتجديد الثغور وتقوية الحصون وتدريب الجنود، وقد كانت عجلة الدولة أو الأمة تسير بقوة الدفع التي يعمل العلماء على استمرارها، والخيرون من الرجال والحكام على إبرازها، ودفع العوائق من طريقها، ولكن سرعان ما تعود الأمور إلى ما كانت عليه إلى أن يأذن الله بمجدد للإسلام يحيي دولته، ويسعف أمته، وقد يكون هذا المجدد من بين الحكام أو قد يكون من بين الدعاة والعلماء.

والأدلة على ما نقول كثيرة نذكر منها أن نور الدين محمود الذي كان له باع طويل في جمع صفوف المسلمين، ومجاهدة الصليبيين حين قضى نحبه، ووضع في قبره جلس ابنه الصالح إسماعيل في الملك وحلف له، أتدري كم كان عمر الصالح إسماعيل حينئذ؟ كان صبيًا لما يبلغ الحلم، وماذا حدث بعد ذلك؟ يقول الإمام أبو شامة: لما مات نور الدين اجتمع أمراء دولته واتفقوا على أن يكونوا في خدمة الملك الصالح بن نور الدين وكان يومئذ صبيًا، وأجمعوا على منابذة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي، وقبض أصحابه الذين بالشام، ومصالحة الإفرنج على يد ابن المقدم شمس الدين مقدم العساكر، وتم ذلك واستقر «مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين ص ۱۸۱ اختصار وتعليق د. محمد بن حسن بن عقيل موسى» ففيم إذن كانت جهود نور الدين التي شغلت دولًا، واستمرت على الدهر زمنًا؟ ولكن... ماذا تنتظر بعد أن وسد الأمر إلى غير أهله وأحاطت بطانة السوء بابنه وتاريخنا الإسلامي مملوء بأمثال هذا النموذج وأضرابه من الذين يسيئون ولا يحسنون، ويفسدون ولا يصلحون، مما يستدعي وقفة من الغيورين المصلحين من عقلاء الأمة حكامًا كانوا أو محكومين ليصلحوا الخلل، ويعملوا على إصلاح ما فسد، وكل قادر في مؤسسة من المؤسسات أو هيئة أو دولة عليه واجب كبير في هذا الإصلاح بالتوجيه والإرشاد، أو بسن القوانين التي تحمي من الانحراف أو بحسن تربية الأبناء أو بنشر روح العدل والإنصاف أو بالأخذ بالشورى من المخلصين الأوفياء الذين يخافون يوم الحساب.

إن الأمر اليوم لا يوسد لغير أهله بتولية الصغار، ولكنه يوسد لغير أهله حين يولى في المناصب غير الأكفاء من حيث الخبرة، أو من حيث المعرفة أو من حيث الألمعية والذكاء، أو من حيث الاستبداد والكبرياء أو من حيث.... إلخ

وأبناء الصحوة الإسلامية قبل غيرهم أحق الناس بتطبيق هذا المبدأ في مؤسساتهم وأعمالهم، ليكونوا للناس قدوة، وفي الخير أمة، فيجنبوا أنفسهم وغيرهم عشرات السقوط ويرتفعوا بأمتهم إلى أن تضع كل إنسان في موضعه الذي يحسن فيه.

﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. (البقرة: 195)

الرابط المختصر :