; نهر الذهب الضائع | مجلة المجتمع

العنوان نهر الذهب الضائع

الكاتب أبو ذر النفطي

تاريخ النشر الثلاثاء 21-أبريل-1970

مشاهدات 25

نشر في العدد 6

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 21-أبريل-1970

تكفي هذه الحقيقة _من سنة ٦٢: سنة ٦٦_ أن صادرات البترول 21500 مليون، ونصيبنا منها ۹۹۰۰ مليون دولار!

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (سورة التحريم: الآية 6) تقفز هذه الآية الكريمة إلى ذهني كلما اقتربت من هذه النيران المتأججة عند الأحمدي، وما من مرة إلا وتخيلت عذاب النار والزبانية الغلاظ الشداد، وحسيسها الرهيب، والسلاسل والأغلال، وظلمتها الحالكة، وريحها المُنتنة، وعقاربها وحيّاتها، ووديانها وشررها، وعذاب أهلها وطعامهم وشرابهم..

وما من مرة اقتربت من هذه النار المتأججة، إلا وتذكرت هذه الثروات الهائلة التي تنساب من بين أيدينا، وتذهب إلى أعدائنا..

بحيرة شاسعة عميقة من الذهب، تقع هنا في البرقان والخفجي، ولدى جيراننا في بقيق ودخان وكركوك، وتمتد تحت سطح البحر واليابسة، لتتصل بأجزائها الأخرى في المرجان وزليطن وزاقوية وجاس مسعود.. إلخ.

بحيرة شاسعة كبيرة يتجمع فيها أكثر من 60% من احتياطات النفط في العالم، وتغذي الحضارة الغربية بكل ما تحتاج إليه من غذاء وكساء ومسكن وفكر، تغذيها بالطاقة بالحرارة بالوقود..
هذه المناطق الباردة التي تعج بالضجيج والحركة، وتتلألأ فيها الأنوار، ولا تكف مصانعها عن العمل، وتتزيا نساؤها بأفخر الثياب، وتشق سماؤها الطائرات والصواريخ، ويخرج علينا علماؤها بالنظريات والاختراعات، هذا كله ينطفئ ويخبو ويتساقط كورق الشجر في الخريف إذا ضنت هذه البحيرة عن مدهم بالحياة، بل حتى الدماء التي في عروقهم ستتجمد، ويتحولون إلى هياكل بشرية في متحف الحضارة!

ونحن.. أين نحن؟!

نحن هنا تكفينا هذه النار التي تشتعل فتحرق عشرات الألوف من الدنانير في كل يوم، يكفينا أن ننظر إليها ونتأمل، ويا ليتنا نتأمل النار وعذابها فنصحو ونستيقظ ونغير شيئًا من هذا الواقع المؤلم الذي نعيش فيه..

إن كمية الذهب التي تفيض من هذه البحيرة فتشق لها طريقًا يتحول إلى نهر واسع طويل يجري آلاف الأميال، لا تعوقه الجبال ولا تبدد ماؤه البحار والمحيطات فهو نهر عجيب ذو إرادة وتصميم، صنعوه هم بأيديهم وتحكموا فيه وفي مجراه ومسراه ومصبه، حتى الروافد التي تخرج لتغدق علينا شيئًا من خيراته تعود مرة أخرى لتتجه في نفس الاتجاه، وتصب هناك في نفس المكان الذي يدين له صانعوه بالولاء والإخلاص..

إن كمية الذهب التي تسيل من هذه البحيرة لها قسمة عجيبة ظاهرها العدل والمناصفة، وحقيقتها تجسد الجشع الطاغي؛ إذ أن 46% من إيرادات النفط -في مرحلة الإدرار أو الحليب أو الإنتاج- يدخل خزائن الدول صاحبة البحيرة، و٥٤% يذهب إلى الشركات المنتجة في صورة تكاليف وأرباح، وإذا حولنا هذه النسب إلى أرقام نجد أنه في الفترة من ٦٢: ٦٦ بلغت قيمة صادرات النفط العربي ۲۱٥۰۰ مليون دولار «واحد وعشرين ألف وخمسمائة مليون دولار» دخل خزائننا منها ۹۹۰۰ مليون دولار.

هذا هو ظاهر الصورة، عدل ومناصفة، فلننزع هذه القشرة لنرى ما تحتها..

لقد بلغت أرباح شركات البترول الأمريكية العاملة في أراضينا في عام واحد ۱۱۰۰ مليون «ألف ومائة مليون دولار»، ويعادل هذا المبلغ نصف الإنتاج الصناعي الكلي لأكبر دولة عربية _وهي الجمهورية العربية المتحدة_ في عام ما قبل النكسة، وتبلغ أقل بقليل من مجموع ديونها الخارجية في نفس العام «۱۳۰0 مليون دولار»، وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ أرباح الشركات الأخرى البريطانية والهولندية والفرنسية والإيطالية واليابانية العاملة أيضا في أراضينا فسيزداد المبلغ ألف مليون دولار أخرى ويصبح المجموع ألفين ومائة مليون دولار وذلك في سنة ١٩٦٨ من أصل رأسمالها البالغ ۳۰۰۰ مليون دولار «ثلاثة آلاف مليون دولار»، يعني يصل ربح الشركات في هذه السنة ۷۰ ٪ من رأس المال..

هذا إذا أخذنا متوسط الربح، ولكن إذا تناولنا الشركات واحدة بعد أخرى فسنجد أن بعضها زاد ربحها عن ۱۰۰%، ووصلت إحداها إلى ١١٤%، أي إن رأسمالها الذي سبق أن غُطِّيَ عشرات المرات قد غُطِّيَ في تلك السنة مرة أخرى وطفف!

 أي شركة في بلادنا تصل أرباحها إلى هذه النسبة، وأية صناعة في العالم تربح مثل هذا الربح الفاحش؟!

ثم إننا نعاني في بلادنا من نقص الاستثمارات وندرة رأس المال _وحتى دولة الكويت التي تمد يدها بالقروض والإعانات لشقيقاتها العربية تقترض من البنوك الأجنبية لبعض مشاريعها الصناعية_ ومع ذلك يخرج في عام واحد من بلادنا ألفين ومائة مليون دولار أي ما يزيد عن مثلي ونصف

«۲٫٥ مرة» ميزانية الكويت في العام الحالي، ويا ليت الأمر يقف عند هذا الحد، نعم! يا ليت النصف اليتيم الذي يتبقى لنا من إيرادات النفط يودَع لدينا ويُسْتَثْمَر في مشاريع تعود علينا بالخير والفائدة،

ولكن المأساة تتضاعف عندما ترى حكوماتنا ومواطنينا ينهجون نفس النهج، ويضنون بالأموال على دولنا، فيطلقونها خلف أرباح الشركات الأجنبية لتترك بلادنا تعاني ندرة السيولة ونقص رؤوس الأموال التي تحتاج إليها المشاريع الإنمائية المختلفة، وتعاني من الركود والأزمات الاقتصادية.

إنها لمأساة حقيقية أن ندفع بأموالنا _ونحن في هــذه الحاجة الشديدة إليها_ إلى أكثر دول العالم رقيًا وازدهارًا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فتبلغ أموالنا التي تدخل أمريكا في عام ٦٨ ما يزيد عن ٢٦٢٥ مليون دولار «ألفين وستمائة وخمسة وعشرين مليون دولار» منها ۱۸۰۰ مليون أموال سائلة واستثمارات، والباقي ثمن سلع وخدمات أمريكية.

 ولقد وصل فائض الميزان التجاري الأمريكي مع الدول العربية في سنة ٦٨: ٣٠٣,٦ مليون دولار! وهذا يسمى في المفهوم الاقتصادي استنزافًا لمواردنا ودعما للاقتصاد الأمريكي.

أمريكا التي ارتفعت موجة العداء ضدها في بلادنا إلى القمة، وصورتها أجهزة الإعلام في دولنا الاشتراكية بأنها العدو الأول للعرب، والحليف الأكبر لإسرائيل، نقوم نحن بدعم اقتصادها وتثبيت سعر عملتها.

والعجيب أن أكبر الدول العربية الشقيقة هجومًا على أمريكا قد ضاعفت من وارداتها من السلع الأمريكية في عام ٦٩ عن العام الذي قبله، ودولة أخرى اشتراكية أيضا قد ارتفعت وارداتها من الولايات المتحدة بنسبة 30%!

 إن كان هذا في المفهوم الاقتصادي يسمى استنزافًا، فهو في مفهومنا الإسلامي له أسماء أخرى..

ومن يتصرف مثل هذه التصرفات في ظل الشريعة الإسلامية فلا يمكن أن يعد مسئولًا رشيدًا

﴿ولَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا (سورة النساء: الآية 5)  صدق الله العظيم.

هل هذه هي كل جوانب الصورة؟ هذه الصـورة البشعة التي تزيد في بشاعتها عن وجه أحدب نوتردام أو صورة دوران جرای!

كلا، فهناك جوانب أخرى لو اطَّلع عليها الشيخ الوقور لأصيب بغثيان شديد، ولو رآها الشاب المتوثب حماسًا لطاش عقله، ولأتى من الأقوال والأفعال ما لا يلومه عليه أحد!

إن هذا النهر الفياض الذي يصب بعيدًا بعيدًا عن أراضينا، لا بد له من جهود كبيرة لتخزين مياهه والانتفاع بها بالصورة المثلى.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل