; الضحكة المؤلمة | مجلة المجتمع

العنوان الضحكة المؤلمة

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 19-سبتمبر-1978

مشاهدات 14

نشر في العدد 412

نشر في الصفحة 40

الثلاثاء 19-سبتمبر-1978

بقلم: عبد العزيز عطايا

حفنة تراب في كفه، ونظرة استجداء في عينيه، ولون أمنية يطفو على وجهه، وكلمة تكاد تخرج من بين شفتيه، كلما أحدق في التراب وضحت معاني الأشياء، حتى نطق أخيرًا بتلك الكلمة وكأنه يهمس بها إلى نفسه:

- كم أتمنى أن يتحول هذا التراب الذي في يدي إلى مال.

وأتحول معه من مجرد موظف إلى رجل غني يشار إليه بالبنان، متى تتحقق تلك الأمنية؟ آه يا فؤاد، حين تصبح من أصحاب الملايين، لن تبخل على الفقراء والمساكين. 

راح يحدق في التراب، ويده مرفوعة إلى مستوى وجهه، ونظرته حادة قوية، وحديثه إلى نفسه لا ينتهي، وبدا في وقفته أنه منتظر حدوث المعجزة: أن يتحول التراب الذي يراه إلى ذهب، إلى ملايين من الدنانير. وبينما هو واقف هكذا إذ اهتزت يده، وما هي إلا لحظة مرت خاطفة، فتح فيها عينيه، فوجد نفسه راقدًا في فراشه، إنه داخل حجرة النوم. أفاق من حلمه ليقع بصره على الستائر المسدلة فوق النافذة، نقل بصره إلى زوجته التي أيقظته، ألفاها واقفة قرب الفراش تنظر إليه بدهشة، ابتسم لها وقال:

- كان ينبغي أن تتركيني نائمًا.

قالت وقد عقدت ذراعيها فوق صدرها:

- كان ينبغي أن يحدث ما حدث من ربع ساعة، أنا التي تأخرت؛ كنت أعد لك طعام الإفطار.

جلس يقول:

- أضعت ثروة أوشكت أن تتحقق.

فردت ذراعيها وجذبته من يده، فقام واقفًا أمامها، وسألته وهي تقترب بوجهها منه.

- كيف.. قل كيف أضعت الثروة يا فؤاد؟

- كنت أحلم بها، ولكنك تعجلت.

نفخت الهواء الموجود في الحجرة كله وقالت:

- أوه.. كل يوم تصحو وتذيع حلمًا حلمًا جديدًا، وكل الأحلام عن الغرام بالثروة، مع أنك لست فقيرًا.

- ولست غنيًا.

- ألا تحمد الله أبدًا؟

- بلى، أحمد الله على أي حال، وفي نفس الوقت أطلب المزيد، والمال لك ولي وللأولاد.

- أسرع إلى الحمام، وأقلع عن الكلام، واستعد للطعام قبل أن ينتهي الوقت، وتتأخر على عملك.

- بدأت الأوامر من السلطة التنفيذية في البيت.

ضحكت زوجته وانصرفت إلى المطبخ، ودارت عجلة الحركة داخل البيت، وكانت قد توقفت إلى أن يستيقظ فؤاد، بعد أن كانت تدور وتلف في ساعة مبكرة عندما نهضت الزوجة، وأيقظت الأولاد، وجهزت لهم ما يحتاجون من طعام يحملونه معهم, ثم وقفت في النافذة تلوح لهم وهم يركبون سيارة المدرسة، وهدأت حركتها وسكنت إلى أن يحين وقت استيقاظ زوجها، وتوقعت أن يتنبه وحده كالعادة، ولكنه ظل غارقًا في النوم، فذهبت إلى المطبخ تعد طعامًا ثم دخلت حجرته, وهزت يده؛ ففتح عينيه بتلك الصورة التي أثارت دهشتها.

ولما جلسا أمام المائدة، قال فؤاد:

- أحكي لك حلمي.

- لا حديث لك إلا عن الثروة والمال.

- أتكرهين ذلك؟

- نعم، بالنهار تتحدث عن المال، وبالليل تحلم به.

- حلم هذه المرة يشير إلى أن شيئًا سيحدث.

- قل يا فؤاد، والأمر لله وحده.

- حلمت أني أرفع يدي إلى أعلى وهي ممتلئة بحفنة من التراب، وأنا أحدق فيها، وأتمنى ان يتحول التراب إلى ذهب.

ضحكت زوجته، وكادت اللقمة تقف في حلقها، وكحت بعنف، واغرورقت عيناها، وعادت تضحك بعد أن بلعت اللقمة، وأخذ جسمها يهتز وهي تضحك، فقال:

- دائمًا تسخرين من أحلامي.

قالت وهي تحاول أن تكف عن الضحك:

- لا.. لا يا فؤاد، أنا لا أسخر، وإنما للحلم تفسير واضح في ذهني.

- فلأسمع؛ قد أتأكد من ظني، وهو تفسير معقول.

- اسمع وأنت تأكل؛ لا تنسى أن الوقت يمر بسرعة. 

شرع في الأكل، وأعطاها أذنيه، قالت:

- معنى الحلم بما لا يحتمل الشك، أو معنى آخر: هو أن عينيك لن يملأهما إلا التراب.

رماها بنظرة فيها اتهام، فقالت:

- لا تنظر كما نظرت، هذه حقيقة

- أنت مجنونة، حدث لعقلك خبل، للحلم معنى آخر يا صاحبة التفسير المهووس, معنى الحلم: أن أي شيء أمسكه سيتحول إلى ما ينفع، حتى ولو كان ترابًا، وهناك من يقول: صاحب الحظ السعيد يتحول التراب في يده إلى تبر، أفهمت؟ 

ونهض يرتدي بقية ملابسه وهي السترة التي يلبسها قبل الخروج.

ودار الحديث بينهما عن الحلم وتفسيره، وكل منهما دافع عن وجهة نظره، ويرفع صوته بحرارة وحماس كأنها قضية تستحق كل هذا الدفاع ولم تكن الزوجة تكترث بالحوار، بيد أنها تكلفت الدفاع؛ حتى لا يقال: إنها هزمت، بالإضافة إلى ذلك كانت مقتنعة أنها على حق، وكانت تؤمن بالرزق كما تؤمن بالموت، أنهما في علم الله، وكانت تعلم أن زوجها يطمع في الدنيا، ولو استطاع أن يملكها لتمنى أن يملك دنيا أخرى، وثالثة دون أن يقنع أو يشكر. 

وبالرغم من مرور شهر كامل، لم ينس حلمه كأنه يتوقع أن يتحقق ذات يوم. وقالت له بلهجة فيها ضيق:

- أرجوك لا تذكر هذا الحلم

قال بشيء من المزح؛ ليمسح الضيق عن النفس:

- إذا لم أذكره لك، سأذكره لنفسي.

ابتسمت وقالت:

- حقًا أنت مريض، ماذا ينقصك؟

- ينقصني الكثير، وأنت تعلمين.

- أنا أعلم فعلًا أنك طماع.

- من الغريب أنك تصفين زوجك بالطمع، وأنت أكثر طمعًا منه، بدليل أنك كل يوم تطلبين أشياء لا حصر لها ولا عد.

- أنا أطلب الأشياء الضرورية للبيت، وهي أشياء ممكنة ولا تزيد عن طلبات كل شهر، ولا تحملك أكثر مما تطيق، أم نسيت أنك أب وعندك أولاد.

- من أجل هؤلاء الأولاد أنا أحلم بالثروة الطائلة.

واستمر الحديث عن الحلم شهرًا آخر، وكانت قد اعتادت ذلك الحديث ولم تعد تنفر منه، وهو يتساءل متى يتحقق، ويجد المال يسيل بين يديه؟

وعاد في يوم يصيح ويقول:

- انظري، إنها ورقة صغيرة تحمل ما توقعت، كنت ذاهبًا إلى السيارة بعد انتهاء العمل، فوقعت مني سلسلة المفاتيح في الطريق، انحنيت؛ لالتقاطها وإذ بصري يقع على هذه الورقة الصغيرة مدفونة في التراب، ولا يظهر منها إلا جزء صغير، ولا أعرف لماذا أخذتها مع أني لم أقرأ فيها شيئًا يدعو إلى ذلك؟ ورفعتها إلى أعلى كما حدث في الحلم، الورقة في كفي أو بين أصابعي، لا يوجد اختلاف كبير، وقرأت في الورقة أنه مطلوب خبير تخطيط لشركة كبرى، ومكتوب العنوان، ومن الغد سأكون هناك.

هزت كتفها دون أن تعلق، ولوت فمها، وأدارت ظهرها كأن الأمر لا يعنيها. عاشت مع زوجها ما يقرب من خمسة عشر عامًا، وفهمته كما تفهم المرأة زوجها، ورأيها فيه أنه يجرى وراء طائر يسبقه ويحلق في السماء، لا يلحق به، ولا يغلق عينيه عنه. وعند الضحى رجع فؤاد يحمل رأسه فوق كتفيه وكأنها تدلت على صدره, صعد ببصره إليها بصمت يثير الشفقة، قالت لترفع رأسه إلى المستوى المقبول:

- لا تحزن؛ الدنيا كلها لا تساوى حزنك.

وضع يده على كتفها، جاءت الحركة لا شعورية, فسرتها الزوجة تلقائيًا أنه محتاج إليها، وإلى نظرتها الجادة القانعة؛ فسألته:

- ماذا حدث يا فؤاد؟

- ذهبت إلى الشركة، والتقيت بفتاه تعمل كسكرتيرة، وشرحت لها تخصصي وخبرتي الطويلة، وكانت تسمع لي باهتمام شديد؛ مما شجعني أن أقول كل ما عندي وأكثر، ثم عرفتها أني جئت من أجل العمل المعلن عنه في الصحيفة؛ فسألتني أي صحيفة؛ فأخرجت الورقة الصغيرة؛ فكتمت ضحكتها؛ كيلا تسبب لي حرجًا، وقالت: إن هذا الإعلان مر عليه الآن أكثر من عامين، خرجت من الشركة أصغر حجمًا من النملة, وبكيت وأنا في الطريق، وسألت نفسي كيف لم أفكر في احتمال أن يكون الإعلان قديمًا؟

- هون عليك، واسترح؛ أنا غنية بك، وكذلك الأولاد يا فؤاد. 

خلع السترة وناولها لزوجته، وجلس وكأنه يجلس لأول مرة في حياته على مقعد مريح، ويؤكد لنفسه أن النملة أحسن حالًا منه.

- تمت

الرابط المختصر :