; المجتمع التربوي- (العدد 1205) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي- (العدد 1205)

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 25-يونيو-1996

مشاهدات 706

نشر في العدد 1205

نشر في الصفحة 58

الثلاثاء 25-يونيو-1996

 الشيخ الغزالي.. هذا الصنف الرفيع من الأفذاذ

محمد الجاهوش

 الذين يجمعون العقل المستنير والعلم الغزير إلى القلب الحي، والعاطفة الجياشة، وسلامة الصدر، ووضوح الرؤيا – في عالم الإسلام – قليل.

والذين يسخرون عقولهم وعلومهم وعواطفهم ومراكزهم لخدمة دينهم والذب عن إسلامهم أقل من أولئك بكثير.

وأقل من هذين الصنفين من تحترق قلوبهم، وتتفتت أكبادهم حسرة والما على الإسلام وأمة الإسلام. 

فكيف إذا اجتمعت هذه الصفات في رجل واحد؟! – مقرونة بالسهر الناصب والبحث الدائب وتحدي كل المصاعب. لبيان ربانية القرآن وعظمة الرسول ومحاسن الإسلام، وسمو رسالته ومفاخر حضارته. 

فضلاً عن ملاحقة أعدائه في كل ناد وساح لكشف عوارهم، وتعرية باطلهم، وإبطال دعاواهم، وفضح جهلهم وتأمرهم، ومن يساندهم ويمولهم.

ما نشك أن هذا الطراز الرائع من الرجال هو من ينطبق عليه بحق. قول رسولنا العظيم الله «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» أخرجه العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (149/1)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) 141/7) واللفظ لهما، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (7964) باختلاف يسير. متفق عليه.

إن هذا الصنف الرفيع من الأفذاذ نادر في دنيا الناس يمتن الله تعالى على الأمة بهم كلما اشتد بلاؤها، وطال ليلها وتأمر عليها أعداؤها، أو عنها نفر من بنيها .

ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أنه لا يخلو جيل من وجود هؤلاء الربانيين، يأتون على قدر، فيجددون معالم الدين ويحيون رسومه، وما أمات الناس من سننه، ويقاومون ما أحدثوا من بدع وضلالات، وينطلقون بالأمة في طريق التحرر والنهوض والعودة إلى المنابع الأصيلة.

إلا وإن فضيلة الشيخ محمد الغزالي. فيما نحسب ولا نزكي على الله أحدًا– علم بين هؤلاء العظماء الأعلام الذين توالوا في تاريخ امتناء وجمعوا من صفات الخير والرجولة ما بوأهم منزلة القيادة والريادة، وكانوا كالزهرات المنفردة في الأرض السبخة.

لقد كان رحمه الله تعالى من العلماء العاملين والدعاة الصادقين أصحاب العقول النيرة، والقلوب الحية والعاطفة الموارة، والبيان السديد.

نشأ وترعرع في مدرسة الإسلام حافظاً لكتاب الله تعالى، وتخرج على أيدي الثقات الاثبات من أهل العلم والفضل في مختلف مراحل التعليم في الأزهر الشريف وفي مدرسة الحركة الإسلامية وعلى أيدي منشئيها، صقلت مواهبه ونمت ملكاته، وعرف حقيقة ما حصل من علوم، وأبصر مجريات الأحداث بعين البصيرة ورشاد القلب، وفيها وجد ذاته، وفقه عالمية الرسالة وشمولها، وأدرك أنه ما خلق لينال شهادة تؤهله إلى  الوظيفة فالمرتب، شأن الألوف التائهة ممن يحملون أعلى الشهادات وأرقاها ثم إن قصارى جهدهم بعدها – زوج ومسكن، ومن كان ذا طموح تطلع إلى رصيد يدخره لسود الليالي، والعصيب من قادمات الأيام.

لقد أدرك الشيخ . رحمه الله - الحكمة من خلق الإنسان، وأهمية انتمائه للإسلام، وأن المسلم الحق من يؤمن عن يقين أن محياه ومماته لله رب العالمين. 

إنه بهذا لم يعد فرداً تهمه نفسه أو أسرته وبلده فحسب، لقد غدا مسؤولا عن دين ترك علماء الوظيفة نصرته، وجهل جل أتباعه عظمته، وتعمد محمد الغزالي الأعداء تشويهه وطمسه، فآلى الشيخ – رحمه الله- أن يتصدى لهؤلاء وأولئك جميعا، وأن يسألهم في شتى الميادين، وينازلهم في كل معترك مهما لقى من عنت أو اضطهاد. 

لم يكن ما أخذ الشيخ به نفسه من عزيمة ونزال طفرة عاطفية ولا ثورة آنية أملتها حدة الشباب أو ظروف المواقف المذلة التي جثمت على صدر الأمة، لا.. إنما كان ذلك ضمن رؤية واضحة وغاية نبيلة وتخطيط دقيق، وبعدما أعد العدة، وأخذ الأهبة واستوعب ما تعانيه الأمة من ويلات ومشكلات فسبر غورها وعرى جذورها وغدت أوضاع العالم الإسلامي أمامه كصفحة كتاب لا يغيب عن ناظره سطر من سطورها ولا معنى من معانيها.

منهج متميز: 

انطلق الشيخ – رحمه الله – على الإثر يعالج أسس المشكلات وأصولها،  ضاناً بوقته وجهده أن يهدر في فرعيات تضاعف مشكلات الأمة وتزيدها ضياعا .. فإن البيت لا يكون سليما إذا كان طلاؤه حسنا وجدرانه منهارة. 

لقد اقتنع الشيخ عن يقين أنه لا نجاح للمصلحين ما لم ينطلقوا من تمتين القواعد وإحكام الأسس كما أدرك الشيخ - بحق – أن سر تخلف الأمة وضعفها مرده إلى غبش أصاب عقيدتها، وانحراف طرأ على اخلاقها وإصلاح هذين الجانبين كفيل بأن يوقظ الأمة لتبصر سوء واقعها، وتتلمس طريق النهضة والخلاص.

وأيما جهد إصلاحي يغفل هذه الحقيقة فهو بذر ميت وسعي خاسر وجهد غبين، لذا أخذ على عاتقه - رحمه الله – مجابهة المصاعب، وتحدي العوائق، ونذر أن يسخر علمه وجهده وكل طاقاته لإظهار محاسن الإسلام وتجلية نظرته لقضايا الكون والإنسان، متخذاً منهج النبوة دستوراً في سلمه وحريه في صداقاته وخصوماته، في محاوراته ومناقشاته، وفي كل ما يأتي ويذر من الأعمال مبتعداً - تمام الابتعاد عن إضاعة الوقت والجهد في فرعيات الأمور وجزئياتها، لا سيما تلك التي مضى زمنها، وعلى أثرها، ومات أهلها ونسي الناس تاريخها.

وإنه لعجز بالداعية أن يرى السهام مُصَوِّبة إلى دينه وأمته من شتى الأعداء ومختلف الجهات، ثم يمضي يريش السهام ليرمي بها صدر إخوانه

ويني جلدته، ناسيا المسكين أنه إنما يقتل نفسه قبل أن يصيب أخاه، وأنه يسهم بكفل في إضعاف امته وهدم ما استعصى من مأثرها على الطغيان.

لقد تسامى الشيخ – رحمه الله – عن مجاراة التافهين والعابثين، وضن بوقته أن يضيع في غير فائدة للإسلام والمسلمين، وصان عمره وجهده من أن يبذل في غير الهدف الأسمى والغاية العليا.

نعم.. تجاوز الشيخ كل ذلك وبرز للناس الداعية الأنموذج في شمول العلم، ودقة الفهم وشدة الوعي وحدة الذكاء، وجراء الجنان والصبر الدؤوب على ملاحقة الأعداء ومتابعة الأحداث فكان الفارس المجلى في بيان عظمة العقيدة الإسلامية ومزاياها، وصاغ أمهات مسائلها بأقوى أسلوب وأندى بيان بعيداً عن تسفيط المناطقة، وتهويمات الفلاسفة ومن قلدهم – في عصور الترف – من علماء المسلمين، وأبرز نظرية الإسلام الأخلاقية في كتابه . خلق المسلم . بثوب جديد وحلة قشيبة، موضحا أهمية الأخلاق وتلازمها مع العقيدة تلازما لا يقبل فكاكا ولا فصالا.

لقد أبان – بالدليل – أن قوة العقيدة من قوة الأخلاق، وأن انهيار االأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان أو فقده، منبها - في الوقت ذاته - إلى أنه لن تكون هناك نهضة سياسية، ولا تقدم اقتصادي، أو زراعي، أو قوة عسكرية تحمي الأمة وترهب أعداها إلا إذا صفت العقيدة، وحسنت الأخلاق، ولن يقاوم الظلم والاستبداد والجهل والتخلف والرذيلة والتحلل إلا رجال العقيدة والأخلاق. 

صدق المواقف:

وأثبت – رحمه الله- بسيرته الذاتية، ومسيرته الدعوية الصورة العملية. والتطبيق الفعلي لهذه الحقيقة.

فكان المنافح الناجح عن مبادئ الإسلام وحقوق المسلمين والفارس المعلم وهو يقود كفاح هذا الدين ضد الظلم والاستبداد السياسي، وضد البغي والتسلط العسكري، ما أذلته السجون، ولا قعد بهمته الأذى والاضطهاد وكان العالم الضليع في الملل والنحل - قديمها وحديثها – عرى القومية العربية ومن رفع شعارها. وتتبع الوجودية والماسونية فهدم حصونها، ووقف بوجه الزحف الأحمر مقاوما ومحذرا وعاش كل عمره يقاوم الصهيونية ويكشف مخططاتها وأساليبها وعملائها ومسانديها، ويهيب بالمسلمين أن يتكاتفوا لدرء خطرها قبل أن تصيبهم جميع شرورها، وبلاياها وجابه العلمانية الحديثة وأتي على بنيانها من القواعد، وهزم سدنتها في كل مناظرة ومحاورة، وكتب له الغلب والتوفيق في كافة جولاته معهم، وختم مجابهتهم بالشهادة ، البطولة، ضد من أبيض فوداه، في محاربة الإسلام والنيل منه.

لقد أعاد للدنيا – بتلك الشهادة- سيرة الرعيل الأول، ولا عجب فهو من عاش عمره متحليا بأخلاقهم، مقتفيا اثارهم لا يصدر إلا عن معينهم.

تقلب الدهر على الشيخ رحمه الله بنعمائه وبأسائه، فما لانت قناته، ولا تحولت قناعته، فكان في الحالين شاكراً صابرا، لم تبطره النعمة، ولا نهنه من صرامته الأذى أو الحرمان.

عاش حياة الجهاد والكفاح بكل أبعادها، وبأوسع ضروبها وألوانها. كبرت سنه فكبرت معها همته وضعف جسمه فازدادت عزيمته قوة ومضاء. لم تقعده شيخوخته ولا ضعف جسمه عن الضرب في الأرض مجاهدا في سبيل الله معلما لكتابه، ناشراً لدينه مبتغيا من فضله، مقيما للصلاة، مؤتياً للزكاة أمراً بالمعروف ناهيا عن المنكر، مقرضا ربه قرضا حسنا، مقدما بين يدي قدمته على خالقه ما هو واجده خيراً وأعظم أجرا.

حسن الختام:

لقد استمر على ذلك إلى أن حم القضاء، وترجل الفارس، وارتاح المحارب، وودع الحياة إلى الرفيق الأعلى: 

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة *** غداة قضى إلا اشتهت أنها القبر

وإنه لعاجل بشراك أيها الشيخ الحبيب أن يختار لك الله - تعالى – جوار الروضة التي طالما نرفت في جنباتها العبرات وأنت تؤلف فقه سيرة صاحبها r.

فنم هانئ البال قرير العين في أقدس مكان، وأكرم جوار.

وعلى الرغم من الثلم الذي أحدثه رحيلك، فسيبقى الصف صامدا، واللواء خافقا وجهاد الدعوة ماضيا.

إن غراسكم لن تموت ولن تذبل بإذن الله، وستمد الأجيال بالثمر الزاكي والعطاء المبارك، وسيتابع جند الدعوة البلاغ والكفاح لنصرتها والذب عنها. وستكونون من المنارات الهادية لبناة المجد وطلاب المعالي وعاشقي الشهادة وسيظل جهادكم حجة دامغة على من يؤثرون القعود مع الخوالف متعللين بأضعف الأعذار وأوهاها.

فلئن عشت عظيما في حياتك، فقد كنت عظيما في مماتك، وماذا بعد حرصك على العطاء والبلاغ حتى النفس الأخير من عمرك المبارك.

فنم قرير العين هانئ البال فكنانة الله على العهد ماضية، وستبقى دوحة الإسلام ينبت روضها كل يوم حسنا ويطلع كل ليلة قطبا منيرا.

رحمك الله، وتقبل عملك، وأحسن عزاء الأمة بمصابك، ووفق إخوانك وأبناك لحراسة الثغر الذي خلا بغيابك. 

إن المصاب بك جليل، وما أحسبنا سنصاب بمثلك إلى حين .

كلمة إلى الدعاة

الإرادة

يحتاج المرء إلى إرادة يواجه بها ما يحدث له من منغصات فتدفعه إلى الأخذ بالسلوك الصحيح ومغالبة ردود الفعل المتعجلة وترى التفاوت بين الخلق واضحاً في هذه الصفة، ويبرز أخلاقيات وتصرفات كل إنسان ما يملكه من قوة في إرادة التحلي بتلك الأخلاقيات والتصرفات، وصدق الإرادة في مجابهة ما لا يصح من العادات ومعالجتها بما يزيلها ويحل محلها الطيب النافع وليس من المعجز معالجة الإرادة عند المسلم حتى ترتقي إلى الأحسن دوما ففي شرعنا وعباداتنا خير منطلق، رأى الحسن البصري يوما رجلين يسب أحدهما الآخر، فقام المسبوب وهو يمسح العرق عن وجهه ويتلو (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لمن عزم الأمور)، فقال الحسن لله دره عقلها والله حين ضيعها الجاهلون. 

ومن تفحص في التاريخ والسير وجد صورا عظيمة لرجال طوعوا إراداتهم فيما بنى لهم مجدا وأثرا تعداهم إلى قرون بعدهم ولن تعدم أمثلة من محيط مجتمعك لو نظرت ولا خير في رأي سديد ما لم تدفعه إرادة ليأخذ حظه من الثبات والشموخ فيؤثر وينتج.

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ****  فإن فساد الرأي أن تترددا

ومن ضعف الإرادة ينشأ الخوف والتراجع أمام العادات الاجتماعية التي تخالف القيم الإيمانية والسلوك السوي، فتعطل بذلك كثير من الطاقات فيغدو المرء إمعة لا يستطيع أن يبدي رأيا ناهيك عن تبنيه، تاركا الدفة لمن لا يحسن التوجيه، وضعفاء الإرادة ضعفاء الرأي يتخففون من مسئولية البحث الحق ورؤية طريقهم في الحياة فيخوضون مع الناس أيا كان خوضهم قال ابن مسعود رضي الله عنه ولا يكونن أحدكم إمعة قالوا: وما الإمعة..؟ قال: الذي يجري مع كل ريح، فليست هذه من أخلاق المؤمنين الذين ينطلقون على بصيرة من الله وهدى. 

وضعف الإرادة هو الذي يدفع على الخمول والاستسلام للأهواء، بل والسقوط في الرذائل، والاستدراج إلى براثن الشر والمسلم متميز في مجتمعه بصدق توجهه الطيب وتحمله التبعات والصبر عليها باستعانته بالله ثم بالمجاهدة مرتقياً بهمته ميسراً السبيل لمن بعده وقد قيل: إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور فمن صحت إرادته ونضج عزمه ،ارتقى، ويبقى من هو دون ذلك محدود العطاء والأثر.

ومشتت العزمات ينفق عمره *** حيران لا ظفر ولا إخفاق

كل منا عنده من الإرادة بنسب متفاوتة، ما يحمله على طيب السلوك إذا أراد مع تفاوت القدر الذي منحه الله لكل إنسان. والحاجة فقط إلى توجيهها إلى موضعها الذي تجمل فيه ولك أن تتفكر في بعض الحالات مثل من يملك نفسه أمام من هم أعلى منه مكانة أو من لهم سلطة عليه أو تأثير يناله من جرائه أذى، ومن ثم يطلق لها العنان لتتعدى على ضعيف أو من لا يترتب عليه منه مضرة، وقد اعتبر الحالة الأولى صبر وكتم غيظ وحلم واحترام وما إلى ذلك من الصفات النبيلة التي لم تكن هي الدافع الحقيقي خلف سلوكه ذاك وإلا لما تعداها إلى متناقضها مع من لا حول لهم ولا قوة أو لا يتجاوز اثرهم إلى المحبوبات والرغبات وخذ بعد ذلك من المبررات التي ليس لها من الحق نصيب .

عبد الرحمن اللعبون

الرابط المختصر :