; ملامح جندي من جنود الإسلام | مجلة المجتمع

العنوان ملامح جندي من جنود الإسلام

الكاتب عبدالمجيد محمد

تاريخ النشر الأحد 31-مايو-1992

مشاهدات 735

نشر في العدد 1003

نشر في الصفحة 42

الأحد 31-مايو-1992

كثيرون هم الذين دافعوا عن دينهم وناضلوا ومضوا إلى جوار ربهم، ثم نسيتهم الأجيال التي أتت بعدهم، ومن قبيل العرفان بالجميل وحتى لا ينسوا، وإن كان نسيانهم لا يضرهم بشيء، لأنهم مضوا إلى رب لا يضيع عنده عمل- حتى لا ينسوا ينبغي أن تذكر حسناتهم، ونسلط الأضواء على أدوارهم التي أدوها في حياتهم، وأن تذكر مواقفهم لتكون نبراسًا يضيء للأجيال الدروب إذا أطبق الليل ذات يوم.

من منطلق التسليم بقضاء الله الذي لا مراد له، وإذعانًا لإرادة الله الذي بيده الحياة والموت بلغني نبأ وفاة علم من أعلام الإسلام ولغة الإسلام ألا وهو الأستاذ أحمد راتب النفاخ، فتجلدت والأسى يعصر قلبي، ولم يكن بمقدوري إلا أن ينطق قلبي بعبارات الرحمة عليه، وخلوت لأعود بذاكراتي إلى سنوات مضت، ولأعيش بخيالي مع هذا العلم الشامخ الذي كان يقف متساميًا أمام الطلاب في مدرجات كلية الآداب في جامعة دمشق؛ ليدافع عن دينه، ولينشر لغة هذا الدين بعطاء لا يعرف الحدود، حتى كان يرهق نفسه متفانيًا بشكل لا مثيل له، وكنا نلاحظ أن آثار الإرهاق بادية عليه.

لقد كان -رحمه الله- جنديًا من جنود الإسلام، يدافع عنه القوى الصليبيةَ والاستشراق، وكان من الطبيعي أن يُكثر أثناء محاضراته في الجامعة وفي بيته أمام ضيوفه التعرض لهذين الصنفين من الأعداء، كاشفًا دسائسهما، مزيًلا الستر عن خباياهما، ومحذرًا من مخاطر الانزلاق أو الوقوع في إشراكهما.

لقد كان مدركًا لخطط أعداء الإسلام، وكان يحس بخطورة الموقف إحساسًا عميقًا، وكنا نحس بذلك عندما يستغرق في حديثه عنهم فتتدفق كلماته العنيفة بصوت جهوري قوي النبرات، حاد العبارات، بين الدلالات، صريح المعاني، لا يعرف المواربة أو المهادنة، أو الغموض، وهذا هو السبب الأكبر في عدم حصوله على لقب دكتور، ولم يكن يأبه للحصول عليه كما صرح لنا بذلك؛ فقد كان موضوع أطروحة الحصول على شهاده الدكتوراه «قراءات القرآن»، وأثناء بحثه تعرض للتيار الذي سيطر على مصر في أوائل هذا القرن، وكعادته كان موقفه صلبًا لا يرضي رموز هذا التيار وتلاميذه، لذلك ومنعًا للاصطدام آثر ألا يقدم الأطروحة، وهذا سبب من أسباب ترتب عليها عدم ظهور هذه الجهود إلى النور، ولعل الله ييسر من يتولى هذه الأطروحة، ويخرجها من خبايا مكتبة أستاذنا رحمه الله، وينشرها بين الناس لتعم الفائدة.

ذكرت أنه -رحمه الله- كان ناذرًا نفسه لمحاربة الصليبية والاستشراق، ومما لا أنساه التأثر الذي ارتسم على وجهه، والأسى والغضب عندما نقلت إليه أنني اكتشفت أن إحدى الطالبات النصرانيات والتي كانت تدرس معنا، والتي كانت على وشك التخرج مرتبطة بالفاتيكان ومكلفة من قبله بدراسة اللغة العربية لتعمل مبشرة بعد التخرج في موريتانيا أو في أي بلد عربي آخر.

لقد كان -رحمه الله- ميّالًا إلى الكمال في كل شيء، ولا يرضى بالنقص حتى في حياته وفي كلامه؛ إذ إنه كان يختار الكلمات المعبرة بعمق ووضوح، وقد ذكر لنا في إحدى الجلسات التي كنا نتردد عليها في بيته استزادة من علمه- ذكر لنا بأنه كان يتخلص من بعض الفصول في أطروحته عندما يعتقد أن فيها نقصًا، أو أنه بدا له رأي أصوب من الرأي المقرر فيها.

وهذا هو السبب الثاني في عدم تقديمه للأطروحة للمناقشة؛ إذ كان يصعب عليه أن تتعرض للنقد، ولعل هذا أيضًا من الأسباب التي جعلت إنتاجه الأدبي قليلًا.

كان يعطي ويمنح بلا خجل في مكتبه، في المدرج، في الممرات، في أي مكان وجد فيه، كان العطاء له خلقًا، وكان لا يخلو بيته من طلاب العلم أبدًا حتى إنني كنت أنتقد تصرفه وتصرفهم؛ فمثل هذا العالم يترك ليدون علمه ولتعم الفائدة منه.

كان يدرسنا مادة الأدب فأحس بأننا ضعاف في ماده النحو فقرر التبرع لنا بمحاضرات في هذه المادة، وأخذنا نتردد على محاضراته لنستفيد، فكان يغوص في أعماق المسائل النحوية غوصًا يعجز النبيه من الطلاب عن مجاراته فيه أحيانًا.

لقد كان -رحمه الله- غيورًا على الإسلام ولغته؛ فقد كان لا يتكلم إلا بالعربية الفصحى حتى ولو كان كلامه مع إنسان عادي، وأما معنا نحن أصحاب الاختصاص فقد كان أحيانًا يستعمل كلمات يستعصي علينا فهمها؛ فنطلب العون من معاجم اللغة العربية.

لقد كان -رحمه الله- على الرغم من شموخه وتساميه متواضعًا أشد التواضع، ولا يمكن أن أنسى الموقف المحرج الذي وقعت فيه عندما كنت منفردًا عن المجلس في بيته داخل مكتبته أطالع في مؤلف لا يوجد إلا عنده، وكنت مستغرقًا لا أحس بما حولي، ففوجئت بكوب من الشاي يوضع على الطاولة، رفعت رأسي لأرى من الذي وضعه؛ فإذا بالأستاذ راتب يقف بقامته العالية وليس في المكتبة غيري فاعتراني ارتباك واضح وخجل من تواضعه.

رحمك الله يا أستاذ راتب؛ فقد انتقلت إلى جوار ربك وعزاؤنا فيك أنك قد نقلت أفكارك إلى جيل آخر، وأعطيت راية الدفاع عن دينك ولغته إلى أعداد كبيرة ممن تتلمذوا على يديك، وهي فئة لا تنسى فضلك عليها، وأسال الله أن يجعل عملك هذا في ميزانك يوم القيامة، وجزاك الله عن الإسلام وعنا خير الجزاء، ورحمك الله رحمة واسعة، وأحسن مثوبتك.

وأختم كلامي بنداء إلى كل الذين لازموا أستاذنا من الإخوة والزملاء بأن يفرغ نفسه أحدهم ليكتب عن أستاذنا كتابًا يبين فيه صفاته وخصائصه وأفكاره لتنتقل إلى الآخرين، ولتعم الفائدة المرجوة، وهذا أقل ما يمليه علينا الاعتراف بالجميل لهذا الجندي الذي عاش حاملًا لواء الدفاع عن دينه، حاملًا سلاح اللغة العربية.

السعودية -بريدة

الرابط المختصر :