; قصة العدد.. خيَانة عظُمى | مجلة المجتمع

العنوان قصة العدد.. خيَانة عظُمى

الكاتب يوسف موسى نصار

تاريخ النشر الثلاثاء 14-سبتمبر-1971

مشاهدات 20

نشر في العدد 77

نشر في الصفحة 12

الثلاثاء 14-سبتمبر-1971

قصَة العَدد

بقلم: موسى نصَار

خيَانة عظُمى

نهض عبد الرحمن من رقدته، وتمطى بجسده، وارتفع به على أطراف أصابع قدميه، ينظر من النافذة ذات القضبان الحديدية الغليظة؛ ليعرف كم من الزمن قد مضى عليه راقدًا... كان الظلام حالكًا داخل الزنزانة، ولكن في الخارج كانت أضواء المدينة المتوهجة تبدد قليلًا حلكته، وفكر في أنه ربما كانت الساعة الآن تجاوزت العاشرة مساءً.

سحب المقعد الخشبي الصغير من زاوية الزنزانة وثبته تحت النافذة، ثم صعد عليه... وهكذا تعود أن يفعل كلما أحس بالضيق أو الملل، أو عصفت في نفسه المشاعر الهائجة الحانقة، تشبث بيديه بقضبان النافذة، وأسند رأسه إليها، وأخذ يتطلع إلى المدينة بأضوائها الباهرة التي تبدد ظلمة الليل، وكانت تترائى إليه في مكانه هذا.. أصوات أبواب السيارات ممزوجة بصراخ الباعة ولغط الناس، وأصوات أخرى كثيرة: منها المزعج المنفر، ولا يخلو بعضها من موسيقى ترتاح لها الأذن، كانت على أي حال «سمفونية» الحياة تعزفها مدينة لاهية عابثة.

رفت على شفتيه ابتسامة لا يستطيع المرء أن يجد لها وصفًا دقیقًا.. كانت أقوى ما عبرّت به حواسه عما يجول في نفسه من مشاعر متناقضة متنافرة.. غضب.. حقد.. رثاء.. حب.. ألم.. صبر.. اشمئزاز لم يستطع، بل ولا يمكن أن يكون باستطاعته التعبير عن هذه المشاعر، والأحاسيس المختلفة المتباينة مجتمعة إلا بهذه الابتسامة وإلا في هذا الوقت وهذا المكان. كان يود لو أنها تجمدت على شفتيه أبدًا.

.. هز رأسه وكأنه يستحث خياله المنطلق إلى الجنوب.. إلى هناك حيث بدأت يد القدر ترسم حوادث قصته، تحْبك جوانبها بكل عناية وإتقان.

كان جنديًا التحق بالجيش رغم معارضة أهله الذين كانوا يودون لو أنه التحق بالجامعة.

وتحذيراتهم بأن الجيش في تلك الظروف لا يناسب شابًا مثله، عرف ما عرف عنه من صفات وأخلاق، وكان يرد عليهم مفندًا اعتراضاتهم في كل مرة: لا يجوز الاستسلام للواقع الخاطئ.. إنني أود أن أخدم بلادي في أشرف ميدان وهو ميدان الموت. سأتحمل ما ألقاه من مصاعب وعقبات في سبيل بلادي الحبيبة، إنني لم أفقد الأمل في حال أفضل يسود بلادنا ليعود إليها وجهها الطاهر الأصيل، وفي سبيل ذلك، وفي سبيل خدمة أمتي سأبذل روحي، والتحق بالجيش، وتحمل «سماجة» كثير من الضباط «المائعين» الذين لا نصيب لهم من علم أو خلق، أو حتى أدنى حد من الخبرة العسكرية ذاتها، كل مؤهلاتهم أنهم طلاب «فاشلون» أظهروا تأييدًا للحزب، ومن أجله هربوا من مقاعد الدراسة ليقيموا المظاهرات؛ فكافأهم الحزب على ذلك بأن فتح أمامهم أقوى حصون الوطن وأمنعها، ليعيثوا فيه فسادًا، وتحمل التقاليد العسكرية الثقيلة، وأدى واجباتها المعقدة صابرًا محتسبًا.

... إلى أن جاء حزيران... و يا ليته لم يجيء.

أرسلوه مع كتيبته إلى الخطوط الأمامية؛ حيث سلموه ومجموعته الصغيرة مدفعًا ثقيلًا، وكان معه ذلك الضابط «المائع الجبان النظرات، المتكسر الخطوات المهتز الأطراف والأردان وكأنه من ذوات الخدود، ذو الشعر المسرح دائمًا الملمع أبدًا، الذي كان يقضي معظم لياليه في خبمته يلعب القمار مع «الرفاق» ويحتسي معهم المشروبات التي تجعله طوال اليوم التالي ثملًا مخمورًا لا يعي شيئًا.

كان عبد الرحمن يعجب في نفسه ويتساءل: - "ما شأن هذا بالحرب، وما علمه بأمور الكر والفر وشؤون القتال.. ويداه الناعمتان كيدي طفل يعبث بهما دائمًا كلما انتابه شعور ما بسلسال ذهبي معلق في رقبته.

هل أمسكت بالبندقية يومًا لتقتل؟!

... ويأتي صباح الخامس من حزيران ليفاجئ الجميع بالحرب تنشب، ويسرع الرجال إلى مواقعهم. كم طرب حينها، ورقص قلبه فرحًا، فها هو أخيرًا يقف في الميدان، ليثأر لكل الإهانات التي لحقت بأمته، وليلقن الأعداء الجبناء درسًا لن ينسوه أبدا، ليعلموا أنه مهما حدث فلا زالت أمتنا تنجب الرجال القادرين على البذل والعطاء، ولا يدري لماذا خطر بباله في تلك اللحظة ضابطه، فأخذ يجول ببصره عسى أن يعثر له على أثر، ولكنه لم يجده، وعلم أنه كان مختبئًا في خندق تحت الأرض محصنًا، وكانت يداه تعبثان بسلساله الذهبي بعصبية وخوف ظاهرين وينتصف النهار«والتقاذف» لا يزال مستمرًا، والجنود من حوله كالأسود، لم يفلح الغبار الذي غطى وجوههم في إخفاء معالم التصميم والإقدام، ولم يفلح الدخان المتصاعد في أن يحجب نظراتهم اللاهبة المستأسدة. شعر بالفخر بهؤلاء الجنود وشعر بالحـب الشديد لهم، ولهذه الأرض، ولهذه السماء يغمر كيانه كله فلم يشعر إلا وهو يصرخ: «الله أكبر.. الله أكبر.. إن الله معنا». رغم حراجة الموقف وقسوة الظروف، فقد شعر بالأهداب ترف وبالوجوه تزداد قسماتها تصلبًا وتصميمًا، بل إنه رأی دموعًا تنساب من عيون الرجال، لم تكن دموع حزن أو جبن، أو ضعف أو وهن.. دموعًا لم يرها من قبل، ويكفي أن تكون دموع رجال يواجهون الموت في ميدان الرجال.. ليكون لها في نفسه قدسية.. وفي كيانه هزة عنيفة..

وبدأت الشمس تنحدر نحو الأفق، والقتال ما يزال مستمرًا، والعدو يحاول أن يتقدم ولو أمتارً قليلة، تمنعه من ذلك نيران الرجال يطلقونها من مدافعهم، وكأنها تنطلق من قلوبهم الملتهبة بالحقد والكراهية لهؤلاء الأعداء الأنذال. الذين لم يكتفوا بابتلاع قطعة غالية على نفوسنا بل يريدون أن يغتصبوا.. ويغتصبوا بقية دولتهم الوهمية..

وفجاة يلمح عبد الرحمن الضابط يخرج من جوف الأرض يزحف على بطنه وكأنه دودة الأرض تهرب من عدو يلاحقها.. زائغ النظرات.. خائف.. يلتفت يمنة ويسرة صرخ فيهم:

«هيا اتركوا كل شيء وانسحبوا... انسحبوا..»

.. تلاقت أعين الرجال في نظرة خاطفة وأيديهم لا تكف عن العمل. كانت هذه النظرة من الوضاحة بحيث كانت كافية جدًا ليفهم كل واحد ما يدور في ذهن أخيه... ومضوا يلقمون مدفعهم القنابل ليلقيها حممًا ونيرانًا على رؤوس الأعداء الزاحفين.

ولكن الضابط تواتيه شجاعة غريبة عنه لم يعرفها طول حياته، فيصرخ فيهم وهو يزحف باتجاههم: «اتركوا الموقع وانسحبوا.. أتخالفون الأوامر؟؟.. إنها أوامر عليا.. أتعصونها ؟؟...» ولكنهم لا يجيبون.. أيديهم تعمل بصمت، وعيونهم معلقة هناك تحت الأفق أمامهم.. وقلوبهم مشدودة إلى السماء بحبل قوي متين. ويقترب منهم أكثر فأكثر؛ حتى ينحدر مسرعًا إلى الحفرة التي يربضون فيها خلف مدفعهم.. ويصرخ بهم ثانية:

«هيا انسحبوا.. هيا.. ألا تسمعون؟؟..

هنا لم يطق عبد الرحمن صبرًا، فصاح فيه: لماذا ننسحب؟؟.. والأعداء مصرون على اقتحام خطوطنا؟!! ننسحب ونترك لهم الطريق ممهدًا مفتوحًا ليصلوا إلى بيوتنا.. ويدنسو حرماتنا؟؟ عد إلى مكانك تحت الأرض واتركنا.. اتركنا نقاتل دفاعًا عن أرضنا وأهلنا.. سنقاتل حتى نموت جميعًا، أو ينهزم العدو ويتراجع.

صاح: «أتخالف أوامري؟؟!!

أتريد إفساد خطة القيادة العليا؟ هيا انسحب.. هيا.. اتركوا المدفع وانسحبوا..

لم يجبه، ولم يلتفت إليه، وإنما كانت يداه تعملان بسرعة، وبصره ممتد أمامه تحت الأفق؛ حيث يصب المدفع حممه ونيرانه.

وعاد الضابط يصرخ: «أتعصي الأوامر؟! إنها خيانة عظمى! سأقتلك..»  واستل مسدسه من جرابه وصوبه إليه، نظر إليه نظرة احتقار جعلت المسدس يرتجف في يده، وانحنى يلتقط قذيفة يناولها للرجل ليلقمها للمدفع وفجأة، يسمع صوت رصاصة تنطلق قريبة منه.. خلفه تمامًا ولكنها لم تصبه، ولم يمت، فيلتفت إلى الوراء؛ ليجد الضابط قتيلًا ملقى على الأرض ومسدسه في يده، وليجد أحد الرجال يمسك ببندقيته.. أدرك ما حدث، ولكنه أشار للرجال بالعمل، فالموقف حرج جدًا، والوقت أغلى من كل شيء..

رفع رأسه عن قضبان النافذة وارتد به إلى الوراء، وهو يتذكر ما حدث بعد ذلك، وكيف أن موقعهم ظل صامدًا مستبسلًا؛ بينما هرب جنود المواقع الأخرى وانسحبوا إلى الوراء، ثم يتذكر كيف كان الهول الأكبر حينما انقضت الطائرات على الموقع تصليه نارًا حامية، تلقي بقنابلها الحارقة؛ حتى قتل كل الرجال وتحطم المدفع... وعندها لم يجد أمامه إلا الانسحاب الى إلوراء. واتسعت ابتسامته تلك -وهو لا يملك سواها للتعبير عما في نفسه -وهو يذكر كيف شهد أحد الجنود.. جنود الكتيبة من المواقع الأخرى، أنه تمرد على أوامر القيادة وقتل ضابطه... وقدم لمحاكمة عسكرية وحكم عليه بالإعدام لخيانته العظمي.

نزل عن المقعد. رمی بجسده على الأرض وهو لا يزال يتمتم.. خيانة عظمى.. خيانة عظمی..

لم يدر شيئًا عن الزمن الذي مر عليه وهو جالس جلسته تلك، وعيناه معلقتان بنافذة ذات القضبان الغليظة، وكأنما شدت بخيط إلى السماء حيث النجوم البراقة اللامعة، وكأنها ثقوب من ثوب أسود حالك السواد، وها هو ينتظر تنفيذ الحكم، وكل يوم يمضي عليه في السجن لا يختلف عن سابقه أو لاحقه.. يقف إلى النافذة.

يراقب المدينة اللاهية العابثة ذات الضجة العالية والأضواء الباهرة.. تنبعث من شوارعها أصوات السيارات وصراخ الباعة ولغط الناس، وتنبعث من مقاهيها وملاهيها الموسيقى والأغاني الخليعة وكأن شيئًا لم يحدث، والدماء الطاهرة لم تسل، والحرمات لم تنتهك، والتراب العزيز لم يدنس.

هكذا كان يقضي أوقاته في السجن في انتظار المصير.

 

... بدأت أشعة الفجر تتسلل من خلال قضبان النافذة بحذر لكن بوضوح كالحق. قوية مستقيمة كالسيف، خجلة ولكن بإشراق، شعر كأن هذه الأشعة النورانية لم تدخل زنزانته فحسب، بل تغلغلت إلى ما هو أبعد من ذلك، إلي أعماق نفسه، فأحس بالصفاء يغشي نفسه ويغسل وجدانه، ووجد لسانه يتحرك، وقلبه يرتبط بعينيه.. تتجه كلها إلى السماء في كلمة واحدة أثارت الدنيا من حوله... یا رب.

                                                                           یوسف نصار باكستان

 

 

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

41

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

32

الثلاثاء 19-مايو-1970