العنوان أدب وثقافة- العدد 980
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الأحد 15-ديسمبر-1991
مشاهدات 12
نشر في العدد 980
نشر في الصفحة 42
الأحد 15-ديسمبر-1991
قصة
قصيرة: الخارج منها مولود
قتلوه..
هم قتلوه
خاطبت سعاد
الطبيبة النفسية باكية منتحبة، وقد سالت دموعها فياضة على خديها، فهدأت الطبيبة من
روعها وقالت:
"هوني
عليكِ... واستلقي على هذا السرير".
وأشارت إلى
أبيها أن يتركها تبكي حتى تفرغ مع دموعها شحنتها الانفعالية، وتصرف شيئًا من أساها
عن قلبها المهموم. وراحت تنشج نشيجًا يقطعه سعال يثير الشفقة والحزن، ثم مسحت
الطبيبة على رأسها وقالت:
"أريد منكِ
أن تقصي عليَّ القصة من أولها إلى آخرها، وأرجو أن تكوني هادئة... وأن تدعي عنكِ
البكاء الآن حتى أعطيكِ الدواء المناسب". وأشارت إليها بإغماض عينيها، فأغمضت
سعاد عينيها، وراحت تتكلم بهدوء:
"كان زوجي
في الخامسة والأربعين من عمره، وقد أصيب بأزمة قلبية كادت أن تودي بحياته، ونصحه
الطبيب أن يسافر إلى ألمانيا ليجري الفحوص اللازمة التي تبين مدى الضرورة لإجراء
عملية جراحية لقلبه المريض. وقد قررت أن أسافر معه؛ حتى أخفف عنه وحشة السفر،
ولأكون بجانبه إذا ما جرى له مكروه. وقد فرحت -أيتها الطبيبة- لأنني سوف أرى أخي
الذي خرج من البلاد وقطع دراسته الجامعية؛ خوفًا من ظلمهم وبطشهم. إنه وحيد أمي
وأبي، لقد نجا بروحه بعد أن قبضوا على أكثر أصدقائه بحجة انتمائهم إلى التيار
الإسلامي. ورحت أجمع كل ما كان أخي يحبه من تين مجفف وزبيب ومشمش ومرَبَّى؛ حتى
إني أخذت لفتين من قمر الدين؛ لأنه كان يحب منقوعه، وخاصة على مائدة الإفطار في
رمضان.
وحان وقت السفر
وتوجهت الطائرة إلى ألمانيا، واستسلمت إلى حلم لذيذ أنني سألقاه بعد أعوام سبعة.
وكانت خيالات متنوعة تراودني، فأحيانًا تبدو ذكريات الطفولة اللذيذة حين كنا
نتسابق في ملاحقة الفراشات الملونة ونجمع الورود والزهور المتنوعة. آه ما أجملها
من ذكريات حُفِرَت في صفحة الذاكرة، ولن تمحوها الأيام مهما امتدت. وأحيانًا أتذكر
خروجه وسفره متخفيًا دون كلمة وداع لنا. وحطت الطائرة على أرض المطار، وخرجنا مع
الجموع إلى صالة المستقبلين، واشرأبت عنقي حتى تكتحل عيناي برؤية أخي، وتصفحت
الوجوه ولكن دون جدوى. وسألت زوجي: أليس من المعقول ألا يأتي أحمد لاستقبالنا؟
"يا ابنة
الحلال، الغائب عذره معه. شاغل قد شغله". وفي الطريق إلى الفندق كانت الوساوس
تنتابني، وتفترس البِشر في وجهي. واسترحنا حتى خيم الليل، ثم خرج زوجي يتصل بأخي.
ولكنه لم يغب طويلًا، ورجع متغير الوجه، وابتدرني قائلًا:
"لقد اتصلت
به فأخبرني صديق له بسفره إلى إيطاليا لمهمة عاجلة".
وعند ذلك أحسست
أن الغرفة تدور بي، وأن الأشياء ترقص وتهتز أمامي. وشعرت برغبة جارفة في البكاء،
ولكني كتمت ذلك في قلبي حتى لا أزيد من إرهاق زوجي فأسبب له أزمة، وأنا في هذا
البلد غريبة ضعيفة. ثم رماني زوجي بعينه وقال بابتسامة يشوبها الاستنكار:
"يا ابنة
الحلال... سبحان مغير القلوب... لقد غيرته ألمانيا بمباهجها وفتنتها".
وكتمت ذلك ورحت
في دوامة، هل أصدق زوجي وأكذب مشاعري وأحاسيسي؟ أنني أعرف أخي وصدقه وتقواه وخوفه
من الله، وأعرف مقدار حبه لي... لا.. لا لا يمكن أن تغير ألمانيا أخي أحمد. وخرجنا
في اليوم الثاني من عيادة الطبيب، وكم كان فرحي كبيرًا حين بشرنا الطبيب بأن زوجي
لن يحتاج إلى عملية جراحية، وإنما يحتاج إلى حمية شديدة في غذائه وإلى دقة متناهية
في تناول دوائه. وما كان ينغص عليَّ سعادتي سوى موقف أخي أحمد.
وحان موعد
العودة وجلست وحدي أبكي بكاءً مرًّا، وأخذت أحدث نفسي: هل تغيرت يا أحمد؟ أين صلة
الرحم التي كنت تنادي بها؟ أين تعاليم الشفقة والرحمة التي كنت تشنف آذاننا بها؟
أين.. أين...؟ ماذا سأقول لأمك المسكينة التي هدها البعد عنك؟ ماذا سيكون جوابي
لأبيك الصابر الذي أنهكته السنون، وأكلت قوته الهموم.
وتحركت سعاد على
سرير الطبيبة، فأحدثت له صريرًا. وفتحت عينيها وقالت:
"لا أريد
أن أطيل عليك -أيتها الطبيبة العزيزة".
"لا...
لا... خذي راحتك... وتكلمي بالتفصيل... إن ذلك أفضل... اخرجي كل مكنونات
نفسك".
"المهم
-أيتها الطبيبة- أننا وصلنا إلى مطار الوطن... وما أجمل هواء الوطن... وتقدم زوجي
إلى نافذة الجوازات، وقدم جوازينا، وجلست على أريكة لأستريح، ولم أصدق عيني حين
رأيت رجلين يمسكان زوجي من عضديه، ويسحبانه... كان يقول:
"لحظة من
فضلكما حتى أخبر زوجتي".
وكانا يصرخان:
"اسكت وامش
بدون أي إزعاج... وإلا...".
"حاضر
حاضر". وأشار إليَّ إشارة الوداع. فلحقت بهم باكية، وأخذت أرجوهم، وأحلف لهم
الأيمان، أن زوجي بريء، إنه مريض بالقلب، إنه يحتاج إلى دقة في تناول علاجه، إنه
بحاجة إلى حمية شديدة. فانتهرني أحدهم وقال:
"كُفِّي عن
هذا النباح... إنه مجرد تحقيق بسيط... وسيأتي إليكم في الصباح".
وغاب عن
الأنظار، وجلست أبكي حتى كاد قلبي يخرج مع دموعي، ثم قمت واتصلت بوالدي:
"تعال خذني
من المطار لقد أخذوا عبد السلام".
"كيف...
ولماذا؟"
"تعال،
وستعرف كل شيء".
ومضى أسبوع على
عبد السلام ولم نسمع عنه أي خبر، وكنت كثيرًا ما أجلس وأغيب عما حولي، وأنا أفكر
في قلبه المريض، وفي الدواء الذي أمر الطبيب أن يأخذه بدقة متناهية، وفي غذائه
الذي نصح الطبيب أن يتناوله في حمية شديدة. وكانت ترن في أذني كلمات الطبيب:
"عليك أن
تبتعد عن الإرهاق الفكري، وعن الانفعالات النفسية، وأن تريح جسمك من أي
مجهود".
كنت أشعر أنني
لن أراه لأني أسمع الكثير عن كرم الضيافة الذي يلاقِي به أولئك نزلائهم.
وبعد أسبوع
-أيتها الطبيبة- طرق بابنا بعد منتصف الليل، فأجاب والدي بصوته المتهدج:
"من
الطارق؟"
"افتح...
إن معي عبد السلام".
وفتح والدي
الباب مرتعدًا، وإذا بجنديين يحملان عبد السلام على محفة، ولم أصدق عيني، فقد شحب
لونه وغارت عيونه، وبدت آثار صفعات على خديه، ولم يكن يملك القدرة على القيام، فقد
تورمت قدماه. ثم أخذت حاله تسوء، وكنا نسأله:
"لماذا
أخذوك من المطار؟ ماذا سألوك؟ ما هذه الخطوط الزرقاء المنتشرة على جلدك؟"
ولكنه كان يكتفي
بالصمت وبالدموع. وكان يكتم ذلك في قلبه المنهك المتعب. وبعد عشرة أيام، وفي إحدى
الأمسيات قال لي بصوت بطيء يقطعه تنفس محدود، وزفرات وتنهدات:
"أظن أن
ساعتي قد قربت. ولا بد أن أفضي لك بسر أخفيته عنك... إنني -يا سعاد- لم أتصل بأخيك
أحمد في ألمانيا، وادعيت أنه مسافر إلى إيطاليا. لقد ظننت أنني أنجو بذلك من سخطهم
ومن ظلمهم، وظننت أنهم يصدقوني... لقد حلفت لهم أيمانًا مغلظة. ولكنهم عذبوني
عذابًا شديدًا... بل على العكس اعتقدوا أن ورائي سرًّا خطيرًا، فليس من المعقول
ألا تلتقي بأخيك الوحيد بعد غياب سبع سنوات... لقد أصابتني أزمة قلبية عندهم...
وكدت أفارق الحياة... ولذا أخرجوني إليكم...".
وأخذ يلهث في
تنفسه وكأنه يحمل حملًا ثقيلًا، وأخذ العرق يتصبب من جبينه ومن صفحة عنقه، ثم مسك
صدره الأيسر وفتح فمه، وشخص بعينيه، وانسلت آخر خيوط الحياة من وجهه. وانفجرت سعاد
باكية، وتشنجت يداها، وبدأ الزبد يخرج من فمها فخف والدها. ومسح دمعة فرت من عينه
وقال:
"كفي يا
بنتي... احتسبي ذلك عند الله... لقد كنت ألوم أخاك على مسيره في التيار
الإسلامي... وكنت أظنه متطرفًا كما يقولون".
وقطعت الطبيبة
كلامه وقالت:
"لقد أحسنت
صنعًا بقدومك إلى بلدكم الثاني... ولا بد لكم من مراجعة بعد شهر، وأسأل الله أن
يعينكم على مشقة السفر".
"اسألي
الله أن يعيننا على الوقوف أمام نافذة الجوازات في نقطة الحدود... إن الداخل إليها
مفقود، والخارج منها مولود".
أبو ياسر
من
وحي المحنة
عن مكتبة
الصحوة، ودار الإيمان، ومكتبة البشرى الإسلامية، صدر حديثًا كتاب "ومن وحي
المحنة" لمؤلفه بدر محمد ملك، وهو عبارة عن انطباعات وتطلعات نخبة من المجتمع
الكويتي، دُوِّنَت من خلال المحاورات واللقاءات التي أجريت معهم، وقد سجل الكتاب
تطلعات هذه النخبة ونظراتها المستقبلية، من وحي المحنة التي عصفت بالبلاد والعباد،
وذلك بهدف إبراز التراحم العظيم، والتلاحم الكريم في صمود أهلنا وكفاحهم أثناء
الاحتلال العراقي الغاشم لوطننا الحبيب. وإذا كان توثيق الوقائع، ورصد الأرقام، من
اللبنات البارزة في جدار التاريخ الإنساني، فإن تسجيل وتوثيق مشاعر الناس تجاه
الأحداث المهمة أساس ذلك البناء الذي يعلو بحسن الاستفادة والاتعاظ من التجارب
السابقة؛ لأن الإنسان بأحاسيسه ومعاناته ونظراته يظل روح التاريخ وجوهره الذي من
أجله يدور دولاب التاريخ.
وبعد أن قال
الجميع كلمتهم في غزو العراق للكويت، فلقد آن الأوان للعالم أن يسمع شهادة أهل
الكويت ممن عانوا المحنة ودفعوا الثمن، وآن للتاريخ أن يسطر بكلمات من ذهب على
صفحات من نور جهاد أهل الكويت ورباطهم.
وآن للساقطين في
وحل الدجل البعثي أن يروا شمس الحقيقة الساطعة. هذا وتقرأ في الكتاب ما قاله د.
خالد المذكور، اللواء خالد بودي، الشيخ جاسم مهلهل، المقدم "أبو فهد"
خالد السلطان، فيصل الزامل، أحمد باقر، وزوجة الشهيد يوسف خاطر، وغيرهم وغيرهم من
شخصيات المجتمع الكويتي. جزى الله المؤلف الفاضل خير الجزاء، ونفع بكتابه الذي
يعطي صورة كاملة "من وحي المحنة".
شجون السجون
تبكي السنون..
فالعار ضرّجها
بألوان الدماء
ولقد أساء
تبكي العيون...
فلقد نسينا دمعة
"شفافة"
رغم البلاء
حتى السكون...
هجر السكون ولاذ
يجهش بالبكاء
والأم ما زالت
تئن على الحبيب
فإذا "طفت"
في حزنها
عادت
"لتغرق" في النحيب...
ابني ومالك
مهجتي
دوّى صداها في
الظلام
وفي الفضاء...
ولا مجيب
وتعود تجتر
الشجون
والابن في تلك
السجون
يدعو ويرنو
للسماء
تترقرق الدمعات
في عينيه...
تلمع بالرجاء
فإذا أفاق لوهلة
من حزنه وجد
الشقاء
والآخرون...
كل أسير موثق في
همه
وفؤاده - شغفًا
- يتوق لأمه
والنفس طابت
عندما
حكم القضاء
والمسلمون...
في غفلة
يتناوبون
فإذا أفاقت
عشرة...
نامت مئون
فإلى متى تُنسى
الأسرى...
يا غُفاة؟
وإلى متى ننسى
الحيارى...
الأمهات؟
وإلى متى...
تبكي السنون؟!
حمد المير
وصف المقال
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل