العنوان أفعى خيبر (قصة تاريخية قصيرة)
الكاتب د. نجيب الكيلاني
تاريخ النشر الثلاثاء 21-يوليو-1970
مشاهدات 16
نشر في العدد 19
نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 21-يوليو-1970
سقطت «خيبر»، تهاوت القلاع الحصينة، وانهارت الأسوار، وترددت في الآفاق صيحات الندم والاستسلام، ثم حط على أرض المعركة وجوم وصمت عاصفين.. ثم هزت الأرجاء هتافات المنتصرين «الله أكبر.. الله أكبر»، ثم خشعت الأصوات.. وتطلعت اليهودية «زينب بنت الحارث» زوجة القائد الأكبر «سلام بن مشكم» إلى جثة زوجها!! هذا يوم لا تنساه.. مات سلام ذهبت كل الآمال والذكريات.. وتحجرت الدموع في مقلتي.. الدمع عصاني يا زوجي المسكين ويحي.. ويحي.. جلل العار حياتي، والذل يهوم على رأسي.. منذ ساعة كنت سيدة «خيبر الأولى»، والنسوة يشرن إلى بالبنان، والرجال يفسحون لي الطريق، والخدم والعبيد ينحنون ويحملون أذيال ثوبي.. آه.. واليوم أنا إحدى السبايا.. زينب بنت الحارث إحدى السبايا، كنت أحلم بأن ننتصر على المسلمين، ونسوق محمدًا في الأغلال، وتأتي زوجه عائشة ابنة أبي بكر لتركع أمامي،.. وتدلك أقدامي بالطيب، وتمشط شعري بالزيت والمسك، وتحرك المراوح أمام وجهي اتقاء للحر، وتتلقف من ورائي فتات الموائد، كيف انعكست الآية، وتبخرت الأحلام؟؟ ذابت كل الأمنيات الجميلة، وبعد قليل أسير في موكب الذل والعار، موكب السبايا؛ لأخدم نساء المسلمين، ويتمرغ شرفي العريق في الأوحال..
ثم ذلك العبد الحقير الذي وهبته الحرية بالأمس، ووهبته جسدي وحبي حتى يقتل محمدًا.. لقد هرول إلى هناك، وأعلَن إسلامه، لقد تشبثت بأذيال ثوبه.. ذرفت الدموع.. وضرعت للعبد الحقير أن يكون لي وحدي، ليخفف من أسى الزمان وغدره.. ودعوته كي نهرب، ونعيش في أرض بعيدة، ننعم باللذة كي أنسى العذاب.. وكنت أحبه.. ألا يكفي أنني أحببت عبدًا؟؟ وقلت له سأجعل من خدي لك وطاء.. لكنه تمرد.. احتقرني وأنا سيدته، ورماني بكلمات أقسى من وقع السهام قائلًا:
«لن أبيع آخرتي بدنياي.. سوف أركض إلى الله لأنال الغفران»..
وتركني ومضى.. فلتذهب إلى الجحيم أيها العبد النذل..
آه.. اليأس يطوق عنقي، ويغلل فكري، ويلهب كياني بألسنة من لهب.. ما قيمة الحياة بعد ذلك؟؟ مات الرجال.. ومات «سلام بن مشكم»، استراحوا لا عناء ولا ندم ولا شقاء بالنسبة لهم.. ما أروع الموت من علاج.. لكن الموت هكذا ونار الحقد تشتعل في قلبي.. إنها ستحرقني في قبري، وتؤرق على نومتي الأبدية، الثأر يا سلام بن مشكم.. يا فارس خيبر، وحامل لوائها.. من يدري؟؟
رب امرأة ضعيفة يائسة مثلي، تستطيع أن تحقق ما عجز عنه الجبابرة.. أحيانًا تكون الخديعة أفعل من بطولة الأبطال..
أحداث صغيرة... صغيرة جدًّا قد تغير مجرى التاريخ.. لم لا أكون آخر سهم في كنانة «خيبر» التي يهوم فوقها الفناء والضياع؟؟
هكذا كانت تفكر زينب بنت الحارث.. بلا دموع.. الوجه محتقن ساخن، والعينان تتأرجحان في توتر.. ترقب المشهد المهول، النساء يقمن خاشعات سبايا.. والرجال يمضون مطأطئي الرؤوس، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة.. وبرقت في ذهنها فكرة.. لِم هذا العناء كله؟؟ ولماذا الحرب والدماء والعذاب؟؟.
هبت واقفة، كشفت الستر عن وجهها، ولوحت بيديها، وهى تصيح بأعلى صوتها: «يا محمد ... أنا زينب بنت الحارث.... آمنت بك نبيا، و بالله ربا، وبالإسلام دينا».
كيف حدث ذلك؟؟ نساء «خيبر» يرمقنها في دهشة، والرجال ترتسم الحيرة والعجب على وجوههم، والمسلمون يطربون لكل من يفتح الله قلبه لنور الإيمان، وليس غريبا أن تخشع امرأة لكلمات الله، وتنضوي تحت لواء الحق حتى ولو كانت زوجة «سلام بن مشكم».. أم حبيبة ابنة أبي سيفان أسلمت وكان أبوها كافرًا.. ألم يذهب عمر بن الخطاب لقتل الرسول ذات يوم، فإذا به يشرح الله صدره للإسلام، ويؤمن بدعوته؟؟.
المتطرفون في عدائهم قد يتطرفون في صداقتهم إذا تغيرت مواقفهم.. وسبحان الله مقلب القلوب..
وهمست في أُذنها امرأة يهودية عنيدة:
- «إن دماء زوجك لم تجف يا بنت الحارث».
ردت في ثقة:
- «لا أملك غير الدموع..».
- «هراء..».
- «الموتى لا يحكمون».
- «لكن هناك آداب الملة، وتعاليمها يا بنت الحارث..».
- «كفرت بذلك كله، واخترت طريقي..».
- «لشد ما تغيرت يا زينب»، قالت زينب بنت الحارث في عنف:
- «الأحداث الكبرى تهدم وتبني».
- «أنت تفلسفين الضعف والهوان يا زينب».
- «بل أحرر نفسي من إسار الفكر القديم.. أنا حرة».
- «لكني أؤمن بالوفاء..».
هزت زينب كتفيها قائلة:
- «وأنا أيضًا ..».
- «لا أفهمك».
وأخذت زينب تروح وتجيء وسط اليهود، كانت تتصرف في جرأة وتحد، وتعلن أمام بني قومها أن الإسلام هو طريق الحق، وأنَّ خطأ الآباء والأزواج لا يلزمها بالانحراف والزيف، ألم يعف محمد عن مجرمي الحرب، ومثيري الفتنة؟؟.
ألم يشفق بأهل خيبر، ويجنبهم شقاء الطرد والتيه في أعماق الصحراء حيث الفقر والجدب والجوع والظمأ؟؟.
«الحق أقول يا سكان خيبر، إن لنا رصيدًا من الخطايا والمخازي لا يُنسى، وزوجي «سلام بن مشكم» أول الخطائين.. لكن الحقيقة تفرض نفسها دائمًا، يجب أن تحموا ما بقي من تراث وأرواح.. ألم يرد إليكم محمد صحائف التوراة التي استولى عليها؟؟
ألم يترك لكم حرية البقاء على دينكم أو الدخول في الإسلام؟؟.. والله لو قطع رقابكم لما لامه أحد.. أعيدوا النظر في أمركم.. واسحقوا حقدكم القديم.. أتفهمون؟؟.
وكان لهذه الكلمات وقعها الطيب في نفوس المسلمين.. وتهامس النسوة في خيبر وأخذن يتغامزن ساخرات، وهن يرين زينب تبش في وجوه المسلمين، وتزداد تقربًا منهم، بل تعد وليمة لمحمد وصحبه.. سبحان مغير الأحوال.. تلك التي كانت تعقد المؤتمرات والمؤامرات في بيتها، وتحرص على القتال، وتهرق شرفها تحت أقدام أحد العبيد، وتبيع نفسها للشيطان.. أصبحت من المؤمنات بمحمد.
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يخفف من أثر النكبة على اليهود، ويريد الإحسان إليهم لينزع ما في صدورهم من غل التزامًا بمبدأ الرحمة، وفتح أبواب الصفح والهداية لعلهم يهتدون، وعندما أولمت له «زينب بنت الحارث» لم يمانع فأحضرت له ولأصحابه شاة حسن طهيها.
قال أحد الصحابة، وهو بشر بن البراء في مرح:
- «الجوع شديد.. والجسد مرهق.. وما في كل مرة نجد وليمة دسمة كهذه».
- أمسك بشر ذراع الشاة بيديه، ومال عليها بأسنانه، وما أن استطعمها حتى ازدردها على الفور وهو يتمتم: - «يا له من طعام شهي».
أما الرسول- صلى الله عليه وسلم- فقد سمى باسم الله، وأمسك بالذراع الأخرى للشاة، ولاك منها مضغة: ثم بدأ الاشمئزاز والشك على وجهه الكريم، وسرعان ما لفظ المضغة، والتفت نحو أصحابه قائلًا:
«إن هذا العظم ليخبرني أنَّه مسموم..».
فكف الجميع أيديهم عن الطعام، وهرول أحدهم لاستدعاء زينب، وقدمت زينب شاحبة الوجه، مرتجفة الأوصال، مضطربة الخطى، قال قائل:
- «لقد دسست السم في الطعام يا زينب».
هتفت في استنكار: «أنا..؟؟».
وقال آخر: «تريد قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم-؟؟».
قالت والدموع تغرق وجنتيها:
- «حاشا وكلا..»، وهتف أحد الجالسين:
- «يا أولاد الأفاعي..»، وانحنى بشر شاحب الوجه، وجبينه ينضح عرقًا، وأخذ يضغط بيديه على بطنه متألمًا، ثم أخذ يتقيأ بعض ما في جوفه.
- «أيتها الغادرة... أنظري بشرا..».
طأطأت رأسها، ما جدوى الإنكار والدليل قائم، والأمر واضح لكل ذي عينين، وبشر يتأوه ويلهث، ويفرغ ما في جوفه، وعلى وجهه ترتسم أمارات آلام بشعة.
واتجهت «زينب بنت الحارث» نحو الرسول- صلى الله عليه وسلم-، ثم ألقت بنفسها لدى قدميه. وقالت في خبث:
- «لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيًّا فسيخبره الله..».
ونادى مناد بصوت حزين:
- لقد مات «بشر بن البراء» يا رسول الله..
ران الصمت، وخفقت القلوب، وخرج من قلب الانتظار صوت «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 179).
وصاح «الحجاج بن علاط» التاجر اليهودي المعروف:
- «يا معشر اليهود.. اثبتوا ولو مرة واحدة، إنكم جديرون بالعفو والإحسان.. من أراد أن يُسلم فليُسلم.. ومن أراد أن يبقى على دينه فليبق.. أما عذركم فسوف ينقلب عليكم وبالا وعارًا...».
وسِيقت زينب إلى الموت، وقال الحجاج بن علاط لها:
- «لم يكن في قلبك الأسود ثغرة يتسلل إليها شعاع نور».
قالت برغم ارتجافها وخوفها:
- «لست نادمة».
- «الأحقاد تحركك لا المبادئ...».
- «كنت أثأر لقومي..».
- «تحاولين إيهام نفسك بأنك بطلة شهيدة..».
ووضعت بنت الحارث يديها على أذنيها وصرخت، وهي تشهق بالبكاء:
«لا أريد أن أسمع شيئًا.. لا أريد.. عجلوا بالموت».
وسال دم الأفعى على ثرى خيبر ليسطر حكاية جديدة، لتنضم إلى آلاف الحكايات.. التي تخطها أيدي الشياطين من قديم الزمان.
نجيب الكيلاني
دبي– إمارات
الخليج العربي ص.ب 1936
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

