العنوان أين يقف الفنّ المعاصر من قضايا الأمة؟
الكاتب د. محمود خليل
تاريخ النشر السبت 25-أغسطس-2007
مشاهدات 9
نشر في العدد 1766
نشر في الصفحة 46
السبت 25-أغسطس-2007
■ حسن يوسف: الفن هو الحياة.. ومقولة «الفن للفن» عفى عليها الزمن.
■ وجدي العربي: لابد أن يؤدي الفنانون دورهم في مواجهة موجات التحلّل والإسفاف العاتبة.
■ محمد صبحي: الحرية والثروة لا تصنعان فنًا محترمًا.. ولكنهما تفتحان الباب للموهوبين والمبدعين فقط.
■ شهيرة: هناك سباق غثائي.. يجب أيقف أصحاب الضمائر في وجهه.
■ عفاف شعيب: لابد أن يتقدم الشرفاء طليعة الإصلاح والتغيير.
■ يسري الجندي: «هرتزل» الأب الروحي للمشروع الصهيوني كان كاتبًا مسرحيًا بالأساس.
سيظل الفن هو البوابة الأوسع التي يمكن الدخول منها، لتبنِّي قضايا الأمة وتحمل مشروعها الحضاري بكلّ أبعاده، بل وريادتها إلى قضايا المستقبل باستشرافه واستبصاره بمهارةٍ وذكاء.. وكذلك يمكن- كما هو الحال- الدخول من هذه البوابة الفنية الواسعة، لتبديد طاقات الأمة، وتفريغها، وتكريس التبعية والتحلل والانفلات بين أبنائها.. والتعمية والتشويش الذي يصل إلى حد الجريمة على غدها ومستقبلها.. الأمر الذي يستوجب التوقُّف مليًّا مع أصحاب الشأن...
في البداية يرى الكاتب المسرحي يسري الجندي أنّ «قضايا الأمة» ليستْ شارة أو عبارة يرفعها الفنان، ليصبح فنانًا وطنيًا أو قوميًا صادقًا، فقضايا الأمة بحاجة إلى ضريبة وتكلفة ومغارم تمثل «مهرًا» لهذه الصدفية التي ينشدها الفنان المبدع أو المؤدي.. ومن الصعب جدًا، احتكار قضايا الأمة لحساب فصيل سياسي معين أو تيار ما.. فقضايانا تُنادي من يحملها ويعمل لها، خاصة في هذا الزمان الذي تحولتْ فيه كثير من الأنظمة إلى أجهزة مقاولات وشركات سمسرة بحقّ أمتها وشعوبها... خاصة القضايا الجوهرية.. كالقضية الأم قضية فلسطين..
وأتعجَّب حين أجد مشروع الكيان الصهيوني.. كان مشروعًا فنيًا رياديًا.. فقد كان «هرتزل» بالأساس صحفيًا وكاتبًا مسرحيًا، ونحن جميعًا ندرك جبروت «الميديا» الصهيونية، وتوحُّشها في العالم أجمع..
ويضيف الجندي: ولكن هذا الدور يجب أن يتمَّ في إطارٍ تكامليٍّ، لأنَّه من الأدوار التي لا تصلح فيها الأعمال الفردية مهما كانتْ همّة وصدقية أصحابها.. نعم.. قد تؤدي هذه الأدوار رسالة ما في موضوع ما.. أمَّا القضايا الكلية.. أو القضايا الأُممية فيجب أن تكون الهمة والوعي بها والعمل لها بشكل أفضل وأكمل مما نرى..
وبصفةٍ عامة.. أنا غير راضٍ بالمرّة عن الأداء الفني الخاصّ بقضية فلسطين.. من الأربعينيات وحتى الآن.. ولا يجب أبدًا أن نتذرع بهامش الحرية المتاح.. فالفن لا بدَّ أن يشقَّ طريقه مهما كانتْ العقبات والعراقيل.
أما الشاعر الكبير فاروق جويدة.. فيقول: على المستوى الشخصي أعتقد أنني أحتسب نفسي بفنِّي وقلمي لأمتي منذ شرفتُ بحمل هذه الرسالة، وما قدمته من مسرحياتٍ شعرية «كالوزير العاشق» أو «دماء على ستار الكعبة» أو «الخديوي».. أو «هولاكو».. فإنّها تحمل هموم أمتي في الصميم.. ولكن الكاتب أو الشاعر أو الفنان.. الذي يعمل وهو يدجن نفسه خادمًا للسوق، وسلعة رخيصة للشباك.. وماذا يتبقى من هذا الكاتب أو الشاعر أو الفنان إذا سقط ضميره.. وصار أرخص من كل الأشياء حوله.. هؤلاء كُتَّاب مصابون بفساد الذمة
الأخلاقية..
وإذا سقطتْ الأمة من ضمير الفنان.. فقد سقط من ذاكرة التاريخ، وإنَّ كاتبًا مثل هذا «الميّت القلب»، المصاب بالموت الدماغي.. لهو أضرُّ ألف مرةٍ على الأمة من أعدائها.
ويؤكِّد الشاعر الكبير فاروق جويدة على أنَّ الفن بكل ما يملكه من كلمة وصورة وحركة ولون.. وشعر ونثر وخطابة، وتشكيل.... إذ لم يكن رائدًا للأمة في كل قضاياها.. وتحوَّل إلى عائق للوعي.. بانتكاسة إلى ميادين الجنس والإلهاء والإغواء والتَّرف والسرف... فقد تحوَّل من هدفٍ ومشرف.. إلى عمل غير مُحترمٍ.. لا أحب أن أُسميه.
آليات العرض والطلب
أمّا الفنان الكبير حسن يوسف فيرى أنَّ مقولة «الفن للفن» قد عفا عنها
الزمن، وكانتْ تطرح قديمًا تكريسًا لفكرٍ معين مات ومات أصحابه.. بل ماتتْ الدول التي كانت تنادي به.. أمّا الآن.. وبالذات لنا كمسلمين.. فلا يصح أبدًا أن نقول هذا الكلام الخالي من أي مضمون والذي لا يحمل أيَّةَ رسالة ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ (سورة الأنعام آية: 162-163)
فالفن والأكل والشرب والنوم والحركة والحياة وكل ما يدبُّ فيها لدى المسلم.. له غايةٌ ورسالةٌ وهدف.. بل ولا بُدَّ أن يكون هدفًا صحيحًا وساميًا.. فالفن لدى المسلم للحياة.. والحياة وما فيها لله رب العالمين. أي في ظلِّ مرضاة الله...
أمَّا عندما يتحوَّل الفن من أفقٍ هذه الرسالة السامية الشريفة.. إلى «عين في الجنَّة وعين في النار».. كما يقولون.. بمعنى أن يتحوَّل إلى مجرد تجارة.. تحكمها آليات العرض والطلب.. فلا تعجب أن ترى موجاتٍ فنيةً كموجات الفيضان الذي يدمر ويغرق ولا ينفع الناس شيئًا.. فتجد أحيانًا موجة فنية «تكرس» حياة المخمورين والمدمنين وسفلة الناس.. فتؤكِّد السلوك المرَضي دون أن تقدِّم له علاجًا.. وموجة أفلام تروِّج للتخلف العقلي والاستخفاف والتفاهة.. وهكذا.. فضلاً عن أفلام التحلل والإباحية.. والفن إذا لم يكن ضميرًا حيًا للأمة.. فقد تحوَّل إلى سلعة تافهة، تفقد قيمتها عند أول استخدام لها، وسرعان ما تجد طريقها مفتوحًا إلى سلال المهملات.
على جانب آخر، يرى الفنان الملتزم وجدي العربي.. أنَّ الفنان أيًا كان موقعه من خارطة الفن، إذا خسر الله وربح كل شيء؟ فماذا ربح...؟!!
وإذا خسر كل شيء؟ وربح الله.. فماذا خسر؟!!
ويرى البعض أنَّ الناس قد استساغتْ الفن الهابط والرديء والمسف.. لأنّها لم تجد الفن الجيِّد...!! فمن الذي يحمل هذه المسؤولية سوى الفنانين من كتاب ومخرجين وممثلين وشعراء وحتى «كومبارس»... لأنَّه من المعروف لدى كل العقلاء في الدنيا أنَّ العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة من السوق... وأنَّ البقاء للأصلح.. أمَّا أن تصبح كلمة «فن».. مرادفة لطابور من التداعيات التي تحمل «العري والإسفاف والجنس والتبذل» فهذا خلل يحمِّل الفنانون مسؤوليته أولًا.
وعن دور الفن في حمل قضايا الأمة.. فإنَّني أرى أن كل عمل راقٍ يسمو بالذوق ويسهم في ترقية المجتمع، ورفع مستواه الحضاري، ويقدِّم الصورة الصحيحة لرسالة الإنسان في الحياة.. إنّما يأتي في خدمة قضايا الأمة في الصميم.. فالحضارة رسالةٌ وأشياءٌ وإنسان.. وخاصة الإنسان.. لأنّه صاحب الحضارة ومسخِّر الأشياء.. فالإسهام الحضاري للفن في إعادة صياغة إنسان الحضارة هو الخدمة الأولى التي يجب أن يقدمها الفن للأمة.. قبل أن يتحدث عن قضايانا الساخنة كفلسطين والعراق ولبنان وقضايانا العالمية المترامية من السودان والصومال وحتى الشيشان.. ومن كشمير، وحتى المغرب العربي..
وهذه رسالةٌ شريفةٌ ونبيلةٌ وراقيٌة تستحق أن تجيش وتجتذبها الإمكانات والطاقات والأقلام والمواهب الفنية.. لأنَّني ألاحظ موجةً عاتيةً من الفن غير المسؤول... بل غير المقبول أو المعقول.. تمارس بحق الإنسان المعاصر وتحاول مسخه مسخًا كريهًا.
فارس بلا جواد
أما الفنان «محمد صبحي» فيقول: لقد حاولتُ طول عمري أن أحمل فنًا مسؤولًا، وأن أكون رجل قضيّة.. على كافة أبعادها.. فقدمتُ أدوارًا تنادي بتنمية البيئة والبشر، وكتبتُ بعض هذه الحلقات، وعلى مستوى المسرح أعتقد أنني رجل مشغول بقضايا الوطن والأمة والإنسانية..
والفنان الجاد.. صاحب الرسالة.. يستطيع أن يعمل في كل الأجواء الحسنة والرديئة... وأنا أعلمُ جيدًا أنَّ المجتمع يعمل بكلّ قطاعاته بنظرية الأواني المستطرقة... فالفساد في إناءٍ لا شكَّ يتسرب إلى باقي الأواني.. ولكنَّنا نريد أن يكون الإصلاح في «إناء الفن» ساريًا إلى بقية الأواني الحياتية.. ولعلَّ مسلسل «فارس بلا جواد» خير شاهد على ما أقول.. ولعل «ماما أمريكا» أيضًا تصلُح شاهدًا لذلك أيضًا.. والذين يصرّون أن يسموا الهَلْس، فنًّا .. و الغشاء... إبداعًا.. هؤلاء سبَّة في جبين الفن والوطن والإنسان.. والمتعللون بمناخات الحريَّة والاقتصاد....... لن يقدموا شيئًا إلا إذا كانوا هم أهلًا لهذا الشيء الذي يقدمونه.. فالحريّة والثروة لا تصنع موهبة ولا تُقدِّم فنًا .. ولكنَّها تهين مناخًا للمبدعين الموهوبين وأنا أنادي كل الفنانين والمبدعين أن يعملوا بجدٍ وإخلاص ضدّ مشروعات الهيمنة والاستلاب، وضدّ المخطط الصهيوني وخطره على المنطقة..
وأن يقدّموا للإنسان فنًّا محترمًا وهادفًا ومسؤولًا.. وأنا بالمقابل أضمن لهم الربحية التي يتطلعون إليها !!
فيما ترى الفنانة الملتزمة شهيرة أنَّ المناخ السائد من وهنِ علاقة الدولة بمؤسساتها الفنية في ظلّ تقليص دور الدولة وانسحابها من المجالات الخدمية العامة قد أتى على رسالة الفن بشكلٍ كبير.. حيث تحوَّل في الأغلب الأعم منه إلى «سباق غنائي» للدغدغة والزغزغة..
وأصبح الأمر لا يسرُّ عدوًا ولا حبيبًا، وإذا أردتَ مثالًا لما أقول فأنا أدعوك إلى أن تأخذ جولةً في السوق لترى المعروض الآن.. من حيث الشَّكل أو المضمون.. لتعود «قرفانًا» من هذا الغشاء الذي تعجّ به الأسواق بلا حسيب أو رقيب... وذلك للسباق التجاري المحموم على «القروش» التي يمكن ابتزازها من جيب المتفرِّج بمثل هذه الأعمال الهزيلة والمتحررة من كل شيء.. والحافلة بالسلوكيات الساقطة، والألفاظ الفجة، والسوقية، والحركات الجنسية المبتذلة والساقطة، وكأنَّ الفن قد أصبح يمثِّل الثلاثية المعروفة «شهرة- ثروة- جنس»
...ومن هنا فأنا أنادي.. بل وأستجدي.. كل أصحاب الضمائر والإحساس بالمسؤولية.. أن يحملوها على أكتافهم وفي قلوبهم ومشاعرهم.. وأنَّهم صناع أجيال.. وبُناة حضارة..
فمن بناها بخير طاب مسكنه
ومن بناها بشر خاب بانيها
فالله الله في أمتكم وبلدكم ودينكم ومستقبلكم.. واعملوا.. فإنّ عدوكم لا ينام.
وتتفق الفنانة عفاف شعيب مع الفنانة شهيرة في كل ما قالتْ وتضيف: أرجو ألا يكون الالتزام الإسلامي والأخلاقي لدى المبدعين والفنانين والفنانات معناه الانسحاب والاعتزال.. والتواري.. وإذا أراد أن يتخذ فنان أو فنانة هذا المسلك فله ذلك.. ولا يجب أن يجبره أحد على غير مراده.. ولكن أرجو ألّا تتحول هذه الطاقات النادرة إلى طاقاتٍ معطلة.. وتتحوَّل المسألة إلى ظاهرة.. لأنّ الفن الجيِّد والمسؤول والمتبنِّي لقضايا الأمة.. لن يقدمه المهازيل أو المخترقين..
أو السطحيين من العاملين في الحقل الفني.. وما أكثرهم.
فما حك جلدك مثل ظفرك..
فتول أنت جميع أمرك..
ولن يتبنَّى الفن قضايا الأمة.. إلا إذا كان الشرفاء من أبنائها هم الطليعة الفنية الواعية لهذا المشوار الطويل، للإصلاح والتغيير.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل