; إحياء فقه الدعوة.. شرط بشرط | مجلة المجتمع

العنوان إحياء فقه الدعوة.. شرط بشرط

الكاتب محمد أحمد الراشد

تاريخ النشر الثلاثاء 05-فبراير-1974

مشاهدات 13

نشر في العدد 186

نشر في الصفحة 32

الثلاثاء 05-فبراير-1974

دلیل، خریت، رفیق، عالم بديار آبائه وأجداده وشعابها، بينا هو يمشي معه سلاحه، في ليلة غياب القمر، بعيدًا عن العمران: رأى تائهًا هائمًا في الظلام، لا يميز معاني مواقع النجوم، أيتركه يهيم بين يدي الذئاب؟

فكذلك الداعية المجرب الذي لقنه المحنكون أصول الدعوة: ينكسر قلبه شفقة ورحمة كلما رأى هائما في ظلمات الفتنة بين يدي أصحاب المطامع والأغراض فيؤمنه ويوصله أهله، ويؤنسه أثناء الطريق بدروس في مواقع النجوم وأبراج السماء ودلالتها على الجهات كي لا يضل ثانية، ويوصل غيره لو رآه تائها.

وأنوار الفطنة هذه هي: الكواكب الدراري في سماء الدعوة، تزداد بريقًا ولمعانًا كلما زاد الظلام لتزيل وحشة المنفرد، وتهدي التائه الطريق.

 

* عتاب بمقدمة تفسير وخاتمة ابتسام

وللتغافر الذي أصر عليه ابن السماك وتنوعت له ألحان زهير البهاء: أهمية خاصة كأهمية نجم قطب الشمال بين نجوم السماء، فإن الكثير من حوادث نكوص الدعاة ترجع إلى فلتة لسان أو هفوة تعامل لم يغتفروها، والغفران منهم قريب. أو إلى ظن يتوهمون معه حصول تعد تجاههم، أو تقصير وتمحيص الأخبار أو طلب التعليل منهم أقرب.

ولو أنهم عتبوا بلسان خفيض من غير استفزاز لكان خيرا لهم، ولوجدوا من يثني على طيبهم كثناء الشاعر على أصحابه حين أسر طيب عتبهم قلبه فقال:

عتبتم فلم نعلم لطيب حديثكم /// أذلك عتب أم رضا وتودد

وأظهر من ذلك خيرًا لو قدم المستعتب بين يدي عتبة مقدمة تفسير، فيطمن صاحبة أنها جلسة تصارح وتغافر، لا معركة تقارض وتناحر، وأنه يريد أن يفرغ ما في صدره أمام كفو له وحبيب، ترويحًا للقلوب، وقطعًا لمحاولات الشيطان، لا التماسا لسبب هجر، ولا تفكيرا باتهام.

ثم كم هي إيمانية هذه الجلسة، وكم روحانيتها لو ختمها بخاتمة ابتسام يقول معه لأخيه:

قد قضينا لبانة من عتاب /// وجميل تعاتب الأكفاء

ومع العتب والعتاب فإني /// حاضر الصفح واسع الإعفاء

فهو تعاتب أحباب، يؤتى لجماله، وإكرامًا للذي يتوجه إليه العتاب، ليس فيه نوع انتصار للنفس وقبول العذر بعده يكون أدعى وأكد وأحرى بالتقديم.

فعذرك مبسوط لدينا مقدم /// وودك مقبول بأهل ومرحب

ولست بتقليب اللسان مصارما /// خليلي إذا ما القلب لم ينقلب

وهذا هو المهم.. المهم أن القلب لم يتقلب تقلبًا دنيويًا تحركه الأهواء وإنما كان يعتقد ما تمليه مصالح الدعوة، فيصيب ويأتي الخطأ، ولاجتهاده المصيب أجر بعد أجر، وأما الخطأ فينتظره تغافر بين الأخوة، وغفران من الله أكبر.

فإذا عرف السالك يسر التغافر، وغلظة الظلام:

طمع والدفع نحو:

 

* نور خامس، شعاعه: التقوى في الغضب الهاجم

فلا يتكلم ألا حقًا صدقًا.

قال المحاسبي:

«يروى أن الفتنة لما وقعت قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى» «۱»

فهي دواء عام يوصف لكل أعراض الفتن، ولكن خصص بكر بن عبيد الله المزني مذهبين من مذاهب التقوى المتعددة لأصحاب الدرجات العالية، فقال:

«لا يكون الرجل تقيا حتى يكون تقي المطعم وتقي الغضب» «۲»

فالداعية المرتقي لا يكمل إلا بأن يكون غضبه لله، فإن كان: وصل إلى قمة أحمد بن حنبل، وشاركه في الفخر باعتلائها، فإنه كان: 

«يغضب لله ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها فإذا كان في أمر من الدين: اشتد غضبه حتى كأنه ليس هو» «۳»

وإنما تتحقق هذه الصورة بإلجام اللسان، فلا يدعه حرًا، وازنًا كل كلمة يفوه بها، إلا يتهم بريئًا أو يحتج بظن مجرد أو يستنجد بسخرية وتنابز، فيقطع المحسن إحسانه بسببه، ويعتزل العزيز.

وذو التجربة يعرف ما يكمن في الكلام وطبائع نبراته من إمكانات الإصلاح والإفساد، فيتعود الحذر، ويدقق في وزن حروفه، إذ هاهنا يظهر الورع، فليس غير النادر الشاذ من الناس يستعمل يده ورجله للبطش والأذى، لكنه اللسان اللسان الذي أشار إليه عمر بن الخطاب فقال:

«لا يعجبنكم من الرجل طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل.» «٤»

طنطنة التفاخر والتفقه، وأمانة الدعوة، وإعراض الدعاة العاملين.

ولذلك قال يونس بن عبید:

«يعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم» «٥»

واعتبر الشاعر الرد الخاطئ جناية، فقال يصف مجادلة:

أخطأ ورد على غير جوابي /// وجنى علي فقال غير صواب

وباللسان الطاهر: سبق من سبق، وتقدم أبو بكر بدر بن المنذر المغازلي الزاهد صحبه بمراحل فقال الإمام أحمد:

«من مثل بدر؟

بدر قد ملك لسانه.» «٦»

ملكه، وسيطر عليه، وتصرف فيه كيف شاء الورع لا كيف ينطلق الهوى.

وسئل إبراهيم الخواص الزاهد عن الورع ما هو؟

فقال: «ألا يتكلم العبد إلا بالحق، غضب أو رضى.» «۷» فجعله كل الورع.

لا يعني بذلك نفي صورة أخرى للورع، وإنما راعى حاجة السائل وطبيعة الظرف التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث» «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» «۸»

فأنوار الورع وافرة، وامتلاك اللسان منها، ومنها أيضا:

 

* نور سادس، مصدره: وزن المسلم بحسناته وأخطائه معا

فنذكر لصاحب الهفوة المستفزة صوابه الذي قد يطغى عليها، ونرى للأمير المجتهد بذله وتاريخه وسابقاته المنتجة وعطاءه المستمر إذا خالفناه في مذاهبه.

والذي يتأمل الأعمال الجماعية يدرك أن معادن الرجال إنما تستبين في المواطن الحرجة التي تستدعي الفقه والقلب المؤمن، وبمواقفه فيها يرجح ميزانه إلى إحدى الكفتين» الجدارة أو الضعف، كمواطن الخلاف العارمة التي يطيش خلالها التعامل، والعذاب والمحن التي لا يصبر لها الا مليء الهمة، ومواطن الاغراء وتسهيل كسب الأموال والمناصب التي لا يفضل الانغماس في أعمال الدعوة اليومية عليها إلا مطل ببصره على جنان عريضة. أما الزلات العادية، واللمم والحرف الغاضب، والنبرة المنفعلة، وكسل يومين فلم يبرأ منها أحد، ولا يكاد.

والشريعة كلها قد بنيت على مراعاة هذا التكافؤ واعتبار هذه القاعدة في الترجيح، ورب الناس يزن بهذا الميزان يوم القيامة، ولكن البعض ينسى.

فمن أراد إتقان أدب الإسلام في الجرح والتعديل عليه أن يعلم أن: «من قواعد الشرع، والحكمة أيضا، أن من كثرتا حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث.

ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال» اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.» وهذا هو المانع له صلى الله عليه وسلم من قتل من جس عليه وعلى المسلمين وارتكب مثل ذلك الذنب العظيم، فأخبر صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم، لكن منع من ترتب أثره عليه ما له من المشهد العظيم، فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات.

ولما حض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة قال «ما ضر عثمان ما عمل بعدها» «۹»

 

* عائشة تطبق الميزان

وكذلك حال حسان بن ثابت رضي الله عنه «قذف عائشة، وبقي حبه في نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأجيال المسلمين من بعدهم، للذي كان عليه من المنافحة بشعره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن عائشة ردت على ابن اختها عروة بن الزبير بن العوام لما سبه وقالت»

«يا ابن اختي» دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.» «۱۰»

وقريب من ذلك شهادة أخرى لعائشة في أمـر زينب بنت جحش أم المؤمنين رضى الله عنهما، فإنه كان بينهما ما يكون بين الضرائر، وكان في زينب من الطباع ما يؤخذ عليها، ولكن ذلك لم يمنع عائشة من إنصافها والثناء على فعالها الإيمانية، فقالت: «هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب واتقى الله عز وجل وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به، ما عدا سورة من حدة كانت فيها، تسرع منها الفيئة.» «۱۱» أي سريعة البرود بعد احتداد غضبها.

وقد وضعتنا عائشة رضي الله عنها هنا أمام نموذجين ينتقلان بنا الى خطابين»

نموذج زينب، ونخاطب بمناسبته هؤلاء الدعاة من إخواننا الأحبة الذين تشهد لهم بالدين وصدق الحديث وابتذال أنفسهم في أعمال دعوة الإسلام، لماذا تلازمهم حتى الآن فورات الغضب وحدة الألفاظ ويغلقهم العناد المتحدي؟ أليس البحث الهاديء أولى؟ أو ليس الاقتداء بزينب في الرجوع السريع أجمل؟

ونموذج عائشة نفسها، ونخاطب بمناسبته المتزمت المبالغ في تشدده، الذي يظلم إخوانه، فلا يعترف بفضل ذي فضل واسع إذا هفا، والذي يظلم الدعوة، فلا يدعها تنتفع بذي اختصاص مفيد خلط مع كفايته خصلة يعاب عليها.

إن سمت التشدد، وطلب الصفات المتكاملة، إنما يجب للقادة والمربين، وأما ما دون ذلك فإن العمل الإسلامي ينتفع من كل إمكانية خير مهما ضمرت وصغرت ويدير في فلكه كل متعاطف مهما أثقلته العيوب التي لا تعود بضرر على مجمل الدعاة.

وأولى لنا وأصوب أن نقتدي بعائشة رضي الله عنها في إنصافها، وبتلميذها سعيد بن المسيب لما أسرع فهم طريقتها فأوجزها وصاغها بندا في قانون الجرح والتعديل الإسلامي فقال: «ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله» «۱۲»

والزم أخاك فإن كل أخ ترى /// فله مساوئ مرة ومحاسن

وابتسم بعد الامتعاضة من قول تسرع به أخوك فندم، وأطل ابتسامتك، فإنا نحب أن نراك بها، ونحب أن نسألك عنها، ونحب أن نسمعك تقول:

أتاني مقال من أخ فاغتفرته /// وإن كان فيما دونه وجه معتب

وذكرت نفسي عند امتعاضها /// محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب

فما باله إن لم يكن ذنبا وكان مجرد تدلل وتمنع مما يكون بين الأقران حين تأخذهم نشوة الحمد على الهداية والإيمان إذ يرون أنفسهم -دون الناس- في المحل العقائدي الأعز الأرفع؟

أو إذا طلبت الأجمل فاستر ولا تخبر، وتخلق بخلق الكرام، واكذب علينا وقل: ما ثم إلا خير ووفاء.

إن الكرام إذا صحبتهم /// ستروا القبيح وأظهروا الحسنا

وانتظر التلافي {إن الحسنات يذهبن السيئات}.

وما الناس إلا من مسيء ومحسن /// وكم من مسيء قد تلافى فأحسنا

والتلافي يقتضي التأني، ومنح فرصة، وغمض جفن، لعل حياءه يغنيك عن لسانك، وعسى أن يرده حليب طاهر رضعه من قبل فيقبل.

* أمنية، ولا سعد لها

فإذا رسخ فيك خلق الإنصاف، ووزنت غيرك بصوابه تزنه بأخطائه كنت اهلا لان يصارحك اميرك في أمر لعلك تشاء، كما صارح ذاك الخليفة القوي الحجة من خلفاء المسلمين الأوائل جيل المسلمين الذي حكمه فقال:

«أنصفونا يا معاشر الرعية. تريدون منا أن نسير فيكم سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر!» «۱3»

ونقول لك كالذي قال:

أنصف أيها الداعية، وكن عادلا واقعيا، فإنك تريد من القادة انجازا لعله الآن في مثل صعوبة فتوح أبي بكر وعمر، وانت لا تهب دعوتك ما وهبه جند أبي بكر وعمر.

تجمع الأموال، وتخشى الفقر، وتطيل سمرك مع زوجك، وتعطي الدعوة فضول الأوقات، ثم تريد أن ترى المعجزة.

كلا، كلا، بل شرط بشرط.

من أراد أميرا كأبي بكر فليكن كخالد. رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ليس أبعد من ذلك، فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يطقها أبو بكر نفسه، بل قال:

«أيها الناس» لوددت أن هذا كفانيه غيري، ولئن أخذتموني بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ما اطيقها، إن كان لمعصوما من الشيطان، وإن كان لينزل عليه الوحي من السماء.» «١٤»

ولئن أخذنا القادة بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ما يطيقونها، ولكن لنا عليهم الحرص كل الحرص على تحري الأصوب والأصلح، وبذل المجهود في تحري المنافع للمؤمنين.

لقد قاتل أبو بكر بخمس عشرة مائة بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة.

حدث سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:

«كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية.» «15»

فتعال أيها الداعية، ومعك خمس عشرة مائة، واشترط ما تشاء. وموعدنا معك: الشجرة هناك.. اسمها شجرة البيعة: خضراء وارفة الظلال. نراك تحتها غدا، إن شاء الله تعالى.

 

«1» الرعاية لحقوق الله / ۸

«۲» الغنية للشيخ عبد القادر الكيلاني 1/143

«3» مناقب أحمد / ۲۱۸

«4» زهد ابن المبارك /٢٤٣

«5» طبقات الشعراني 1/55

«6» «7» تاریخ بغداد 7/104، 6/8

«۸» صحيح البخاري 1/11

«9» مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/176

«10» صحیح مسلم 7/163

«۱۱» سنن النسائي 7/65

«۱۲» طبقات الشعراني 1/26

«۱۳» عيون الأخبار لابن قتيبة 1/9

«١٤» مسند أحمد، حديث رقم ۸۰ بسند حسن 

«۱٥» صحيح البخاري 5/157

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل