العنوان استفتاء كردستان ومستقبل العلاقة بين أربيل وأنقرة
الكاتب د. سعيد الحاج
تاريخ النشر الجمعة 01-ديسمبر-2017
مشاهدات 20
نشر في العدد 2114
نشر في الصفحة 32

الجمعة 01-ديسمبر-2017
استفتاء كردستان ومستقبل العلاقة بين أربيل وأنقرة
د. سعيد الحاج
حتى إعلان البارزاني عن نيته إجراء الاستفتاء، كانت العلاقات بين أنقرة وأربيل على أفضل ما يرام، بل لعلها وصلت أحياناً إلى حدود التحالف، صحيح أن تركيا عارضت في تسعينيات القرن الماضي قيام حكم ذاتي للأكراد في شمال العراق كما تعارض الآن نفس الأمر بالنسبة لأكراد سورية، لكنها انتهجت سياسة إيجابية مع الإقليم لأسباب كثيرة في مقدمتها قيادته السياسية المنافسة لحزب العمال الكردستاني والمتعاونة مع أنقرة في مكافحته، والعلاقات الاقتصادية بين الطرفين، والمصلحة المشتركة في ظل توتر علاقات الطرفين مع بغداد وإيران.
وهكذا، باتت أربيل أقرب لأنقرة منها لبغداد في كثير من المحطات، أهمها أزمة معسكر بعشيقة التركي في شمال العراق قبيل إطلاق عملية الموصل ضد «داعش»، فضلاً عن اتفاقات تصدير نفط الإقليم عبر الأراضي التركية، أكثر من ذلك، عولت أنقرة في السنوات القليلة الأخيرة على دور للبارزاني في حل القضية الكردية الداخلية، فحضر في بعض المؤتمرات إلى جانب رئيس الوزراء في حينها - الرئيس الحالي – «أردوغان»، وحل ضيفاً مهماً على أنقرة في مرات كثيرة رفع خلالها علم كردستان إلى جانب العلم التركي بعد أن كان مجرد لفظ الاسم محظوراً في تركيا، الأمر الذي أغضب حزب الحركة القومية المتحالف سياسياً مع العدالة والتنمية.
في المقابل، أصبحت تركيا الرئة التي يتنفس منها الإقليم اقتصادياً، من خلال التجارة البينية البرية، والاستثمارات وشركات البناء التركية، وقوافل الشاحنات التجارية المحملة بالمواد الغذائية الضرورية للإقليم، كما قدمت أنقرة مساعدات عسكرية وأمنية ومالية كبيرة، على شكل رواتب للموظفين أو قروض لحكومة الإقليم أو تدريب وتسليح لقوات البيشمركة كما في معسكر بعشيقة وغيره.
حسابات تركيا
هذه العلاقات أكثر من الجيدة بين أنقرة وأربيل لم تكن تعني أن الأولى مستعدة لقبول مسار استقلال وانفصال الإقليم، فهي ترى ذلك إضراراً بأمنها القومي، لجهة تعقيد القضية الكردية في تركيا من جهة، والتسبب في مواجهات أو فوضى في العراق الذي تعتبره عمقاً لها وجوارها القريب بما يمكن أن يشعل المنطقة بأسرها بصراعات على أسس عرقية إضافة للمذهبية القائمة أصلاً، بما يعني أن الاستفتاء وفق النظرة التركية لم يعد شأناً عراقياً داخلياً، وإنما قضية إقليمية معقدة، سيما وأنه أتى بقرار أحادي منفرد من قيادة الإقليم مخالف للدستور العراقي ودون موافقة حكومة بغداد المركزية، فضلاً عن مشاورة دول الجوار وأهمها تركيا وإيران.
توجست أنقرة من قرار الاستفتاء الذي أتى دون استشارة حليفها البارزاني لها، ورأت أنه قد يكون مقدمة لعدة تطورات مترابطة ومتتالية في المنطقة قد تصل لتقسيمها هي أيضاً لاحقاً، ولذلك كان قرارها واضحاً وحاسماً برفضه ومواجهته، كانت أنقرة تأمل بإقناع البارزاني بالعدول عن خطته، ولعلها على مدى السنوات السابقة قد عولت على العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية الجيدة مع الإقليم في أن تمنحها القدرة على التأثير عليه ومنع سيناريو الانفصال التام والاستقلال، أما وقد أصمَّ الرجل أذنيه عن نصح أنقرة، فقد اعتبرت الأخيرة ذلك «خيانة» لها كما جاء على لسان «أردوغان».
طالبت تركيا البارزاني بإلغاء قرار الاستفتاء، وحاولت الضغط عليه قدر الإمكان بهذا الاتجاه، فتدرجت تصريحاتها مع مرور الوقت واقتراب الموعد من اعتباره «خطأ» ينبغي العودة عنه إلى التحذير من تسببه بحرب أهلية أو صراع دولي، إلى التلويح بالعقوبات وتهديد الرئيس التركي بأن كل الخيارات موضوعة على الطاولة.
وكان في يد أنقرة ثلاث حزم من الإجراءات المحتملة:
الأولى: تتعلق بالشق الاقتصادي المهم جداً للإقليم كما سبق تفصيله، وما زاد من أهمية هذا المسار غلق طهران حدودها البرية مع الإقليم.
الثانية: العلاقات السياسية؛ حيث كان من المتخيل ألا يغامر البارزاني بعلاقاته الجيدة مع أنقرة وأن يحرص على عدم إغضابها والذهاب إلى آخر الشوط، بمعنى أن احتمال تخفيض أو اهتزاز هذه العلاقات كانت ورقة ضغط بيد أنقرة.
الثالثة: القوة العسكرية، وهي ورقة لم تهدد بها تركيا بشكل علني وواضح في البدء، إلا أنها كانت ماثلة دائماً من خلال التواجد العسكري في معسكر بعشيقة والعمليات الجوية المتكررة ضد معاقل الكردستاني في جبال قنديل، لكنها بدت أكثر وضوحاً مع المناورات العسكرية التي بدأها الجيش التركي قرب الحدود العراقية في سبتمبر الماضي التي انضمت لها قوات عراقية لاحقاً.
أجرى البارزاني الاستفتاء رغم اعتراض بغداد وتحفظات أنقرة وطهران وغياب الدعم الدولي، اللهم إلا من الكيان الصهيوني، الأمر الذي أدى إلى حالة من التفاهم بين حكومة بغداد المركزية وإيران وتركيا على مواجهته وتقويض مقومات الاستقلال والانفصال، بادرت حكومة بغداد إلى تحركات ميدانية للسيطرة على المرافق الرئيسة في كركوك والمناطق المتنازع عليها والمعابر الحدودية، في ظل موافقة وتأييد من كل من أنقرة وطهران، وهو ما دفع البارزاني لتحمل مسؤولية المسار الخاطئ الذي اتخذه عناداً، وتراجع قيادة الإقليم ودعوتها للحوار وتجميد نتيجة الاستفتاء التي فقدت أهميتها ودلالاتها بطبيعة الحال.
مستقبل العلاقة
في حسابات الربح والخسارة، كان البارزاني (ومعه الإقليم) أكبر الخاسرين، فخسر كركوك برمزيتها التاريخية وثقلها الاقتصادي، ومجمل المناطق المتنازع عليها، والكثير من مجالات السيادة ومقومات الانفصال، ودعم تركيا وثقتها، والاستفتاء كورقة ضغط، وتسيُّدَه للمشهد الكردي في الإقليم، وسمعته كسياسي مخضرم حين ظهر كمغامر لم يحسب قراره بدقة، فكان أن دفع الثمن أو تحمل المسؤولية بالانسحاب من المشهد.
بالنسبة لتركيا، فقد حققت مكسباً إستراتيجياً من خلال تحقيق هدفها بجعل مسار الاستقلال من طرف واحد شبه مستحيل ومنع مسار الانفصال وتأسيس دولة (دويلة) على أسس عرقية على حدودها، وهي أولوية سياستها الخارجية في السنوات الأخيرة في كل من سورية والعراق.
ولكن في المقابل، ثمة خسائر تكتيكية مهمة لتركيا أيضاً في هذا الملف بدت مضطرة لها، أهمها تراجعها النسبي أمام النفوذ الإيراني المتعمق في العراق خصوصاً بعد التطورات الأخيرة في كركوك وغيرها، وإضعاف حليفها السابق البارزاني وخروجه من المشهد السياسي، وتقوية الأطراف الأخرى في المعادلة الكردية وفي مقدمتهم حزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية وتيار الطالباني أي الاتحاد الوطني الكردستاني القريب من طهران.
الأهم، في المحصلة، هو بقاؤها دون ظهير قوي ومستقر في العراق إذ إن الإطار الثلاثي مع كل من بغداد وإيران كان اتفاق الضرورة لمواجهة مخاطر مشتركة أكثر منه تعاوناً عميقاً أو تحالفاً إستراتيجياً، مما قد يهدد نفوذ تركيا ومصالحها في البلاد مستقبلاً.
لهذه الأسباب وغيرها، وفي ظل تحقق هدفها الرئيس وتجنباً للمزيد من المخاطر والخسائر، لا تبدو تركيا راغبة في قطيعة كاملة مع الإقليم، سيما بعد تنحي مسعود البارزاني وورود إشارات من الإقليم تفيد بالرغبة في تسوية الأزمة مع بغداد وطلب نيجيرفان بارزاني زيارة تركيا والتفاهم معها، وقد قوبلت هذه الإشارات بترحيب متحفظ من أنقرة، التي اعتبرت الخطوات إيجابية لكن غير كافية، وربطت إمكانية استقبال نيجيرفان بالعودة تماماً عن مسار الاستفتاء واعتباره خطوة لم تتم والاستعداد الكامل للحوار مع بغداد.
هنا، يمكن لتركيا ليس فقط إعادة العلاقات مع الإقليم، وهي التي لم تقطع العلاقات الاقتصادية مثلاً، ولكن أيضاً ممارسة دور الوسيط والمساعد في مسار الحوار والتفاوض بين أربيل وبغداد لإنجاز اتفاق يرضي الطرفين، ويكون ضمانة لوحدة أراضي العراق واستقرار المنطقة ككل على المدى البعيد.
إن عدم ثقة تركيا الكاملة باستمرار تعاون طهران وبغداد معها، خصوصاً في ظل استمرار مطالبات الأخيرة بإخلاء معسكر بعشيقة التركي، وعدم اطمئنانها لتزايد النفوذ الإيراني في العراق يدفعها لإعادة النظر في العلاقات مع أربيل على المدى البعيد، لا سيما إذا ما أضفنا إلى ذلك العلاقات الاقتصادية المهمة مع الإقليم وحساسية مواجهة تركيا للعمال الكردستاني في جبال قنديل في الإقليم وقلقها من سيطرة تيار آخر غير الحزب الديمقراطي الكردستاني بما قد يعرض أمنها القومي للخطر.
وعليه، فإن الرغبة التركية في إعادة العلاقات إلى سابق عهدها تبدو موجودة ضمناً ولكن مشروطة برغبة الطرف الآخر وخطوات معينة ينبغي اتخاذها، وهو أمر يمكن توقعه مستقبلاً لكن ليس قريباً جداً، إذ تحتاج فجوة الثقة المتحصلة من مسار الاستفتاء إلى بعض الوقت والخطوات وإجراءات إثبات حسن النوايا، على الأقل من وجهة نظر أنقرة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

د. القرة داغي للمجتمع: تمزيق الشعب الكردي خطة استعمارية قديمة!
نشر في العدد 1052
21
الأربعاء 02-يونيو-1993
