; الحاكم الزاهد.. والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء | مجلة المجتمع

العنوان الحاكم الزاهد.. والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء

الكاتب د. إيمان مغازي الشرقاوي

تاريخ النشر السبت 07-يوليو-2007

مشاهدات 11

نشر في العدد 1759

نشر في الصفحة 54

السبت 07-يوليو-2007

  • كان مثالاً صادقاً للزاهد العابد الذي لم يفتنه زخرف الإمارة ولم يخدعه بريق الخلاف

  • أتته الدنيا وهي راغمة فلم يأبه لها .. كان شديد التنعم قبل خلافته وأصبح ملبسه غليظاً ومطعمه خشناً بعد ولايته 

الإمام العدل - يا أمير المؤمنين - كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارا ، ويعلمهم كبارا، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، وهو كالأم الشفيقة البارة الرفيقة بولدها، حملته كرها ، ووضعته كرها. وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته، كذلك هو وصي اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم.

والإمام العدل - يا أمير المؤمنين - كقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده وهو القائم بين الله وبين عباده. يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله. فبدد وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرقماله.

كانت هذه الكلمات المضيئة التي كتبها - الحسن البصري - يرحمه الله - بمثابة بطاقة هوية للإمام العادل عمر بن عبد العزيز، وخريطة الطريق مرسوم واضح المعالم، يطل على جانبيه بساتين العدل التي يفوح منها شذى رياحين المحبة والعطف والرحمة والإشفاق. كما أنها بطاقة تعارف بين الإمام وبين رعاياه فقد جاء في ثنايا حروفها كل مشاعر الوداد ومعاني الحب والإخلاص ممن قالها تجاه إمامه .. بل إنها تمثل الطريق الأمثل والدستور الأعدل لكل من يتولى أمراً من أمور المسلمين. لذلك فقد كانت كل كلمة فيها وكل حرف من حروفها من مضمون خطته التي سار عليها، حتى صار خلفاً لمن سبقه من الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم أجمعين. واقتفى أثر جده الفاروق عمر بن الخطاب مرمة الذي قال عنه رسولنا  صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل الحق على لسان عمر» "الترمذي".

ولم لا يفعل ويسير على خطاه وقد زكاها نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال له: «والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجأ غير فجك'« البخاري".

 فجد في سيره ليلحق بركب جده صلى الله عليه وسلم.. سار مسرعاً وهو مثقل بأعباء الخلافة التي حملها على كاهله رغماً عنه، فلم يشده ثقلها إلى الأرض، ولم يغره زخرفها وبريقها، بل نبذ كل ذلك، وسما بزهده إلى العدل المنشود. وهو خائف وجل، مشفق على نفسه من هذا الحمل الثقيل الذي تنوء بحمله الجبال حتى صار يضرب به المثل في العدل والرحمة والخوف من الله، وهو مع هذا كله يرى في نفسه النقص وفي عمله التقصير فيقول للناس: لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل... فلا عجب إذا أن صار خامس الخلفاء الراشدين له من الذكر الحسن والثناء الجميل نصيب وأي نصيب.

الخليفة الصالح

لقد لقب عمر بن عبد العزيز مولي بالخليفة الصالح والملك العادل. وقد ولد في حلوان بمصر سنة ٦١هـ، حين كان أبوه عبد العزيز بن مروان والياً عليها .. أمه ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وهو أشج بني أمية الذي قال عنه عمر بن الخطاب من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً.

كان رقيق الوجه حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر نفحة دابة وقد خطه الشيب. وكان حسن الأخلاق والخلق كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أواهاً منيباً، قانتا لله حنيفاً.

زاهداً مع الخلافة، ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكان شديد الخوف من الله تعالى، شديداً في محاسبة نفسه.

أتته الدنيا فتركها!

إن الحديث عن تلك الشخصية الفذة حديث طويل لا تسعه بضعة سطور أو بعض كلمات، لأنه حديث للأجيال ونموذج للرجال، لكننا نتناول منه شذرات ونقطف ثمرات، علنا نتخذها مثالاً راقياً في حب الله، ومثلاً رائعاً في فداء النفس من غضبه تعالى، والذي كان منه متمثلاً في أعمال كثيرة قام بها لكن أعظمها عدله النادر. وأعجبها زهده الكبير في أبهة السلطان والتنصل من مظاهره التي عادة ما تتبعه، ودفع الرغبة في العيش في بحبوحته، وكبح جماح النفس ومجاهدتها المعرفة حقيقته واستشعار مسؤوليته، وبالتالي تأديبها وإرغامها على سلوك سبيل العدل رغم الحواجز والمعوقات.

فعندما آلت الخلافة إليه رأى ما أذهله فأبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم، ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال ولكل دابة سائس ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد، وفوجئ بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها، فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم ينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً - فور تقديم هذه الزينة له - ببيعها وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين.

لقد كانت خلافته بركة، وإمارته رحمة وما ذاك إلا أثر من آثار بره وعدله وزهده وإحسانه، فحينما اختير للخلافة دون علمه رفضها وخلع بيعته من رقاب الناس، لكنهم أبوا إلا أن يختاروه، فلما وليها رغماً عنه كان مثالاً صادقاً للزاهد الحقيقي الذي لم يفتنه زخرف الإمارة أو يخدعه بريق الخلافة ولمعانها، ولكنه بدأ بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته من آل بيته ومن العامة فرد من أملاكه كل ما شك في خلاص حقه فيه، انطلاقاً من تمسكه بالزهد، وتقوى لله ووضعاً للحق في نصابه، ثم اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك، وكان لها جواهر فقال لها : من أين صار هذا المال إليك؟ قال: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد ! حتى سيفه لم يسلم من زهده فقد كان محلى بفضة لكنه نزعها وحلاه حديداً.

 روى ابن سعد: أنه لما رد عمر المظالم قال: إنه لينبغي أن أبدأ أولاً بنفسي، فنظر إلى ما بيديه من أرض أو متاع فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب، فخرج منه.

 وحين استخلف نظر إلى ما كان من عبيد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غنى فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار فجعله في السبيل.

نفس تواقة

كان يقول: «إن لي نفساً تواقة، لم تتق إلى منزلة فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قدتاقت إلى الجنة».

نعم.. فلقد أنته الدنيا وهي راغمة فلم يأبه لها، وتحمل شظف الحياة وهو الذي كان شديد التنعم قبل خلافته، لكنه بعد أن تولاها صار ملبسه غليظاً، ومطعمه خشناً، وحياته ليست له: إذ أضحى بكل ما يملك من جهد ووقت وقوة ومال في سبيل الله تعالى، وقد كان بإمكانه أن يكون أغنى الأثرياء، وأنعم المترفين، وأسخى المنفقين فالدنيا بين يديه والكل تحت إمرته، وطوع أمره ورهن إشارته، لكنه لم يفعل فالمسؤولية في عنقه كبيرة، وسيحاسب على الصغير والحقير وسيسأل عن الفتيل والقطمير، فمن ذا الذي سيدفع عنه غضب الجبار إذا سخط، ومن الذي يشفع له عنده إذا غضب وقد دفعه ذلك إلى الزهد في متاع الحياة الدنيا فتجده يقول: لو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج، واعتقال أموال كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ من أحد من خلقه ولكني أخاف - فيما ابتليت به - حساباً شديدا، ومسألة عظيمة، إلا ما عافي الله ورحم. وكثيراً ما كان يشفق على نفسه فتسيل الدموع غزيرة من مآقيها، وحين تسأله زوجه عن سبب البكاء يقول لها : «يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمدr. فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت».

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

لعقلك وقلبك (41)

نشر في العدد 41

24

الثلاثاء 29-ديسمبر-1970

لا... يا أمير المؤمنين

نشر في العدد 34

22

الثلاثاء 03-نوفمبر-1970

من شذرات القلم (عدد 297)

نشر في العدد 297

12

الثلاثاء 27-أبريل-1976