الثلاثاء 29-ديسمبر-1970
هذه العبارات نسمعها كثيرًا في أيامنا هذه، وهي في الواقع ليست من مبتكرات عصرنا بل هي من أفراخ الزحف الصليبي على أرضنا.
كان الأوروبيون متأثرين بنظرية فصل الدين عن الدولة وجاهدوا في سبيل تحقيق هذه النظرية قرونًا إلى أن حاصروا البابا في روما، ولم يكتفوا بفصل الدين عن الدولة بل إنهم حرموا رجال الدين من التدخل في كل شيء حتى العلوم حرموهم من إبداء رأيهم فيها، وطبعًا لم يكونوا في هذا متجنين على رجال الكنيسة بل كانوا في الواقع على حق في كل ما ذهبوا إليه؛ لأن رجال الكنيسة قد بلغ بهم التحكم والسيطرة وفرض آرائهم وخزعبلاتهم على أذهان الشعوب حتى لم يعد في مقدور أحد أن يتحرك إلى المعرفة والعلم إلا من خلال أفكارهم ومعتقداتهم.
ويكفي مثلًا أن نقول إن البابا كان بيده إدخال الجنة أو الحرمان منها.
ويكفي أنه استطاع أن يمتلك ثلث أراضي إيطاليا من بيع صكوك الغفران.
ويكفي أنه كان يفرض رضاه مسبقًا على الملك أو الحاكم أو القائم العسكري حتى يظل في كرسي حكمه.
ثم إنه كان بمثابة القائد العسكري العام لجيوش أوربا وقد تمثل هذا الوضع في الحروب الصليبية.
من هذا نخلص إلى نتيجة وهي أن نظرية فصل الدين عن الدولة والسياسة والقضاء ليست من نبع ديننا ولا فكرنا ولا سياستنا، وإنما هي نظرية تنزلت علينا من لدن الدول الصليبية، ثم إنها وافقت هوى ساسة أوربا الذين خططوا لنا، فألقوا بفلسفة فصل الدين عن الدولة وعن الحياة والمجتمع في رؤوسنا وبدأت الببغاوات الشرقية تردد صداها «الدين لله والوطن الجميع» «الدين شيء والسياسة شيء آخر»
«رجال الدين ورجال السياسة»، «رجال الدين لا يدخلون الجيش».
والعجب أن بعض من سموهم رجال دين فرحوا بهذا الفصل، ورحبوا بمظهر التقديس الكاذب، وكان ثمن هذا مناصب ومراكز عالية، ثم فتاوى تزكّي أهواء الحكام وتعزز مراكزهم «الملك فاروق من نسل النبوة» «الاشتراكية من الدين» «الاشتراكية ضد الدين» «الديمقراطية من الدين»، بل إن الدين استعمل أسوأ استعمال في المعارك السياسية وحُرّفت الآيات، وصيغت باللون الذي يريده الحاكم، ووصل الحال باستعمال الدين واستغلاله في ضرب كل الحركات المعارضة، لنظم الحكم، وصدرت فتاوى تحمل سفك الدماء ونهب الأموال.
الإسلام دين الدولة الرسمي
والعجيب في الأمر أنه مع انتشار هذا الفهم الخاطئ للدين تكاد تُجمع الدسـاتير العربية على أن دين الدولة الرسمي «الإسلام»، وأغلب هذه الدساتير تنص على أن الدين يعتبر مصدرًا للتشريعات، ومع هذا تظل النغمة كما هي تضرب على وتر نشاز بأن الدين شيء والسياسة والحكم والعلم شيء آخر.
والمحير حقًا أنك لا تستطيع أن تجد حجة صالحة لأن تقوم على أقدامها للذين ينادون بفصل الدين عن الحياة، ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يعرفوا الدين كما لا يستطيعون تعريف الحياة.
فالدين عقيدة وشريعة لكن لا بد لها من وعاء تتحرك فيه ووعاؤها هو الإنسان؛ فكيف نستطيع الفصل ما بين الإنسان والحياة، كيف نستطيع تقسيم الإنسان إلى جزأين، جزء للعبادة أي للصلاة والزكاة والحج، والجزء الآخر يحترف السياسة والرياضة والعلم، ثم نضع في عقله وقلبه حاجزًا محكمًا يفصل بين الإثنين.
ولنأخذ بتقسيم آخر وهو أن نقسم المجتمع إلى رجال دين ورجال علم وسياسة وقانون مثلًا، ونشترط فصل الاختصاصات تمامًا بين الإثنين فلا يتكلم رجل الدين في غير الصلاة والصوم، ولا يتكلم رجل السياسة أو يتصرف بمقتضى الدين، وترتب على هذا عدة نتائج منها تفصيل الوظائف الدينية والوظائف السياسية أو الاقتصادية بحيث لا تسمح بالتداخل بين هذه الوظائف، ويمضي هذا التقسيم إلى الصحافة وأجهزة الإعلام الأخرى، فتحدد اختصاص كل صحيفة بحيث لا تتعدى حدودها، وبالتالي نحرم على الصحف السياسية أن تتكلم في الصلاة والصوم والحج، مثلًا وفي نفس الوقت لا نسمح للصحف «الدينية» أن تناقش مشكلة القدس وفلسطين وعائد البترول ولعبة الكرة لأن هذه أمور لا علاقة لها بالدين.
إن المشكلة تكمن في معرفة ما هو الدين وما السياسة؟؟ ومن هو رجل الدين، ومن هو رجل السياسة والاقتصاد، وما هي حدود العلاقة بين الإنسان ونفسه والإنسان وغيره على ضوء هذا التقسيم.
والحقائق البسيطة والمجردة والتي ما ينبغي الاحتكام لغيرها هي أن النبي عليه الصلاة والسلام وخلفاءه من بعده كانوا أئمة مساجد وأئمة حكم وأئمة جيش، ورحم الله عمر بن الخطاب وهو يربط بإحكام بين أمور دنياه وأخراه وهو يقول والله لو عثرت بغلة بالعراق لخشيت أن يسألني الله عنها لِمَ لم تمهد لها الطريق.
وأخيرًا نرجو أن يهدينا الله بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إلىۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا﴾. (النساء: 105).
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا﴾. (النساء: 65)
﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ﴾ (المائدة: 49)
وأخيرًا إعذارًا إلى الله وإبراء لذمتنا نضع هذا الحديث الصحيح دليل معرفة أمامنا جميعًا.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحقرن أحدكم نفسه! قالوا يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال يرى أن لله عليه مقالا فلا يقوم به، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى».
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل