; مفهومات خاطئة .. رجال دين!! | مجلة المجتمع

العنوان مفهومات خاطئة .. رجال دين!!

الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق

تاريخ النشر الثلاثاء 19-مايو-1970

مشاهدات 23

نشر في العدد 10

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 19-مايو-1970

بسم الله والحمد لله، وبعد:-

رجال دين!!

هذه الكلمة بمفهومها الخاطئ رمانا بها الغرب - يوم غص بالمسيحية وأبغضها عندما وقفت- بعد تحريفها- عقبة في سبيل علومه المادية وطموحه وكشوفه وابتكاراته؛ فقرر فصل هذا الدين- اللامعقول والخاضع للكهانة وادعاء علم كل شيء من أمور الدنيا والآخرة- عن علوم الدنيا الخاضعة للتجربة والملاحظة والقابلة للتجديد والتعديل؛ فجعل الكنيسة قطاعًا خاصًّا من قطاعات الحياة يذهب إليها من يريد ويكفر بها من يشاء، وجعل لها رجالا مختصين في شؤونها والقيام عليها أسماهم (رجال الدين).

مفهوم رجل الدين عند الغرب

ولطبيعة الرهبنة في النصرانية فإن رجل الدين منقطع لعبادته، بعيد عن شئون الدنيا، يعتمد في معاشه وقيامه على الإتاوات والضرائب التي تُفرض له على بقية أبناء شعبه، شاء هذه الضريبة أم أباها، هذا إلى جانب التبرعات الضخمة التي يتبرع بها الأثرياء من المتدينين ثم الأوقاف المحبوسة على الكنيسة، ثم صارت هذه الضرائب أعمق شرعية في الدول الغربية الاستعمارية عندما سارت الكنيسة في تطويع الشعوب الجاهلة للنصرانية وصرف الشعوب الإسلامية عن دينها تمهيدًا لتمكين الاستعمار من رقاب الناس، وبذلك يتحدد مفهوم رجل الدين عند الغرب بأنه الرجل المنقطع للعلم الديني- سواء كان هذا العلم للعبادة الخالصة أو خدمة لسياسة الاستعمار- والذي يعتمد في معاشه وحياته على غيره من أبناء جنسه عن طريق الضرائب التي تُفرض له.

رجال دين

وليس له من الأمور المدنية إلا عقد الزواج الذي تطور أيضًا حتى أصبح يشمل العقد لرجل على رجل بعد إقرار القانون الإنجليزي لشرعية هذا العمل، إلى جانب خدمات في مجال الطب كان (رجال الدين) يقومون بها قديمًا حسبة لله ثم أصبحت نشرًا للنصرانية وتمكينًا للاستعمار.

انتقال المفهوم السابق إلينا

هذا المفهوم الخاطئ (لرجل الدين) نُقل بما يحمل من أوزار وأُلصق بالذين تصدروا للفتوى والعلم الديني من علماء الإسلام، وساعد على شيوع هذا المفهوم نوع من التشابه بين بعض علمائنا ورجال دينهم وذلك في العصور الأخيرة فقط.

لم يكن الرسول- عليه أفضل الصلاة والسلام- رجل دين؛ فقد بُعث الرسول -عليه أفضل الصلاة والسلام- نبيًّا لأمته، ومع ذلك فإنه لم يعتمد في حياته على فلس واحد من جيوبهم ولا أكل ثمرة واحدة تصدقوا بها عليه بل أمره الله أن يقول ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾  (ص: 86).

وكان لذلك يخالط الناس- أسواقهم فيبيع ويشتري حتى عابه المشركون؛ لذلك ورأوا أن الذي يختاره الله رسولاً لا بد أن يكفيه مؤونة كسب العيش ولا يتركه في هذا الامتهان ﴿وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ (الفرقان: 7).

وتصوروا أنه بمجرد أن يختار الله رسولاً لا بد أن ينزل عليه الذهب والفضة ويسكنه القصور ويكفه عن امتهان طلب العيش.

وانتشر الإسلام وكثر تابعوه وفُرضت الفرائض ومنها الزكاة؛ فما كان منها قسم يخرج لمن ينقطع في المساجد لتعلم العلم وتعليمه، اللهم إلا أن يكون مرابطًا في سبيل الله للغزو والجهاد، وهذا إذا أخذ أجرًا فإنما يأخذه لأنه يدفع عن المسلمين شأنه في ذلك شأن الجنود في كل دولة وقطر وهذه آية مصارف الزكاة وآية الصدقات من سورة الحشر تشهدان بذلك.

وهكذا نشأت أجيال المسلمين وهي لا تعرف رجل الدين بالمفهوم الذي شرح آنفًا. وهؤلاء أعلام الإسلام في السياسة والعلم من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد والعبادلة وخالد وعمرو بن العاص وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وغيرهم من علماء الحديث والفقه والتاريخ، لم يكن أحد منهم (رجل دين)، وإنما كانوا يكسبون قوتهم من التجارة والزراعة والاحتراف ويخصصون أوقاتهم الفاضلة للعلم ونصح المسلمين لا يأخذون أجرًا على ذلك؛ بل كان كثيرًا منهم يمتنع من القضاء حتى لا يأخذ أجرًا من السلطان!! خوفًا من أن يأكل الحرام.

العلماء في عهد الدويلات

 وفي عهد الدويلات الإسلامية -بعد سقوط بغداد- كان للعلماء شأن آخر؛ إذ أصبح العلم الديني نوعًا من الاحتراف وخاصة عندما ظهرت بذور الفتنة والتفرق وأصبح كل والٍ يستميل طائفة من العلماء ليستطيع إخضاع العامة لسياسته وملكه!!

فلا تعجب بعد ذلك أن تظهر الحروب والشحناء بين أتباع المذاهب الإسلامية وأن تقرأ عن الدسائس والكيد بين العلماء بعضهم البعض لدى السلاطين والأمراء!!

ومع أن العالم المسلم بهذا المفهوم قد أصبح يشبه إلى حد ما رجل الدين عند الغرب إلا أنه أيضًا لم يُسمّ (برجل الدين).

العلماء في الدولة العثمانية

وفي الدولة التركية الإسلامية كان شأن عامة علماء الدين كذلك، العلم الديني احتراف، وللعلماء صولة وجولة لأن العامة تسير وراءهم ويستطيعون إسقاط الخليفة لو أرادوا، إلا أن الدولة العثمانية التي باتت في أواخر أيامها مولعة بتقليد الغرب قد أدخلت على علماء الدين كثيرًا مما لأمثالهم من علماء دين النصارى فدخل الزي الخاص بالعلماء بطربوشه الأحمر ذي الذؤابة الحريرية الزرقاء، ولفافته البيضاء الناصعة المتقنة اللف إلى حد التكلف والاحتراف، والتى تعلن برؤيتها أن تحتها رجلا متميزًا عن سائر الناس عالمًا بالشريعة!!

ليست العمامة بألوانها الثلاثة: الأحمر والأزرق والأبيض فقط بل (القفطان) الحريري المخطط!! والجبة الصوفية المسبلة في أكثر الأحيان إلى ما تحت الكعبين!!

ولما انفرد علماء الشريعة بهذا الزي الخاص عسر عليهم امتهان طلب العيش من غير طريق علمهم وفتاواهم ولم يستطيعوا مجاراة الناس في طلب الرزق إلا عند التخلي عن هذا الزي المميز!! وبذلك عاش عالم الدين الرسمي في الإسلام -غالبًا -عالة على ما تقدم الدولة له من راتب ومنصب!!

 

علماؤنا بعد سقوط الخلافة

 وبعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا وجد علماؤنا الأفاضل- في كل بلد حكمه العثمانيون- أنفسهم في حالة لا يحسدون عليها؛ إذ ظهرت الدويلات التي تسمت باسم الأرض والجنس!! تحت حماية الإنجليز- والفرنسيين والإيطاليين!! الذين فصلوا الدين عن حياة الناس لتسلم لهم سيادتهم وملكهم!!، ومنهم من آثر ما عند الله فانبرى ينافح عن دينه وعقيدته ويحارب المستعمرين وأذنابهم، ومنهم من آثر ما عند الناس فلم يحرك ساكنًا ليسلم له راتبه ووظيفته!!، ومنهم من جاوز الحد إذ مهّد الأرض للمستعمر الدخيل ليصل إلى أسمى المناصب والغايات!! ولم يبخل على أحد من السيدين بإصدار الفتاوى كما يريد والتقريظ والمدح فوق ما يريد!!

 ورحم الله من قال في مجلة الأزهر الشريف:-

(إن الوحدة المحمدية كانت كلية عامة؛ لأنها قامت على العقيدة، والعقيدة قد تضعف أو تحول، والوحدة الصلاحية كانت جزئية خاصة لأنها قامت على السلطان، والسلطان قد يضعف أو يزول. وأما الوحدة الناصرية فباقية نامية؛ لأنها قامت على الاشتراكية في الرزق، والديمقراطية في الحكم).

ثم عندما نوقش في هذا ورد عليه زعم ويا له من زعم!! إن الإسلام في العصور الغابرة إما أنه فهم ولم يطبق!! أوطبق ولم يفهم!! وأما الآن فقد فهم وطبق!! وهذا كلام لا يحتاج إلى رد، والمقصود هو مجرد التمثيل بنوع من فتاوى العلماء الرسميين.

 ولم يكن هناك بد بعد ذلك من أن ينتقل المفهوم الغربي عن رجل الدين إلى عالم الدين المسلم بعد أن تشابها في الزي الخاص والانقطاع للعلم الديني فقط والاعتماد على ما تفرضه الدولة لهما!!.

المفهوم الصحيح

 ولست أبرر بعد هذا المفهوم الخاطئ (رجل دين) بل أقول إنه مفهوم خاطئ لعالم الإسلام، ويجب علينا أن نُسمي من يتخصص لهذا العلم بنوع العلم الذي يتخصص فيه: فالفقيه، والمحدث وعالم النحو وعالم التفسير خير تسميات.

وأوصي بعد ذلك علماءنا الأفاضل بإعادة النظر في زيهم الخاص فإن له آثارًا كبيرة في تعميق هذا المفهوم الخاطيء وتمكينه. ويوم يصبح عالم الدين رجلًا من جملة الناس يلبس لباسهم ويمتهن العيش امتهانهم ويعرف بين الناس بعلمه وتقواه لا بجبته وعمامته؛ فهناك ستشرق شمس الإسلام من جديد!.

الرابط المختصر :