الثلاثاء 16-سبتمبر-1980
- الحج فريضة دينية، وهو أحد أركان الإسلام الأساسية.
- الحج تربية للنفس والضمير، وتهذيب عملي يعتمد الرحلة والسفر إلى البقاع المقدسة مع شعائر وأعمال خاصة تهدف إلى تعميق معاني الإيمان وحضوره في النفس.
- الحج مؤتمر المسلمين، ولا يجوز عرقلته، أو إعاقة الحجاج، أو إيذاؤهم أو منعهم منه.
- واجب المؤسسات والحكومات الإسلامية أن تشجع الشباب خاصة على أداء الحج والعمرة، وأن تنظم لهم الرحلات، وتهيئ لهم المرشدين لتعمر قلوبهم بالإيمان والتضحية والإخلاص.
الحج فريضة إسلامية من نوع خاص، فهو واجب في العمر مرة واحدة، ويجب على المستطيع استطاعة مالية وبدنية، وهو أحد أركان الإسلام الأساسية؛ قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (آل عمران: 97)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس -منها- حج البيت»، وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لاتحجوا. قالوا: كيف نحج قبل أن لا نحج؟ قال: أن تقعد العرب على بطون الأودية يمنعون الناس السبيل». وفي الحديث دلالة على الإسراع في اغتنام الفرصة المتاحة للحج وأداء الفريضة المقدسة حال التمكن من أدائها. وفيه إخبار صادق عن المستقبل حيث تقام الحدود والحواجز والعوائق الكثيرة المصطنعة التي تمنع الناس من الحج، وهذا ما نراه في كثير من الدول الحاضرة من إعاقة للحجاج وتعقيد لمعاملاتهم وابتزاز لأموالهم، بحيث أصبح الحج شاقًّا أو مستحيلًا لدى البعض.
وفي هذا الحديث الشريف نم لأولئك العرب الذين يقعدون على بطون الأودية -أي الحدود وأطراف البلدان- يمنعون الناس السبيل؛ أي يسدون في وجوههم طريق زيارة البيت العتيق وأداء الرحلة المقدسة المفروضة على كل مسلم قادر. وإذا كان القرآن الكريم يذم الذين يمنعون الناس من التردد إلى المساجد وإقامة الصلاة ويغلقون المساجد أو ينتهكون حرمتها، ويندد بهم وينذرهم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة: 114). فإن جريمة من يمنع فريضة الحج ويؤذي قاصدي البيت الحرام أو يضيق عليهم لهي أشد وظلمه أسوأ؛ لأن هذا البيت قبلة المسلمين وعاصمتهم، وسواء فيه العاكف والباد، ولكل واحد منهم الحق في زيارته للحج والاعتمار نفلًا وفرضًا، تلبية لنداء إبراهيم عليه السلام ودعائه: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾(إبراهيم: 37) وعملًا بأمر الله تعالى في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ (البقرة: 196).
الرحلة المقدسة:
والحج إضافة إلى كونه فريضة وركنًا من أركان الإسلام، هو رحلة مقدسة كريمة تصفو بها النفس وتتعرض لصلة روحية كريمة بالأرض والتاريخ والذكريات والشعائر والناس على مستوى فعال مؤثر وتقترن فيه القيم المعنوية بالأعمال المادية والرمز بالواقع والأثر بالمشهد. وهكذا يكون الحج رحلة العمر وفريضة العمر. وما زاد من مرات القيام به فهو زيادة في الخير وكفارة للذنوب؛ ذلك أن «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الرب تبارك وتعالى: ﴿ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾ (البقرة: 197).
والحج كباقي العبادات الإسلامية هو رياضة للعقيدة، وتطبيق لمعاني الإيمان في مجالات صلة الإنسان بنفسه وبالناس والعالم، وصلته بالخالق تعالى، ويمتاز الحج عن هذه العبادات جميعها بما يستغرقه من الزمن وبما فيه من الرحلة والمسير والجهد في السعي والطواف والسفر، ولذلك فإن أثره -إن كان مبرورًا- يبقى دائمًا طيلة حياة الإنسان.
الحج وأثره:
ولئن كان السفر والرحلة بشكل عام لهما تأثير فعال في صحة الإنسان النفسية والجسمية، فإن رحلة الحج المقدسة هي من أشرف هذه الأسفار وأكثرها فائدة، وقد وصفها الله تعالى بقوله: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ (الحج: 28) أي: ليحضروا وينالوا منافع لهم. ووردت كلمة منافع على صيغة منتهى الجموع ونكرة لتفيد أقصى العموم وبالغ الكثرة. وهذا ما نراهفي رحلة الحج؛ فمنذ أن ينوي الإنسان الحج وحتى عودته فإنه يكون في عبادة وعمل تعبدي نشيط حتى نهاية المناسك وإلى حين عودته يبقى أثرها وإلى آخر عمره: وعيًا دينيًّا وورعًا وحبًّا لله تعالى ورسوله، وتعلقًا بالمشاهد المقدسة، وتعظيمًا للشعائر، وحرصًا على الصلة بالمسلمين ونصرة قضاياهم. وأمامن لم يجد شيئًا من ذلك فينفسه، أو عاد من الحج أسوأ حالًامن قبل، فإن هذا دلالة على أنحجه ما كان صحيحًا ولا مقبولًا، وذلك كالذي يحج بمال حرام أو رياء أو مجبرًا دون رغبة ذاتية أو إيمان صادق، أو كالجاهل الذي لا يعرف شيئًا من أحكام الدين ولا فقه الحج أو الصلاة، فلا يدرك من معاني الحج شيئًا، ولا يرى فيه غير المظاهر أو المشقة، ومثل هذا كمثل الطالب البليد الكسول، فإنه قد لا يستفيد كثيرًا من المدرسة كاستفادة النبيه المتيقظ، وهناك بعض الناس يؤجلون الحج كل عام إلى الذي يليه حتى يدركهم الكبر ويتقدم السن، فيذهب أحدهم إلى الحج متثاقلًا عجوزًا ضعيفًا قد لا يستطيع القيام بأعمال الحج بهمة ونشاط ودون الاعتماد على غيره، والأفضل أن يؤدي الإنسان هذه الفريضة الكريمة متى توفرت لديه القدرة على أدائها. وعلى المؤسسات والحكومات الإسلامية أن تسعى إلى تيسير رحلة الحج ومرافقه طول الطريق إليه، وتشجع الشباب على أدائه، وتهيئ الرحلات الجماعية للحج والعمرة، لتعم البركة والخير، وليلتمس الجميع شهود منافع تلك الرحلة المقدسة المباركة، وقال الله تعالى منددًا بالذين يعطلون فريضة الحج ويصدون الناس عنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
أصل هذه الفريضة:
ويتحدث القرآن الكريم عن البيت وأصل هذه الفريضة فيقول: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ (الحج: 25- 29).
وهكذا يبين القرآن أن هذه العبادة الكريمة تعود إلى زمن إبراهيم عليه السلام الذي أمره الله تعالى بإعمار جزيرة العرب بإسكان إسماعيل ابنه هناك وبإقامة البيت العتيق «الكعبة المشرفة» التي أراد الله لها أن تكون قبلة المسلمين في صلاتهم ورمز وحدتهم ومهوى أفئدتهم: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).
على طريق الحج:
والمسلم عندما يستعد للحج وينويه ويدعو الله تعالى أن يوفقه لأدائه وييسره له، ويبدأ استعدادت السفر فيقضي ديونه ويفي بالتزاماته ويكتب وصيته، ثم يتوجه إلى الحج مسافرًا إلىالله ورسوله. والشوق يدفعه إلى تجاوز المسافات وركوب المخاطر واحتمال المصاعب ليقترب من الأرض والبقعة التي شهدت تضحية إبراهيم وحبو إسماعيل ونشوءه وسعي المرأة العظيمة المؤمنة الصابرة السيدة هاجر، ويتذكر كل تلك الأعمال الجليلة وهو يطالع الكعبة ويسعى بين الصفا والمروة، ويرشف ماء زمزم، ويصلي في مقام إبراهيم أبي الأنبياء، ويا لها من ذكريات طيبة كريمة، تحرق في النفس أنانيتها وأدرانها؛ لأن الأرض التي باركها الله وتشرفت بأعمال الأنبياء وبناءاتهم الصالحة لجديرة بأن تكون دواء لقلوب المؤمنين وشفاء لأسقامهم النفسية وما يتعلق بها من وهن الجسد وضعف العز يمة وانحطاط الهمة.
وكما يدخل المسلم في الصلاة بالتكبير، فإنه يدخل أعمال الحج بالإحرام. وفيه معان كثيرة قيمة تزدحم جميعها على نفس المؤمن لتزيد قلبه صفاء وإصغاء للحق وتهيؤًا لتنزل النفحات القدسية، فهو في الإحرام يعايش تلك المعاني باستمرار؛ معاني التقشف والنظافة، والمساواة التامة والاندماج الكلي في جماعة المؤمنين وكتلتهم، ووعي الذات بانتباه حضوري دائم يؤيده اللباس البسيط الموحد، ورفع الصوت بالتلبية، وتقو يه الحركة المتأنية الحكيمة في الطواف والسعي التي تفتح وعي الذات في جملة ما تشعر به, على الصلة الكريمة بمن طاف وسعى في تلك الأماكن المقدسة من لدن إبراهيم عليه السلام إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فيسير على نفس المطاف والمسعى، ويزدحم مع إخوانه على نفس الطريق السوي ساعيًا وراءرضوان الله تعالى، كما سعوا ملتمسًا للخير والبركة، كما التمسوا. ويذكر حينذاك ظهور الإسلام ودعوة الرسول وجهاده وحضوره ورواحه وطوافه حول الكعبة، وفي غار حراء، وبين مكة والمدينة، وعند جبل أحد، وفي بدر، وفي المسجد النبوي الطاهر في المدينة المنورة، ولا يملك لنفسه سوى الاسترسال في أطيب المشاعر والذكريات والنفحات الطيبة وهو يقف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم خاشعًا مسلمًا يقول: «السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك بلغت الأمانة ونصحت الأمة، فجزاك الله عنا خير الجزاء». وثموهو يسلم على أبي بكر وعمر، ثم وهو يقوم يصلي في الروضة المشرفة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة»، فتتأصل في نفسه ببركة تلك الطاعات معاني التقوى والكرامة الإنسانية، ويزداد قربًا من الرسول الكريم وتمسكًا بسنته، وبذلك يزداد إيمانه رسوخًا وجلاء.
وعندما يتوجه المحرم مع تلك الكتل البشرية الهائلة إلى عرفات ويقضي يومه هناك على جبل أشم أجرد، واسع الآفاق، طيب الأرض والهواء، يذكر أن تلك الأرض خاوية طول العام تزدحم فجأة في يوم عرفة وتمتلئ بالناس من كل فج عميق، مهللين، مكبرين، ملبين، فيتعرفون في عرفات على قدرة الله تعالىالتي جمعتهم ورحمته التي هدتهم إلى هذا الموقف العظيم، ويتذكر الحاج في لباسه الموحدالبسيط وسط الجمع المزدحم موقف الحشر وتجمع الناس وتدافعهم، كما يتذكر أنه ليس وحيدًا.. إنه نقطة صغيرة بين خلق الله الذين يراهم ومن لا يراهم من الملائكة الأطهار الذين يشهدون ذلك الموقف، وبذلك يتخلص عمليًّا من الشعور بالوحدة والعزلة المرضى، وينغمس في معشر هائل كان يذكرهم في صلاته: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، فإذا به يعايشهم في ذلك الموقف الفذ ويتجاوز بنظره وبصيرته حدود الزمان والمكان، فيستحضر موقف الرسول الكريم في حجة الوداع وخطبته الجامعة حينذاك، وموقفه، متبتلًا إلى الله مخلصًا له الدعاء عند جبل الرحمة، ويستحضر جمهور الحجاج والعمار في كل زمن تجمعهم كلمة الله، وتوحد بينهم، ويستحضر موقف البعث والحساب، ويحس في عرفات بالقرب من معاني الإيمان والمناجاة.. فيكون الحاج في عرفات قد قام برحلة إلى نفسه وتعرف عليها، وسمح لنور «عرفات» أن يشرق فيها.
وهكذا تتكامل في نفس الحاج الصالح في تلك الرحلة المقدسة صورة الحياة الحرة الكريمة في مستواها الإنساني الأمثل. ويكون الحج له عبادة وفرضًا أداه، ودرسًا تلقاه، ومنافع شهدها، ووعيًا للذات أدركه على فهم وبتوفيق يبعد عن الخطأ والأنانية، وقربًا من معالم الإسلام يشده إليها كل حين، وصلة كريمة بالله تعالى ورسوله تخالط الدم والعظم،وتتمخض نورًا يضيء العقل والطريق، ويكفي ذلك فضلًا للحرص على هذه الرحلة المقدسة وشرحها للناس ودعوتهم إليها على طريق إبراهيم وإسماعيل ومحمد عليهم أفضل الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل