; الزعيم! | مجلة المجتمع

العنوان الزعيم!

الكاتب عبد الباقي خليفة

تاريخ النشر السبت 26-فبراير-2011

مشاهدات 8

نشر في العدد 1941

نشر في الصفحة 32

السبت 26-فبراير-2011

لا أحد من أبناء الشعب يجرؤ على معارضته.. ومن يفعل ذلك يكن مصيره السجن والتعذيب مثل كثير من الأحرار.

الجبابرة والمستبدّون يعطون قراراتهم صفة الأمر الإلهي.. ولكن بدل أن يسمّوها «آيات» يسمّونها «مراسيم».

صحيفة «يديعوت أحرونوت» العِبْرية وصفت «مبارك» بأنه «كان الحاجز الأخير أمام الصحوة الإسلامية.

 ● «إنجازات ومكتسَبات» المستبدّين هي الثراء الفاحش غير المشروع الذي يحرسونه بحرصهم على البقاء في السلطة.

شهوة السلطة تبِّرر جميع الوسائل المستخدَمة للاحتفاظ بالحُكْم.. ولو كان بالظلم والقهر واعتقال الشرفاء.

ليس الزعيم من يقود على هواه.. وإنما الرائد الذي لا يخون أهله والإمام الذي يقدّمه شعبه.

الزعيم الحقيقي يضحّي من أجل أمته بكل ما لديه.. و«المزيَّف» مثل الهشيم سرعان ما تطويه نار التاريخ.

 ماذا قدّم كل من يدّعي الزعامة غير السرقات والإذلال بقوات القمع التي تجاوز عددها في مصر مليون ونصف المليون جندي؟!

يذكر التاريخ أن:

- الزعيم البريطاني «ونستون تشرشل » انتصر في الحرب العالمية الثانية ثم استقال عام 1955م.

 .-.والزعيم الفرنسي الجنرال «شارل ديجول» تولى فترتين رئاسيتين ثم استقال عام 1969م.

..- والزعيم البوسني «علي عزت بيجوفيتش» استقال عام 1997م بعد خمس سنوات من استقلال بلاده.

ليس الزعيم من يقود على هواه، وإنما الرائد الذي لا يخون أهله، والإمام الذي يقدّمه شعبه.. وليس الزعيم من تُطلق عليه الألقاب جزافًا، أو من لقَّب نفسه بذلك، أو من يغتصب الرتبة، سواء أكانت الإمامة في الصلاة، أم الولاية على مراتبها، لذلك جاء حديث النبي ﷺ واضحًا: «لعن الله رجلًا أمَّ قومًا وهم له كارهون..» والإمامة أو الزعامة مسؤولية، وتعني إعانة الناس على تدبير شؤون دينهم ودنياهم بتفانٍ وإخلاص؛ بتفويض حقيقي منهم.

 وإذا تحدّثنا عن الولاية السياسية والإمامة في الدولة، نجدها تجمع المساعدة وحسن التدبير، مع التربية الحسنة والعناية الفائقة، وغالبًا ما يتبع الزعماء المزيَّفون والساسة الفاسدون فرعون مصر ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 29).. كما يتبعونه في تعقّب الصالحين الموحّدين، بعد أن أعلن قائلًا:

﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعات: 24)، وقال عن النبي موسى عليه السلام: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر: 26).

 فالجبابرة والمستبدّون يعطون قراراتهم صفة الأمر الإلهي، ولكن بدل أن يسموها «آيات » يسمونها «مراسيم».. ورغم أن الكثير منهم لا يعلن أنه «إله»، بيد أنه يتصرّف كذلك، فله السمع الدائم، والطاعة الكاملة، ولا أحد من أبناء الشعب يجرؤ على معارضته، ومن يفعل ذلك يُزجُّ به في السجن؛ كالكثير من الأحرار الذين لا يذكرهم ولا يتحدث عنهم أحد، خوفًا من «الفراعين المتألهين»، وهؤلاء الأح رار لا يزالون في زنزانات الظلمة في الدول العربية.

وال واق ع أن شهوة السلطة تبرر جميع الوسائل القذرة للاحتفاظ بالحُكْم، ولو كان بالظلم والقهر وسجن الأحرار، دون التفات لأوضاع أسرهم، بل تجويع أهاليهم مطلوب لذاته ليكونوا عِبرة لمن يعتبر.. ومع ذلك، لا يُرون الناس إلا ما يَرون، وما يهدونهم إلا إلى سبيل الرشاد الفرعوني.

وقد رأينا في كثير من الأقطار الإسلامية كيف يمثِّل الدعاة - والإسلام أحيانًا - العدوَّ الأول، للطواغيت المستبدّين.. وإن لم يُصنَّف الإسلام كذلك في بعض الأقطار، إلا أنه يتم الاستعانة بكل عدو للإسلام في الجامعات ووسائل الإعلام لدرء عودة التوحيد صافيًا نقيًا من كل شرك؛ سواء تعلق بالقبور أو بالقصور، وسواء كان شرك الربوبية أو شرك الألوهية، أو شرك الذات والصفات، أو شرك التشريع والتقنين، أو اغتصاب ولاية الأمة وتحريفها وتمييعها وتعليبها.

كل ذلك ينطبق على كثير ممن يوصفون تجاوزًا بـ«الزعماء العرب» في القرن العشرين، والعشرية الأولى، وبداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.. زعماء فاسدون ومفسدون، لا يَصلُحون ولا يُصلِحون.. فقد ك ان جلاوزة «بن علي» في تونس، وأزلام «حسني مبارك» في مصر يتحدثون عما يصفونه بـ«المكاسب والإنجازات»، التي لم تكن مفهومة للكثير من أبناء الشعب، وبعد سقوطهما تبيَّن أن المكاسب والإنجازات هي تلك السرقات الضخمة التي لم نكن نتخيّل أنها بلغت أرقامًا فلكية.

وكما اعترف أحدهم، فإن تلك الثروات لم يجمعوها ليكونوا أغنياء، وإنما جمعوها وهرّبوها إلى الخارج لتدمير البلدان وإفقار الشعوب.. فأي أناس نصّبهم الغرب فوق رؤوسنا؟ وأي بشر يحكموننا ولا نعرف عن قذارة أيديهم وقبل ذلك ذممهم إلا القليل؟ وهل من الحكمة في شيء السكوت عن ذلك أو الرضا باستمراره، ونحن نشاهد ارتفاع أسعار كل شيء دون تراجع؟

زعماء رعناء

ماذا قدّم «بن علي» إلى تونس؟ وماذا قدّم «حسني مبارك» إلى مصر؟ وماذا قدّم «معمّر القذّافي» إلى ليبيا؟ وماذا قدّم كل من يدعي الزعامة إلى شعبه وبلاده غير السرقات والظلم والقهر والإذلال، عن طريق قوات القمع التي تجاوز عددها في بلد مثل مصر مليون ونصف مليون جندي؟!

إن المكتسبات التي يتحدث عنها المستبدون هي مكاسبهم من السرقات، والثراء الفاحش غير المشروع الذي يحرسونه بحرصهم على البقاء في السلطة، إلى جانب دورهم في منع انتشار الخير، وإصلاح الأمة.. فقد وصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت » العِبْرية «حسني مبارك » بأنه «كان الحاجز الأخير أمام الصحوة الإسلامية»؛ وهذا ما يفسر تهافت الكثير من الرعناء العرب على «البيت الأبيض» وأعتاب أوروبا؛ لضمان تأييد «مبارك»، حتى إنهم أعلنوا وقوفهم إلى جانب الطاغية دون أن يفيدهم أو يفيده ذلك في شيء.

وهم متشابهون في كل شيء تقريبًا؛ كراهية بلدانهم وشعوبهم وسرقتها بشكل فاحش، وكراهيتهم لتعاليم دينهم، وتمسّحهم بأعتاب الغرب.. وبعضهم كـ«حسني مبارك» يتحدث عن دوره في حرب 1973 م، ورغم الجدل الدائر حول دوره وما فعله، وما يزعم الزعماء المزيَّفون القيام به، فإننا نذكِّرهم بأن هناك زعماء غربيين وشرقيين قدّموا ما لم يقدّموه وتركوا السلطة، مثل الزعيم الفرنسي الجنرال «شارل ديجول» 1870 - 1970م، الذي حارب النازيين وانتصر، لكنه استقال في حياته ليخلفه «جورج بومبيدو» 1911 - 1974م وقد دُع ي «ديجول » لرئاسة فرنسا مرتَيْن مِنْ قِبَل مَنْ تهمهم مصلحة الشعب لا مصالحهم اللصوصية.. ومن أقواله المشهورة:

«لستُ مسؤولًا أمام أحد سوى فرنسا»، بينما الزعماء المزيَّفون يراعون مواقف الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وكل أعداء الأمة حتى الصهاينة.

وأيضًا الزعيم البريطاني «ونستون تشرشل» 1874 - 1965م، ال ذي انتصر في الحرب العالمية الثانية، واستقال عام 1955م، وقال قولته المشهورة: «من الأفضل أن تخسر بريطانيا الحرب عن أن يُقال: إنها لا تنفذ حكم القضاء».. ولم يكن زعيمًا سياسيًّا فحسب، بل كان كاتبًا ومثقفًا كبيرًا حصل على جائزة «نوبل» للآداب عام 1953م.

وكذلك الزعيم البوسني «علي عزت بيجوفيتش» 1925 - 2003م، الذي استقال عام 1997 م بعد أن أعاد استقلال البوسنة بعد نحو 700 سنة ظلت فيها تابعة لدول أخرى.. ومن مقولاته ردًّا على الرئيس اليوغسلافي الأسبق «جوزيف تيتو» الذي سجنه عدة مرات: «ليس الملك من يُطعم الشعب، لكن الشعب من يُطعم الملك» زعماء حقيقيون ن س وق ه ذا ال كلام على وقع «جمعة الإيمان والنصر» في مصر؛ حيث أمَّ العلامة «د. يوسف القرضاوي» ملايين المصلين، مبرزًا بذلك الإمامة الحقيقية المشتملة على جميع شروط الزعامة في أداء الشعائر وممارسة السياسة، وهي: إعانة الناس على تدبير شؤون دينهم ودنياهم بتفويض حقيقي منهم، والجمع بين المساعدة وحسن التدبير مع التربية الحسنة والعناية الفائقة.

فبعد قرابة ثلاثة عقود مُنع فيها الشيخ «القرضاوي» من الخطابة، كغيره من الدعاة في الكثير من الدول العربية، يعود معزَّزًا مكرَّمًا بني الملايين من شعبه، في لحظة تاريخية فارقة، وفي مشهد يتمنى كل مستبد لو كان هو ذلك المكرَّم، وأنى له ذلك؟!

فالناس تُكرِّم العادل السمح المتواضع المحبَّ لأمته، والمتقشف الورع الذي لا يستفيد من الأموال العامة إلا بما يكفيه ويكفي أسرته كسائر المواطنين، وقد أشار الشيخ «القرضاوي» إلى ذلك قائلًا: إن «هذه الثورة لم تنتصر فقط على النظام السابق، بل على الظلم والباطل والسرقة والنهب والأنانية»، وهي صفات جامعة لمن يسمون أنفسهم «زعماء» تجاوزًا. إن الزعماء الحقيقيين هم الذين يحبّون أمتهم وتحبّهم أمتهم، وليس أول ئ ك الذين طُردوا من ميادين تونس ومصر، وهم يحملون ألقاب المفكّر والزعيم، بل هناك من لُقِّب بـ«الزعيم» وتم تصويره في أفلام السينما كما لو كان زعيمًا سياسيًّا حقيقيًّا، لم يجرؤ على الاقتراب من «ميدان التحرير» في القاهرة، وذهبت زعامته هباء منثورًا، كما ذهبت زعامة «حسني مبارك»!، ليس ذلك فحسب، بل تم وضع اسمه ضمن القائمة السوداء للثورة.

مشاهد نابضة

لقد أعاد مشهد الشيخ «القرضاوي» وهو يؤم المصلين في «ميدان التحرير» وليس مفتي الجمهورية، ولا شيخ الأزهر مع احترامنا لهما مشاهد نابضة من التاريخ الإسلامي، عندما كان للعالِم دوره في بنية الدولة الإسلامية القوية، التي تهابها الدول الأخرى، وتدفع لها الجزية مقابل الحماية؛ فأصبحنا في ظل المستبدين المعاصرين، ندفع الجزية مقابل حماية أساطيل الغرب لأنظمة مكروهة من شعوبها؛ بسبب ظلمها واحتكارها للثروة والسلطة!

فهذا «العز بن عبدالسلام» يرحمه الله - المغربي مولدًا، والمصري دارًا ووفاة؛ الملقب بـ«سلطان العلماء»، والمعروف بـ«بائع الملوك» - قد حظي بهذه الزعامة؛ لتمتّعه بأكمل الصفات وأجمل الخصال وأنبل المزايا.. فمن صفاته الورع؛ حيث رفض توظيف أيٍّ من أبنائه في المناصب التي تحتاج صفات معينة، ورفض طلب الملك «الظاهر بيبرس» قائلًا: «ليس فيهم من يصلح»، وطلب تسمية أحد تلامذته للمنصب وهو القاضي «تاج الدين ابن بنت الأعز».. كما عُرف بالزهد،؛ فلم يقبل أي درهم من «بيبرس»، وقد أفتى ببيع الأمراء، وعندما رفض الملك ذلك، خرج من القاهرة، بينما يظل المفتون في عصرنا في مناصبهم ولا يخرجون منها إلا بقرار من الحاكم!

سلطان العلماء

وبينما يقوم الزعماء المزيَّفون بسرقة الثروات وإفقار الشعوب، يضحي الزعماء الحقيقيون من أجل أمتهم بكل ما لديهم، كما فعل «سلطان العلماء».. فعندما ارتفعت الأسعار واضطُر الناس في الشام إلى بيع ممتلكاتهم بأسعار زهيدة، طلبت زوجة «العز بن عبدالسلام» أن يبيع ما لديها من حُلي يشتري به بستانًا، فباعه وتصدّق به، وعندما سألته: «هل اشتريت لنا بستانًا؟»، قال: «نعم، ولكن في الجنة».

لذلك، كان السلاطين يخشونه، فلم يكن لديه ما يخسره، وعندما حال ابنه دون قتله نهَرَه قائلًا: «يا ولدي، أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله»، لذلك كان زعيمًا حقًا، يهابه المستكبرون والمتجبرون، وعندما غادر مصرة غاضبًا من الملك لحق به أغلب المسلمين، فركب السلطان ولحق به واسترضاه.

باقون في الذاكرة نرى الزعامة الحقيقية في سلالة بيت النبوة، فالناس بالأفعال لا بالأسماء والألقاب.. فتذكرنا قصة «علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب» رضي الله عنهم، بأن الزعيم هو الذي تتوِّجه الأمة بالزعامة، وليس ذلك الذي يصطنعها اصطناعًا.

والزعيم الحقيقي هو الذي يتوِّجه حب الناس، وليس الاغتصاب والغلبة بقوة القمع.. فعندما حجَّ «هشام بن عبدالملك».

فطاف وجهد أن يصل إلى الحجر ليستلمه فلم يقدر عليه من كثرة الزحام، نصب له منبرًا وجلس عليه، وفيما هو كذلك إذ أقبل «زين العابدين»؛ فطاف بالبيت، ولما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس وانشقت له الصفوف ومكّنته مكانته من استلام الحجر، فقال رجل من أهل الشام: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة»، فقال هشام: «لا أعرفه»، مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان «الفرزدق» حاضرًا، فقال: «أنا أعرفه» وأطلق قصيدته الشهيرة الطويلة، التي يقول في أولها:

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ                     والبيتُ يعرفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ

هذا ابنُ خيرِ عبادِ اللهِ كلِّهمُ                           هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ

كما حصل شيخ الإسلام «ابن تيمية» يرحمه الله - على الزعامة في الدين، وفي الدفاع عن أرض الإسلام وجهاد التتار في القرن السابع الهجري.. فعندما كان الناس يفرون من التتار، والحاكم عاجز عن ردهم، قام الشيخ فيهم واعظًا ومحمِّسًا ومثيرًا لغيرتهم على دينهم وبلادهم، بل ذهب للقاء ملك التتار ال ذي ك ان ت ترتعد الفرائص لذكره، وق ال «ابن تيمية» للمترجم: «قل لـقازان»: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضٍ وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا، وأبوك وجدك كانا كافرَيْن وما عملا الذي عملتَ، إنهما عاهدا فوفيا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ، وقلتَ فما وفيتَ وجُرْت».

وبعد فترة هدوء، عاد بعض التتار إلى الظلم، فحث «ابن تيمية» على قتالهم، وسافر من الشام إلى مصر، ودعا للنصرة، وبعد رحيل التتار قام مع تلاميذه بتكسير الخمارات وإغلاق أماكن الفاحشة في دمشق.

وعندما عاد التتار سنة 702 ه، وأحاطوا بدمشق، أقسم «ابن تيمية» على النصر، وقال للناس: «إذا رأيتموني في صف التتار وعلى رأسي المصحف فاقتلوني، لتأكيد فتواه بوجوب قتال الصائل، وقاتل - يرحمه الله - حتى هرب التتار.

هؤلاء هم الزعماء الحقيقيون الباقون في الذاكرة، والخالدون في جنات النعيم بإذن الله تعالى.. أما الزعماء المزيَّفون، فهم مثل الهشيم سرعان ما تطويهم نار التاريخ كصور من ورق.

الرابط المختصر :