العنوان الشعر الإسلامي المعاصر ومسألة التعبير المباشر
الكاتب محمد هدى قاطرجي
تاريخ النشر الجمعة 18-أغسطس-1978
مشاهدات 16
نشر في العدد 408
نشر في الصفحة 32
الجمعة 18-أغسطس-1978
دأب بعض الناس على توجيه اللطمات للشعر الإسلامي، ووضعوا من أجل ذلك مقاييس فنية، بحيث إذا قيس الشعر الإسلامي بها، خرج عن كونه شعرًا أو تعبيرًا فنيًا، والغريب أن نرى مقاييس هؤلاء تتسرب إلى ذهن الأديب المسلم، لتكون بالتالي موجهًا لأدبه وفنه، وقد تمسك هؤلاء بعدة ملامح وسمات هاجموا بها التعبير الشعري عند الإسلاميين، ومن أبرز تلك الملامح -المباشرة-، وهي ظاهرة تبرز في كثير من قصائد الشعر الإسلامي المعاصر، وقضية التعبير المباشر هذه، أخذت مفاهيم عدة في أذهان الأدباء والنقاد، فمنهم من يرى المباشرة في كل تعبير لا يتكئ على الرمز، أو لا يمتلئ بالمعجبات، ومنهم من يراها في كل قصيدة لا تعج بالأساطير والخرافات اليونانية أو الرومانية القديمة، ومنهم من يراها في كل قصيدة تخلو من تداخل معطيات الحواس وتمازجها، إلخ هذه المفهومات التي تطغى على مقاييس أولئك، وإنني لا أقصد مهاجمة هؤلاء متعصبًا لطريقة ما، إنما أريد أن أسأل: لماذا تعتبر المباشرة في التعبير الشعري عيبًا؟ قد يكون ذلك في بعض مواطن التعبير صحيحًا، وقد يكون للرمز جماله، وللصورة دورها الكبير في كثير من مجالي التعبير، لكن اطراد طريقة ما في جميع قصائد الشاعر هو العيب الفني الصحيح، ولا سيما إذا سلمنا أن الأدب لدى الشاعر الإسلامي وسيلة وليس غاية، والكلمة عنده أداة للتعبير عن المعتقد والرؤية النابعة عن وجدان مسلم، ومن أجل ذلك فهو لا يهتم بالتعصب لمذهب فني دون آخر وإنما يترك لموضوعه أن يختار الشكل المناسب له في التعبير والأداء، فهو يتوسل بالصورة، ويعبر بالرمز، كما يطلب فنه من هذه الأشكال أحيانًا، وكل ذلك يأتي متناسقًا مع موضوعه وملائمًا لدوافعه وانفعالاته، إذ إن حملة العوامل الفنية والفكرية الدافعة للقول، هي التي تحدد له هذا الشكل وتلك الطريقة، وهذا لا يؤدي إلى القول بوجود انفصام تعبيري عند الشاعر الإسلامي، بقدر ما يعني خضوع الإطار التعبيري لعواطفه وانفعالاته، بل لعقيدته التي تصدر عنها معاني قصيدته.
على أن الشعراء الإسلاميين ليسوا بدعًا بذلك، فهم يأخذون مثلهم الأعلى في طرق التعبير من التعبير القرآني، وهو تعبير يراوح بين الصورة والمباشرة، وذلك بحسب ما يقتضيه السياق الموضوعي، فالقرآن المكي معجز، والقرآن المدني معجز، بيد أن لكل منهم سمات تعبيرية غالبة متغايرة دون أن يؤثر ذلك على جمالية الأداء مطلقًا، ولعل التقريرية والمباشرة الغالبة على ما هو مدني من القرآن الكريم، هي الأنسب -دون ما جدال للموضوع الذي تحمله، والفكرة التي تعبر عنها.
إن التعبير المباشر الذي يصدر عن وجدانات كثير من الشعراء الإسلاميين، لا يقلل من المكانة الفنية لشعرهم، فالتعبير عندهم ملازم للمعنى ومناسبة القول، وهو ملتزم بخدمة العواطف الصادرة عن انفعال الشاعر بموضوعه وفق تصور عقدي إسلامي، وهذا يضطر الشاعر إلى التخلي عن التعبير المصور في كثير من الأحيان، فعصام العطار لم يجد خيرًا من المباشرة التعبيرية، عندما توجه إلى ربه مبتهلًا وداعيًا، وقد تناسق أداؤه مع الصفاء الروحي والخضوع الكامل لإرادة الله في أبياته في حين أن هذه الاستسلامية والعبودية لله لم تقتض منه جلب الألوان والروائح إلى القصيدة، كما أنها لم تضطره إلى سبع لبوس الرمز على معانيه، وإنما ترك العنان لروحه تعبر كيفما تشاء، يقول:
ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا |
| نفثت يومًا شكاة القلب من كربي |
فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما |
| شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي |
لك الحياة كما ترضى بشاشتها |
| فيما تحب وإن باتت على غضب |
رضيت في حبك الأيام جائرة |
| فعلقم الدهر إن أرضاك كالضـرب |
ومثل ذلك يمكن أن نقوله عن استرسال العطار مباشرة في تساؤله عن إخوان دربه كقوله في مخاطبة أبي الأعلى المودودي:
فدتك نفسي أبا الأعلى وهل سلمت |
| نفسي لأفديك من أهل من صحب |
وقوله متسائلًا إخوان آخرين له:
ماذا عن الصحب والإخوان في حلب |
| يا طول سهدي على الإخوان في حلب |
ماذا تعانون من عسر ومن رهق؟ |
| ماذا تقاسون من سجن ومن حرب؟ |
إنها صيحات كيد مكلومة سبقت حنكة اللسان بالسؤال عن أحب الناس إلى قلبه، ففي موقف الأخوة تنطلق النفس على سجيتها في التعبير بعواطف الاغتراب والشوق إلى إخوة الدرب والجهاد، وهذا موقف فني أصيل، تناسقت فيه الصياغة والمعنى مع الأحاسيس دون ما قيد، وأظن لو أن العطار اختار طريقة أخرى في تعبيره هنا، لما شعر المتلقي بهذا الصدق الوجداني الصارخ، الذي يبرز في الأبيات.
وهنا أود أن أذكر الدخلاء، الذين يسترخصون النغم الدافئ في الشعر الإسلامي، بأن الشاعر المسلم، لم يتخل عن قوانين اللغة وقواعدها كما فعلوا وما زالوا يفعلون تحت اسم التجديد وطرح القيود المكبلة لحرية التعبير، كما أنه لم يقبع تحت صومعة الأدب الغربي متعبدًا لكل ما هو دخيل على تراث أمتنا، مستجديًا المفاهيم التي من شأنها إفساد أدبنا الخالد، وليعلم أولئك أن الأديب والشاعر المسلم لا يكتب لنفسه فحسب، وإنما يكتب لأمته وحضارته ومجتمعه، فهو ابن بار لعقيدة الإسلام، وهو أخ للمسلمين في جميع أرجاء الأرض، وهو يعيش حياة إخوانه أينما كانوا، وبالتالي فإن أدبه ليس غريبًا عنهم وإنما الغريب هو أدب الصرعى على موائد الغرب المليء بالمعميات التي تستغلق على فهم صاحبها، لأنها أساسًا لم تصدر عن وعي فني يحفظ لصاحبها ماء وجهه.
الشعر في ليلة القرآن ..
وليلة القرآن فرصة الشاعر للدعاء والابتهال، فالشاعر المسلم الذي يعيش قضايا أمته لا ينساها أبدًا في تلك الليلة، فهي مجال إطلاق الدعوات الصادقة، واللجوء إلى الله والاستعانة به على مصاب الأمة، وفيها الوقت الطيب الذي يحلو فيه النشيد الرقراق، وتحلو الابتهالات العذبة التي يعصرها الوجدان، فتشفى النفس المؤمنة المستكينة، وقد وجد الشاعر وليد الأعظمي في ليلة القرآن فرصته لبث عذب النشيد يقول:
يا ليلة القرآن ذكرك طيب |
| يحلو برياك النشيد ويعذب |
وفي هذه الليلة يستبطن الشاعر أحوال أمته وأوضاع قومه، ويدعوهم عبر هذه الليلة الكريمة للعودة إلى التمسك بالعهد والرجوع عن الدنيا ومتاعها إلى البارئ عز وجل، والأوبة إلى كتاب الله وشرعته الناصعة، شرعة العز والكرامة، ففيها النظام الأمثل، والسبيل الأقوم هكذا يسمو وجدان الشاعر المسلم، وهو يترقب عودة الأمة إلى رشدها فيقول:
يا ليلة القرآن ردي معشـرًا |
| نكثوا العهود وخالفوا وتقبلوا |
غرتهم الدنيا بزائف مجدها |
| والمجد في الدنيا بريق خلب |
يا من تريد العز دونك نبعه |
| أي الكتاب يسوغ منه المشـرب |
الحق ما نطق الكتاب بهديه |
| أو ما حكاه لنا الرسول الأنجب |
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
في «المبحرون مع الرياح» شاعر يهفو إلى سماء تسقيه رضاب النسور!
نشر في العدد 216
22
الثلاثاء 03-سبتمبر-1974