العنوان الصوم ووقفات للتأمل والمراجعة
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 15-فبراير-1994
مشاهدات 16
نشر في العدد 1088
نشر في الصفحة 39
الثلاثاء 15-فبراير-1994
كثيرًا ما تمر الأيام وتنقضي، وتكر الليالي وتنتهي وتمضى السنون وتنمحي، وتتسرب من بين الأيدي وتتفلت من بين الجوانح، والإنسان ذاهل النفس، شارد اللب تائه الخطو، لا يقف مع نفسه وقفة تأمل، ولا مع خطوه لحظة تدبر، وكم هو في حاجة إليها، وفى شوق إلى فيئها الحنون وظلها الوارف ويلتفت الإنسان المؤمن إلى أيام رمضان، فيجدها تأتي غذاء وريًا وواحة وأمنًا، تقف عندها النفس مرفرفة محلقة نشوى تلوذ بحضنها، وتدخل في أمنها، وترشف من رحيقها وتتعرض لنفحاتها، فتداخلها الأشعة الربانية، والأنوار القرآنية، فتجدد خلايا العقل، وتروح جوانح النفس، وتزيل قتامة الروح، وتنير فجاج الدرب وترشد سبيل الخطو تأتي مصحة من كل علة، وشفاء من كل داء، وبرءًا من كل سقم، تأتي محطة تزود الإنسان بالطاقة، وتمده بالنشاط وتسلحه بالعزيمة، وتحصنه بالتقوى، تأتي وقفة للحساب، وصفحة للمراجعة، وميزانًا للعمل، وموسمًا للتوبة، وعهدًا للتقدم وبيعة لله تأتي لتوقظ النائم وتنبه الساهي وترشد الضال وترجع العاصي، عن أبي أمامة رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله مرني بعمل، قال: «عليك بالصوم فإنه لا عدل له قلت: يا رسول الله مرني بعمل قال عليك بالصوم فإنه لا عدل له قلت يا رسول الله مرني بعمل قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له. وفي رواية قال: قلت يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، فكان أبو امامة لا يرى في بيته الدخان نهارًا، إلا إذا نزل به ضيف، ومن هذا نرى أن الصيام يجمع كل صفات الخير ويعدل كل موازين الأعمال، ويكون سببًا في سيرة طيبة كريمة توصل الإنسان في دنياه إلى المجد، وتسير به بعد ذلك إلى الجنة، تماما كما سارت بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دنيا عزيزة ملكوا أقطارها، وفجروا ينابيعها وثمروا خيرها وأعطوا كل ذي حق حقه، وملكوها عدلًا ونورًا، وساروا بعد ذلك إلى الله وإلى جنة ومقام كريم، وقد يظن الظان، ويحسب المتعجل أن الصوم عمل عادي، أو شيء قليل وقد تلمح هذا في ثنايا حديث أبي أمامة ومراجعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكراره للسؤال نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن كرر عليه الجواب نفسه تأكيدا وتعليمًا وتربية ولفتًا إلى ما في الصوم من خير وبر ودرجات ويقرأ الإنسان قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله تعالى إلا باعد بذلك اليوم وجهه من النار سبعين خريفًا فيرى عظم الثواب ويلفت إلى جزيل الأجر، وقد يسائل الإنسان نفسه أيكون هذا الصوم يوم فقط في سبيل الله والامتناع عن الطعام والشراب لفترة محدودة من اليوم، ولكن هذه الفترة هي التي في الحقيقة تكون عمر الإنسان فهي وحدة من وحدات حياته، فما الحياة إلا أيام، وما العمر إلا تلك الفترات، فإذا استطاع الإنسان أن يصون يومه عن اللهو والحرام وأن يدرب نفسه على الفضيلة ويجعله في مرضاته سبحانه، فيكون ذاكر اللسان راشد الفكر، طاهر الذيل نقى الخطو، فقد أفلح في وضع اللبنة الكريمة لحياة عزيزة راشدة، وعمر سامق كريم يجزيه الله وتجزيه الإنسانية عنه خير الجزاء، نرى هذا في الحديث الذي رواه عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد فنرى في هذا كرامة أخرى للصائم عند الله تبارك وتعالى وهي قبول دعوته عند فطره وعند تمام يومه طاهرًا نقيًا كريمًا، وما كان هذا الفضل وما يكون إلا بعد إبداعات نفسية، واستقامات فكرية ونهضات عملية تشكلت في ذاتية هذا المؤمن الرباني فصاغته صياغة فريدة استحق بها هذا الفضل ونال بها هذا الشرف. وبعد أفلا يستدعي كل هذا وقفة تأمل من الإنسان المسلم اليوم؟؟ ولحظة تدبر واستغراق وتبتل في جنبات هذه الأيام المباركة ليحصل هذا الخير ويظفر بهذا الفضل، ويحظى بتلك الكرامة وينال هذا الرضوان في وقت نحن أحوج ما نكون إليه بدلًا من تسرب الأيام، وتغلت الأوقات وتجرع الحسرات وضياع الأعمار ويظل الإنسان هائمًا في التيه والضلال بعيدًا عن الطريق المستقيم، يصوم عن المعالي ويفطر على الدنايا يهبط إلى الحضيض ولا يرتفع إلى الفلاح والنجاح، يسام الخسف فيصمت، ويسقى الهوان فيستمرى، ويعطي الدنية فيستسلم، ويعلم السوء فيطيع، ويلقن الإفك فيصدق، ويفهم الزور فيهلل، ويدرب على النفاق فيستجيب حتى يصير ببغاويا يؤمر فيردد ويحاكي، فتنام الأمة حينئذ على هدهدة الأبالسة التي تلوح لها قائلة:
صوموا ولا تتكلموا | *** | إن الكلام محرم |
ناموا ولا تستيقظوا | *** | ما فاز إلا النوم |
إن قيل إن نهاركم ليل | *** | فقولوا مظلم |
أو قيل هذا شهدكم | *** | مر فقولوا علقم |
فهل تتكلم الأمة اليوم بعد طول صمت فتفضح الظلم والبغي والعدوان على المسلمين في البوسنة والهرسك وفى مشارق الأرض ومغاربها؟ وهل تتحرك الأمة حتى ترفع الغمة وهي ما يقرب من خمسين دولة وخمسين حكومة، وخمسين رئيس وخمسين مقعد في الأمم المتحدة إلخ إلخ.. أم تظل صائمة عن المعالي مخدرة ميتة الإحساس والعزيمة والعقل والمنطق؟!!!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل