العنوان الظماء.. والري.. والتأمل
الكاتب د. ماهر حتحوت
تاريخ النشر الثلاثاء 05-يناير-1971
مشاهدات 20
نشر في العدد 42
نشر في الصفحة 19
الثلاثاء 05-يناير-1971
التأمل: تلك اللحظة التي تعيش بحق، هنيهة الحضور الإنساني الصادق والرؤية الصافية التي يتفرد بها الإنسان في حالة الألق الفريد.
والتأمل غير مجرد التفكير، بالذهن يكون الفكر، ولكن التأمل بالوجدان يكون معرفة الحقيقة، أو محاولة معرفتها ذلك هو التفكير.
ولكن تذوق هذه الحقيقة واستطعامها وعناقها بذراعي الفكر والروح، والامتزاج بها بحيث تضيف شيئًا إلى النفس، ذلك هو التأمل.
والأنبياء عليهم السلام جميعا كانوا من أهل التأمل، قبل البعثة وبعدها،
· وخليل الله إبراهيم حين يقلب النظر بين النجوم وهو سقيم، كان في حالة القلق الأسمى، حيث تشرئب النفس المتأملة إلى منابع الحقيقة دون أن تبلغ مجرى الري الدفاق.
· وفي السجن كان يوسف وفي الغار كان محمد صلى الله عليه وسلم يغيب في صمت طويل، لكنه في غيابه كان في عز الحضور وفي صمته كان التأمل حوارًا دائرًا، بين نفسه وبين الكون، كأروع ما يكون الحوار.
وقد تمر على الحقيقة، تعرفها، وربما تألفها، دون أن تضيف إلى النفس أو حتى دون أن تشعر بها النفس على الإطلاق، هنا، لا تعمى العيون، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وهنا تستحيل العيون إلى حفر، البؤبؤ عدسة عليها منصوبة والشبكية شريط تصوير، ولكن من ذا الذي يرى الصورة ويضعها في مكانها من الذات.
وقد تنظر إلى أبسط الأشياء، بيقظة المتأمل، فإذا الرحابة بغير حدود، وإذا الآفاق تنفتح على الآفاق وينابيع المشاعر والحكمة تكاد تسقيك أفاويق الخلود.
· أيقظني الظمأ ذات ليلة من نوم عميق، تنبهت والحلق حطب يابس على شعور بالعطش ملحاح، تحسست طريقي والماء طلبتي وبغيتي وشوقي اللحوح، تصورت للحظة بحرًا لا يرويني وأترعت كوبي وشربته شرب المنهوم، ثم أترعته أخرى فبلغت منه قليلًا فشعرت أني ارتويت، تملكني نهم فارتشفت بغير حاجة فشعرت أني زهدت ثم أتخمت، ثم رشفة أخرى وتأتي بوادر الغثيان، واستحال الزهد إلى سأم ثم إلى ضيق، ثم ليس أكره لحظة إذن من طعم الماء، ما كان منذ لحظات نهاية المبتغى وشاية المرام، أصبح على مسيرة كوب وبعض كوب شعور تخمة ومجلبة غثيان.
تأملت حالي مع الماء أو حال الماء معي، ربما للمرة الأولى رغم أن علاقتنا تعود إلى قبل الميلاد.
· ليست بسيطة عملية الظمأ ولا عملية الري، وإنما هي سلسلة من التفاعلات والانفعالات بالغة الإعجاز بالغة التعقيد.
وقد حار العلماء تجاه شعور الظمأ ذلك الذي نحسه كل يوم، وانتهوا إلى أن المسألة ليست مجرد صفة فسيولوجية آلية بسيطة، وإنما هو شعور وجداني أو عاطفي بحاجة الجسم إلى الماء، أما ذلك المظهر من جفاف الحلق ونشفان الريق فليس إلا من الظاهر المحدود وقد خدروا الحلق والفم واللسان بحيث لا تشعر بشيء ورغم ذلك ظل الإحساس بالظمأ على ما هو عليه لدى الإنسان الظمآن، ما دام جسمه يحتاج إلى الماء، وما دامت خلاياه محاطة بسائل مركز بأكثر مما يراد له من تركيز.
وكذلك فإنهم حقنوا الأتروبين الذي يمنع إفراز اللعاب فإذا الحلق يجف ويتيبس ولكن بشعور يختلف عن الظمأ المعروف.
اختلف الوسط الذي تعيش فيه الخلايا فتهيجت أطراف أعصاب وسرت فيها إشارات كالكهرباء، ذهبت هذه من أنحاء الجسد عبر مجاري الأعصاب إلى الغدة تحت النخاعية، وانفعلت هذه وتفاعلت وأثرت وتأثرت وراسلت المخ وراسلها، وفي تلافيف المخ تجمعت رسائل وحلت شفرات وأرسلت إلى مراكزه العليا إشارة ملحة إلى ذلك النائم يخور، لتوقظه أن قم فإن قدرًا موزونًا من الماء، لا بد أن ينصب الآن في المعدة والأمعاء، ليمتصه الدم ويسير به في الأرجاء والأنحاء ليأخذ كل نصيبه المفروض ويستيقظ النائم مدفوعًا إلى الماء فإذا أخذ منه القدر المعلوم، فألف مقياس في الجسم ومقياس، وألف مختبر وأعاجيب كيمياء، تنبئ أن ذلك القدر يكفي، وأكثر من ذلك القدر غصة وبعده غثيان وإلا فالرفض والقيء والصدود، كل ذلك عبر إشارات ورموز تترجم في الدم بشفرة وفي الأعصاب بتيار وفي المخ بأفعال، وبشكل ما تصل إلى الوعي في شكل شعور، بالري عند الاكتفاء وبالضيق بعد الاكتفاء. كل هذه الحركة الصخابة الدوارة قائمة على قدم وساق، كل هذا الإعجاز من العمليات وراء قومتي لأشرب من ساعة عشقي للماء إلى زهدي فيه إلى ضيقي به، ذلك إن كل شيء خلق بمقدار، وكل شيء موزون. ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191).
وانصرم من الليل أغلبه في تأمل طويل، ولم يطل ليلي، ولكن لم أنم، ذلك أن تفكري بالنوم واليقظة في حياة الإنسان قادني إلى أفق جديد ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات: 21)، صدق الله العظيم.
دكتور ماهر حتحوت
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل