; الصوم والمعاني.. الإيجابية | مجلة المجتمع

العنوان الصوم والمعاني.. الإيجابية

الكاتب مجلة المجتمع

تاريخ النشر الثلاثاء 17-نوفمبر-1970

مشاهدات 19

نشر في العدد 36

نشر في الصفحة 20

الثلاثاء 17-نوفمبر-1970

الصوم والمعاني.. الإيجابية

                                            للدكتور محمد عبد الله دراز

إن ما في الصوم من كبت وحرمان، ليس هدفه هذا الكبت والحرمان، وإنما الصوم وسيلة إلى غاية نبيلة.

إنه التدريب على السيادة والقيادة، قيادة النفس وضبط زمامها، وكفها عن أهوائها ونزواتها، بل إنه التسامي بتلك القيادة إلى أعلى مراتبها، فلقد كنت في بحبوحة الإفطار إنما تحمي جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصوم تفطمه حتى عن الحلال الطيب، ولقد كنت بالأمس تكف لسانك من الشتم والإيذاء، فأصبحت اليوم تصونه حتى عن رد الإساءة وعن إجابة التحريش والاستفزاز، فإن خاصمك أحد أو شاتمك، لم تزد على أن تقول: إني صائم، هكذا ملكت بالصوم زمامي شهرتك وغضبك.. وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر، فلئن كان الصوم قد علمك أن تصبر اليوم طائعًا مختارًا في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدًا أقدر على الصبر والمصابرة، في البأساء والضراء وحين البأس، ولئن كان الصوم قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غدًا على عدوك، وتلك عاقبة التقوى، التي أراد الله أن يرشحك لها بالصيام.

أهداف أخرى

إن هذا الهدف الذي صورناه وحددناه، إنما يقوم في منتصف الطريق، الذي رسمه الله للصائمين، وإن في نهاية هذا الطريق، هدفًا آخر، بل أهدافًا أخرى أهم وأعظم، وفي الحق أنه لو كان كل ما يطلب من الصائم هو أن یكف نفسه عن شهواتها وانفعالاتها، ولم يكن أمامه عمل إيجابي جديد يسد به هذا الفراغ، إذًا لكانت تجرِبة الصوم انتقاصًا للطاقة العاملة من ناحية دون إمداد لها من ناحية أخرى وإذًا لكانت على حد تعبير العلماء «تخلية» «بلا تحلية» أو تجارة مأمونة الخسارة، ولكنها لا ربح فيها ولا غنيمة.

فهل شريعة الصوم في الإسلام هي تلك الصور العارية الجرداء؟ كلا إنها عبادة ذات شطرين، وليس شطرها الأول إلا تمهيدًا وإعدادًا لشطرها الثاني. إنها شجرة جذعها الصبر، ولكن الله لا يريد للصائم أن يترك هذا الجذع قاحلًا ماحلًا، بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصانًا من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر، وإن من تأمل كلمة التقوى التي عبر بها القرآن الكريم في حكمة الصيام، يجدها منطوية على هذين الشطرين.

فهي في شطرها الأول كف وانتهاء، وابتعاد واجتناب، لكنها في شطرها الثاني إقبال واقتراب، وإنشاء وبناء.

إغلاق منافذ الحس وفتح منافذ الروح

وإذن فليس الشأن كل الشأن في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى في نفسه، فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران، ولكن الشأن الأعظم في أن يكون إغلاق منافذ الحس فتحًا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينًا لكلمة الحق والهدى، فتلك هي مفاتيح أبواب الجنان.

ومن كان في شك من أن هذا الجانب الإيجابي، هو الهدف الأخير لشريعة الصوم فليقرأ كتاب الله، يجد دلائله مثبوتة في تضاعيف آيات الصوم، وليطالع سنة رسول الله.

يجد معالمه مبسوطة في هديه النبوي قولًا وفعلًا، والعجيب في هذا التوجيه أن الإسلام لم يتركه دعوة مرسلة، بل وضع له مناهج معينة، ورسم له خططًا مفصلة، ذلك أنه لما جعل شهر الصوم موسمًا لانطلاق الروح من عقالها، فتح فيه للأرواح بابين تتدفق منهما: بابًا إنسانيًا، وبابًا ربانيًا، فأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الإنساني، فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضًا وإمساكًا بالحفظ والادخار، بل بسطًا وسخاء بالبذل والإيثار: لا تسد أيها الصائم جوعتك، ولا تنقع غلتك، ولكن أطعم الجائع واسق الظمآن، وهذا هو الصوم كما فهمه إمامنا الأعظم صلوات الله عليه؛ فقد كان أجود ما يكون في رمضان، حتى أنه كان فيه أجود من الريح المرسلة، وما زكاة الفطر في آخر رمضان، إلا الحلقة الختامية، والمظهر العلني الجماعي لهذه الحركات النفسية الفردية، التي تحولت فيها فضيلة الصبر، إلى فضيلة الشكر، اتباعًا لإرشاد القرآن الكريم حين يقول: وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ

مسالك الطاعة

وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني، فذلك أن الإسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سبلًا ذللًا، تسبيح وتحميد تكبير وتمجيد. ﴿وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ﴾ تضرع وابتهال ودعاء وسؤال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ﴾ ركوع وسجود، وقيام وتشمير ونهوض: ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وما الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، إلا نهاية الشوط في هذا السير إقبالًا على الله وانقطاعًا بالكلية إليه: ﴿وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ﴾ .

مناجاة الله بكلامه

ألا وإن ذروة الأمر وسنامه في هذا الجانب الرباني، إنما هو في مناجاة الله بكلامه، وفي مدارسة كتابه، كما كان يفعل الرسول المصطفى من البشر: والرسول المصطفى من الملائكة، إذ كانا يتدارسان القرآن في رمضان في كل عام، ولأمر ما نوه الله بهذه الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، وجعلها أولى المناقب والمزايا التي اختص بها هذا الشهر المعظم، فقال جلت حكمته:

﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ﴾ (البقرة: ١٨٥) فكان ذلك إيماء لنا بأن نجعل حظ رمضان من القرآن أوفر الحظوظ.

وإذا كان من شأن الأمم الحية التي تعنى بتاريخها وأمجادها، أن تبتهج وتحتفل بذکری مولد دستورها، فلم يكن بدعًا من الأمر أن يجعل الإسلام شعار رمضان هو الاحتفال بمولد دستوره السماوي، الذي ختم الله به الشرائع، وأتم به مكارم الأخلاق.

الاحتفال بعيد الدستور السماوي

ألا وإن أفضل أسلوب عرفه الناس في الاحتفال بعيد الدستور هو أن يجعل يوم ذكراه يوم تجديد لعهد الولاء له، وتأكيد للحرص والاستمساك به، فكذلك فليكن احتفالنا بشهر رمضان احتفالًا بالقرآن الذي أنزل فيه: تعبدًا بتلاوته وسماعه، واستظهارًا لآياته، وتفقهًا في معانيه، وتأدبًا بآدابه، واتباعًا لأحكامه، ألا ولتكن نصب أعيننا هذه الحقائق الأليمة، وهي أن قراء القرآن وحفاظه أصبحوا يقل عددهم عامًا بعد عام، وإن القائمين بأحكامه الواقفين عند حدوده قد أصبحوا أقل من القليل، فالقرآن القرآن أيها الصائمون، ثم القرآن القرآن أيها المسلمون، وإياكم أن ينفد هذا الكنز من بين أيديكم، واعلموا أن الله ما كان ليعذبكم والقرآن فيكم: ﴿وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٥) تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وجمعنا وإياكم تحت راية القرآن، يوم تدعى كل أمة إلى كتابها.

«عن كتاب: الصوم تربية وجهاد» 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الجوع علاج

نشر في العدد 17

29

الثلاثاء 07-يوليو-1970

الظماء.. والري.. والتأمل

نشر في العدد 42

21

الثلاثاء 05-يناير-1971

هل الصوم عبادة شخصية؟!

نشر في العدد 35

24

الثلاثاء 10-نوفمبر-1970