العنوان القَافلة تعقد صَفقتهَا (الحَلقة الثالثة )
الكاتب أبو الحارث
تاريخ النشر الثلاثاء 19-أكتوبر-1976
مشاهدات 10
نشر في العدد 321
نشر في الصفحة 42
الثلاثاء 19-أكتوبر-1976
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. (التوبة: 111)
إن هذه الآيات لعظيمة، وإنها هم العصبة المختارة التي تميزت عن سائر الناس بصفات، تختص بذات نفسها في تعاملها المباشر مع ربها في الشعور والشعائر، ولقد كان ولاؤها محضًا لله الذي عقدت معه تلك الصفقة.
إن هذه الآيات لعظيمة، وإنها تكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بربهم -سبحانه وتعالى- وعن حقيقة البيعة التي أعطوها من أعماقهم وتفوهوا بألسنتهم للرب -عز وجل-، فمن بايع هذه البيعة ووفى بها، فهو المؤمن الحق الذي تنطبق عليه الآية.. من بايع وارتضى الثمن ووفى، فهو المؤمن، فالمؤمنون هم الذين اشترى الله منهم فباعوا.
إن هذه البيعة مطوقة في عنق كل مؤمن قادر عليها، لا تسقط عنه أبدًا إلا بسقوط إيمانه.
إن هذه الكلمات النورانية طرقت على أوتار قلوب مستمعيها الأولين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدقت قلوبهم وأصبحت واقع حياتهم، ولم تكن مجرد كلمات فقط يسمعونها بآذانهم أو يرددونها بألسنتهم، بل كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها.
إن الجهاد في الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة دونها ولا تصلح.. إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد للباطل أن يقف له ويعيقه.
القافلة في ميدان الجهاد:
إن هذا الدين يعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده -جل وعلا-، وينادي بالحاكمية لله، وهذا يعني قيام مملكة الله في الأرض، ولقد سعى هؤلاء الجنود في قيام المملكة الإلهية، فخاضوا المعارك واحدة تلو الأخرى وباعوا أنفسهم لأنهم طلبوا الجنة.
ولقد اتجهت القافلة المؤمنة إلى بدر، وفي الطريق هتف متكلم المهاجرين: «والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، لسرنا معك حتى تنتهي إليه».
لقد كشف الرسول -صلوات الله عليه- النقاب عن وجه المعركة الحقيقي بما جاء في دعائه المشهور يومذاك، حين جعل للعصبة المقاتلة أثقل الوزن في تحقيق عبودية الله، ولقد كان أبطال بدر يمارسون حق الحفاظ على العقيدة التي تبدأ من التوحيد، ولقد برهنت هذه المعركة -وهي معركة الفرقان- أنه لا يكفي في تأييد الحق.. بل لا بد من تأديب العادين عليه.. وكذلك كان أهل بدر.. لهم شرف القافلة الأولى على خط البناء العظيم، الذين أرسوا قواعدها بجثث أبطالهم ودماء شهدائهم، يوم شمروا عن سواعدهم فمرغوا رعونة الظلم بالتراب، ووضعوا أرجلهم على خدود الظالمين.
ولما انتهت القافلة من بدر، أخذت تستعد للرحلات القادمة استعدادًا تامًا، وجاء ذلك اليوم الذي استعدت له.. ولقد سمع الفتى الشاب نداء الجهاد في تلك الليلة- ليلة فرحه ليلة عرسه التي لم يمض عليها إلا سويعات، فنهض ذلك الشاب اليافع مسرعًا ليلبي النداء -نداء الجهاد- لقد كان بوسع هذا الشاب -لو كان من غير طرازه- نعم لقد كان بوسعه لو كان من طراز شباب المذاهب أن يثور ضحكًا وعربدةً وهيامًا.. نعم لو كان الشاب المؤمن حنظلة من طراز هذا الشباب المائع المغرور، لاستطاع أن يجعل من يوم عرسه إجازة قصيرة، يعفي نفسه فيها من القتال لينعم بعروسه، لا سيما وإنها أول ليالي عرسه، ولكنه الوفاء بالعقيدة والإيمان الصادق هو الذي جعل ذلك الفتى اليافع وفيًا لله بما عاهده عليه، فظفر بإجازة أبدية يقضيها في حوصلة طير الجنة.. هذا مشهد من مشاهد أحد الكثيرة التي درستها القافلة، ودونت على صفحة عقلها تلك المحاضرات والندوات العسكرية.
لقد هبت الرياح على ديار القافلة -رياح السموم - رياح التآمر- فما كان على العصبة المؤمنة إلا أن تحفر الخندق، فقامت بهذه العملية الرجال والنساء والأطفال، حتى إذا ما جاء المشركون لم يجدوا مدخلًا يدخلون به إلى المدينة، وكان اليهود قد نقضوا عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد البلاء على المسلمين وتجهز النفاق واستأذن بعض الرجال الرسول -عليه الصلاة والسلام- في الذهاب إلى بيوتهم، وقالوا إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، إن يريدون إلا فرارًا.
إن ليالي الخندق كانت ليالي البلاء والمحنة -ليالي الرعب- حتى يميز الله الخبيث من الطيب، حتى لا توجد الشوائب في أفراد القافلة.
لقد أحاط البلاء بالمسلمين حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يرسل ثلث ثمار المدينة إلى قبيلة غطفان لتنسحب من المعركة، وكان عليه الصلاة والسلام طبيعيًا أن يذكر ذلك لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة سيدي الأوس والخزرج، فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به فلا بد لنا من فعله، أم شيء تحبه فنصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال: «بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، وهم لا يطيقون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعًا، فحين أكرمنا الله -تعالى- بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف.
وتداركت عناية الله جنوده المؤمنين.. وبدأت تلوح في الجو بوارق، والمسلمون يشددون حتى دب الرعب في قلوب الكفار في تلك الليلة المرعبة المخيفة، فولوا على أدبارهم خائبين.
جهزت القافلة أمتعتها لتواصل سيرها الجهادي، إلى أين؟؟ إلى مؤتة لتأديب الروم.
بعد أن بلغ المسلمون مؤتة، فوجئوا بكثرة الأعداء فأرادوا الرجوع إلى المدينة، فقال ابن رواحة: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ولا بكثرة سلاح ولا بكثرة خيول، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، انطلقوا.. فإنما هي إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما النصر، ثم مضى الناس واستعر القتال والطعن والضرب، حتى سقط زيد بن حارثة، وتبعه جعفر بن أبي طالب، فدعا الناس عبد الله بن رواحة وهو في جانب المعسكر، فتقدم مقاتل حينًا، ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعرق من لحم، وقال له شد بهذا ظهرك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهش منه نهشة ثم ســــمع الحطمة في الناس فقال لنفسه: وأنت في الدنيا! وألقى العرق من يده، ثم أخذ سيفه وأسرع، وقال مخاطبًا نفسه -فيما يذكر المؤرخون-: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟
إلى فلان وفلان -غلمان له- فهم أحرار وإلى معجف -وهو بستان له- فهو لله ولرسوله.. فاندفع إلى الأعداء، وحمي الوطيس فطعن عبد الله بن رواحة، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه، ثم صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين ذبوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يجوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات شهيدًا.
إن تلك الصفقة ما كانت صفقة يوم وليلة فقط، بل صفقة يتوارثها الأجيال بعد الأجيال، ولا تسقط من عنق أي مسلم مهما تكن الظروف والأحوال، إن العصبة المؤمنة حاشا أن تغدر بوعدها وأن تخون ربها، بل طبقت نص الصفقة حرفًا حرفًا بكل حذافيرها.
إن سرد الغزوات لم أقصد منه سردًا هكذا، ولكني أحسست بعظمة الصفقة وثقل الآية السالفة وهيبتها.. فعلى البائع نفسه لله أن يراجع الآية مراجعة دقيقة، ويراجع نفسه مرارًا وتكرارًا، حتى تصفو من الخبث ولا يوسوس فيها الشيطان.. ولا يكفي أن يقول: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة رضوان الله والجنة، إنما هي التجربة الواقعية والامتحان العملي.
المراجع
- في ظلال القرآن ج٤/ سيد قطب
- معالم في الطريق/ سيد قطب
- غزوة بدر/ محمد أحمد باشميل
4- على الطريق/ د. محمد أديب صالح.
5- غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل.
٦- زاد والمعاد جـ ٢/ ابن القيم.
7- عبد الله بن رواحه/ د. جميل سلطان.
۹- طريق الدعوة في ظلال القرآن/ سيد قطب.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل