; المجتمع التربوي (1373) | مجلة المجتمع

العنوان المجتمع التربوي (1373)

الكاتب د.عبدالحميد البلالي

تاريخ النشر الثلاثاء 26-أكتوبر-1999

مشاهدات 12

نشر في العدد 1373

نشر في الصفحة 58

الثلاثاء 26-أكتوبر-1999

وقفة تربوية 

من يؤرخ لهم ؟

ما زلنا نعاني حتى هذه اللحظة كتابًا، ووعاظًا، ودعاةً، وتربويين، وآباء وأمهات وخطباء، من عدم وجود مصادر للاستشهاد بالمواقف والأخلاق والبطولات سوى تلك المصادر التي مضى عليها قرون كثيرة من الزمن.

لا أعني قرن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعاً .. ولكن القرون التي تلت ذلك بكثير، فعندما نحتاج للاستشهاد في موقف من مواقف الصدق، فإننا نستشهد بموقف في القرن الخامس أو السادس الهجري، وكذا بقية الأمور.

ولهذا السبب فإن صدى المواعظ والخطب في الكثير من الحالات يكون ضعيفًا، لأن المستمع يقول في نفسه إن صاحب الموقف لم يعش ظروفي، ونوعية الفتن التي أتعرض لها، والبيئة المحيطة، ولا حتى نوعية الحكام الذين تعايشهم، ولو أن الواعظ استشهد بموقف العالم أو بطل أو زاهد عاصره السامعون، أو مضى عليه وقت قريب من وقتهم، قرن أو أقل، لكان أشد تأثيرًا، وأقرب إلى الواقع، لأن المستشهد به عاش ظروفهم، وبيئتهم.

 ويبدو والله أعلم أن هناك ثلاثة أسباب لهذه الظاهرة:

الأول: خلو عصرنا أو العصر القريب منا من القدوات والأبطال، والعلماء والزهاد والحكماء.. وغيرهم!.

الثاني: ضعف همم علمائنا وكتابنا ومؤرخينا لمتابعة وتاريخ مواقف وكلمات وحياة قدوات عصرنا.

الثالث: عدم إحساس علمائنا وكتابنا ومؤرخينا بأهمية هذا الأمر في تربية الأجيال ولهذا لزم علاجه.               

                               أبو خلاد

ذوقيات الدعوة والدعاة

على الإسلاميين تأصيل فنون التعامل الذوقي بما هو فوق الأخلاق.. بلطائف الروح.. وعطر السلوك.. وشفافية التعامل

    عبد الله حمود البوسعيدي[1]

إن من أسباب قبول الآخر للسلوك الدعوي، ومن معاني الاصطفاء والتمايز، والارتقاء بالخطاب الإسلامي، وكذلك من متطلبات تلطيف الأجواء الجافة بسبب شواغل الحياة المعاصرة وطاحونتها، ومن أمارات التغلب على إفرازات التركيبة السكانية المختلة المفضية في الغالب إلى ذوبان القليل في الكثرة الكاثرة، فتسلك سلوكها بتلقائية ساذجة.. أقول لكل هذا كان لزاماً على الإسلاميين باختلاف طرائقهم تأصيل فنون التعامل الذوقي الذي أعني به التعامل بما هو فوق الأخلاق بلطائف الروح، وعطر السلوك، وبشفافية التعامل الإسلامي الراقي الذي نقر بغيابه جزئيًا أو كليًا، في بعض العاملين للإسلام. 

ولعل أبرز الأسباب لهذه الظاهرة: تغييب التربية الإسلامية عن محاضن الجيل، وما الشباب الإسلامي إلا عينة من هذا الجيل.

ومنها غياب القدوات المختلفة بهذا السلوك بعمق مما يؤهلها للفت الأنظار إلى معاني الذوق، بدءًا من والد يتعاطى الدخان إلى أم ترمي القمامة في الطرقات إلى مدرس يتلفظ بسيئ العبارة إلى داعية لا ينتبه إلى مظهره وهندامه وأسلوبه مثلًا.

ومنها كذلك سلبية المؤسسات الفاعلة بعدم تبنيها لهذه المعاني أو بإسهامها في تعميق ما هو ضدها بتعمد أو بسذاجة مثل الإذاعة والتلفاز والصحف والأندية وغيرها من المؤسسات في المجتمع، مما يجعلها تعمق انعدام الذوق بواقعها هذا.

ومن الأسباب أيضًا الانصياع للطبائع الموروثة جبلة أو تأثرًا بالبيئة الجغرافية والجوية والغذائية والمهنية والوظيفية، إضافة إلى عدم التفات أعلام التربية الإسلامية المعاصرين المنظرين منهم والمربين إلى تضمين مناهجهم فنون التعامل الذوقي هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى ما نرى ونسمع.

التأصيل الشرعي

إن النصوص الشرعية أصلت هذا المعنى بطرق شتى منها: الأمر بحسن الخلق، وهذه درجة أولى، ثم نهت عن سوء الخلق، وهنا يترقى السلوك أكثر، ثم حذرت من الأذى بكل صوره فدعت إلى طرد أكل الثوم والبصل من صلاة الجماعة، لما في ذلك من تكدير خاطر المسلم، وحكمت بالنار لامرأة أذت هرة، ولأخرى تؤذي جيرانها، وهنا يرقى السلوك أكثر فأكثر، ثم دعت إلى إقرار الناس على أعرافهم ما لم تخالف النصوص، وهنا يترقى التعامل أكثر فأكثر، وأخيرًا أمرت بتميز المسلم فهو يخالف اليهود والنصارى وغيرهم لأنه شخصية مستقلة حتى في ذوقياته إلا ما كان مشتركًا إنسانيًا بين البشرية.

 وهكذا، إن غاب هذا التأصيل عن الجهات الرسمية فهو يتوقع، إلا أنه لا يقبل غيابه عن المحاضن الدعوية التربوية شعارًا وممارسة.

 والآن: ننطلق إلى الوقوف على بعض الجوانب الذوقية المتعلقة خصوصًا بالدعاة إلى الله عز وجل، ومنها:

1 – البشاشة والظرف: يظن البعض أن العبوس من علامات التقوى، ويستشهد فريق بإجابة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما سئل: لم لا تبتسم؟ فقال: كيف ابتسم والقدس في الأسر؟ فلا يبتسم اقتداء به.

فإن صح الخير فلا يعتد به، لأن القدوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ابتسم وحوله عباد أصنام على الكعبة عشرات منها، ولابن القيم - رحمه الله  توجيه رائع لهؤلاء يقول: «إن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ والله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب فليس الثقلاء بخواص الأولياء وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك، وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة والطاقة وظرفًا، فترى  الصادق فيها من أحلى الناس والطفهم، وقد زالت عنه ثقالة النفس، وكدورة الطبع» «الفوائد لابن القيم».

وهذا ما يسعى لتعميقه سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي قال: «يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك، فأما من تلقاه ببشر ويلقاك بضرس يمن عليك بعمله، فلا أكثر الله في الناس أمثال هؤلاء»  «كتاب الإخوان، لابن أبي الدنيا».

٢ – رائحة الفم : كيف تتوقع استيعاب الناس وتقبلهم لرجل يحدثهم ورائحة فمه منفرة؟

 لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أكل البصل والثوم عن الاختلاط بالناس، فقال: «من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا»، أو قال: «فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته». (البخاري۸۰۸)، فكيف برائحة غيرهما الكريهة؟

فإن صاحب الرائحة رذاذ وزيد كانت المصيبة أدهى وأمر يخفى أن البعض يتخفف من إسماع الناس صوت جشائه قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:  «وإذا تجشأ الرجل ينبغي أن يرفع وجهه إلى فوق لكيلا يخرج منه رائحة يؤذي بها الناس» «الآداب الشرعية لابن مفلح».

٣- ذم البذاءة : قال الماوردي: «أن يتجافي هجر القول ومستقبح الكلام، وليعدل إلى الكناية عما يستقبح صريحه، ويستهجن فصيحه ليبلغ الغرض ولسانه نزه وأدبه مصون» (أدب الدنيا والدين: ٢٧٤).

 وقال الماوردي: «لكل صنف من الناس أمثال تشاكلهم فلا تجد لساقط إلا مثلًا ساقطًا وتشبيهًا سقيمًا» (أدب الدنيا والدين: ٢٧٥).

وقال: «ومما يجري مجرى فحش القول في وجوب تجنبهما ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر وإن كان عقب التأمل سليمًا، وبعد الكشف مستقيمًا  (المرجع السابق:٢٧٤).

٤- المجاملة: توجيهات الكتاب والسنة تدعو إلى إحياء المجاملة المنضبطة، قال الماوردي: «البر هو المعروف ويتنوع نوعين قولًا وعملًا، فأما القول فهو طيب الكلام، وحسن البشر، والتودد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق ورقة الطبع، ويجب أن يكون محدودًا كالسخاء، فإن أسرف فيه كان ملقًا مذمومًا، وإن توسط واقتصد فيه كان معروفًا محمودًا» (ادب الدنيا:۲۰۰).

٥ – السؤال عن الحال: مرغوب فيه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كيف أصبحت يا رسول الله؟ قال: «بخیر» (ابن ماجه: ٣٧٠٠).

ولكن الإطالة في السؤال قد تؤدي إلى التدخل فيما لا يعني أو تضييع للوقت، قال رجل لسفيان الثوري: السلام عليكم يا أبا عبدالله

 من جوانب الذوق البشاشة الملبس الحسن.. الرائحة الطيبة.. السؤال عن الحال.. المجاملة المنضبطة.. إنزال الناس منازلهم. ومراعاة الأعراف والمناسبات.

ورحمة الله وبركاته، كيف أنت وكيف حالك؟ لاحظ أنه السؤال نفسه، فقال سفيان: «عافانا الله وإياك لسنا أهل تطويل» (حلية الأولياء ج 7، ص٦٧)

٦ – إنزال الناس منازلهم: هذا مبدأ عظيم جدًا، وقد بوب فيه العلماء أبوابًا، من ذلك ما قاله النووي كما في رياضه: «باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل» (باب: ٤٤)، ومن ذلك ما قاله أبو الحسن على الكرخي: «قال لي القاضي أبو يعلى يومًا وأنا أمشي معه إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه؟ قلت: لا أدري، قال: عن يمينه تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلي له الجانب الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر ويزيل أذى جعله في الجانب الأيسر».(من أدب الإسلام لأبي عدة، ٤٥)

وقال ابن عساكر: «أعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب» (التبيان:٣٩)

وقال النووي: «وينبغي أن يتأدب مع رفقة من هو حاضر بمجلس الشيخ، ويقعد بين يدي الشيخ قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين، ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا، ولا يضحك، ولا يكثر من الكلام من غير حاجة، ولا يعبث بيده أو بغيرها» «التبيان».

٧- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بأن يلتفت إلى مظهره أولًا، يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: «وبعض حديثي التدين يحسبون فوضى الملابس واتساخها ضربًا من العبادة والزهد، وهذا من الجهل الفاضح بالدين والافتراء على تعاليمه» (خلق المسلم: ١٥٣).

ويرتب رأسه فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا شعثًا قد تفرق شعره فقال: «أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره» (أبو داود: ٣٥٤٠)، ثم أن يتخير أفضل الأساليب، فقد عطس أحدهم ولم يقل الحمد لله، فقال له الداعية العاقل كيف أنت؟ فقال: الحمد لله، فقال: يرحمك الله فأدرك الرجل الرسالة دون تقريع من الناصح.

٨- مراعاة الأعراف: لكل قوم عادات وتقاليد ما لم تخالف النصوص، ومن الذوق أن يستوعبها المسلم ويراعيها إن كانت من عادات قومه أو عادات الأمم الأخرى، ومن ذلك مراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لعادات الروم، فعن أنس بن مالك قال: «لما أراد النبي أن يكتب إلى الروم قيل له إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختومًا فاتخذ خاتمًا من فضة، ونقشه محمد رسول الله» (البخاري: ٦٣)

قال الغزالي: «وأعلم أنا وإن قلنا الأكل على السفرة أولى، فلسنا نقول الأكل على المائدة منهي عنه، إذ لم يثبت فيه نهي» (الإحياء).

٩- تناسق الألوان : ترى بعض الداعيات يلبسن حجابًا أبيض، وخمارًا أحمر، وحذاء أصفر، وجلبابًا بنيًا، هذه الفوضى تمنع التركيز وتدعو إلى السخرية، فكيف بعد هذا الموقف منتظر من المدعوات أن يستمعن أما كان من الأولى الاهتمام بتناسق الألوان، ولابن حجر رحمه الله في الفتح كلام عن هذا عجيب.

۱۰ – مراعاة المناسبات: يحثنا الإسلام على مراعاة المناسبات، ومن ذلك ما ورد في التزين للصلوات الخمس وليوم الجمعة والعيدين، ولمن يغشى مجالس الناس، ولمن يزور العلماء والأمراء قال الشوكاني: «وليس الغالي من الثياب عند الأمن على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبر للتوصل إلى ذلك تمام المطالب الدينية من أمر بمعروف ونهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كما هو الغالب على عوام زماننا وبعض خواصه، لاشك في أنه من الموجبات للأجر، لكنه لابد من تقييد ذلك بما يحل لبسه شرعًا».

وبعد كانت هذه نماذج، وإلا فجوانب التربية الذوقية كثيرة أردت من وراء عرض بعضها لفت أنظار الدعاة إلى الانتباه إليه، وتضمينها في برامجهم بعد تشربهم لها حتى تصير لهم ملكة، وحسًا ومزاجًا، وشفافية، والله من وراء القصد .


[1] رئيس قسم الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الإمارات. 

الرابط المختصر :