; النهاية المأساوية والمزرية للتجربة العلمانية في العالم الإسلامي | مجلة المجتمع

العنوان النهاية المأساوية والمزرية للتجربة العلمانية في العالم الإسلامي

الكاتب د. محمد يحي

تاريخ النشر الثلاثاء 18-مايو-1999

مشاهدات 7

نشر في العدد 1350

نشر في الصفحة 27

الثلاثاء 18-مايو-1999

موضوع الغلاف 

ترسم صورتها الوحشية بيدها.. وحجاب «مروة» يجسدها

من هو الظلامي المتزمت أليسوا الذين حولوا كلام بشر فان إلى نصوص مقدسة تطبق الظلامي بحذافيرها حتى ولو خربت الدنيا؟!

الدعاية العلمانية سعت على امتداد السنوات الماضية لترسيخ صورة التخلف الإسلامي، وعدم القدرة على تقبل الجديد أو التكيف مع العصر!..... والآن....

 شعارات التحضر والعقلانية والاستنارة والتسامح تتبخر كلها أمام امرأة ينكرون عليها أبسط حقوق الحرية الشخصية لمجرد أنه يذكرهم بالإسلام

المشهد الذي شاهده العالم في مطلع شهر مايو الجاري في البرلمان التركي يرسم صورة النهاية المأساوية والمضحكة التي انتهت إليها التجربة العلمانية في العالم الإسلامي، ولا نغفل أنه تواكب مع احتفالات تقام في مصر بمناسبة مرور مائة عام -كما يقولون- على تحرير المرأة، الذي أعلنه قاسم أمين!

المنظر هو افتتاح البرلمان التركي الجديد وهو الافتتاح الذي ما كاد يبدأ حتى انتهى عندما شاع الذعر والفزع بين كبار الجنرالات الأشاوس، وكبار وعتاة الساسة والنواب من شتى المذاهب خاصة ذوي المشرب العلماني الواحد بسبب رؤيتهم النائبة المحجبة من حزب الفضيلة مروة قاوقجي تدخل الجلسة لتقسم اليمين، وهو ما لم تفعله لأن الجلسة تحولت إلى فوضى بهروب من استطاع فرارًا بدينه العلماني، ووسط الحوقلات والتعوذات الأتاتوركية هرب العسكريون فزعًا من حجاب السيدة الوحيدة، بينما صمد البعض الآخر يقبضون على جمرة النار التي خلفها لهم أبو الأتراك وتمكنوا من إنهاء الجلسة بنجاح وصمود بأن حالوا دون أن تقسم المرأة.

هذه الصورة تجسد وتخلد المصير النهائي للعلمانية في زوايا عدة أولها أنها تتناقض مع صورة أخرى معاكسة عملت الدعاية العلمانية الفجة على ترسيخها.. وتحويلها إلى رمز أيقوني على مدى عمر التجربة اللادينية وعمر تحرير المرأة، هذه الصورة ألفناها في آلاف المقالات والكتب والمسلسلات الإذاعية والتلفازية والأفلام والمسرحيات والنكات.. إلخ. إنها صورة المسلم أو المسلمين «الرجعيين المتزمتين» «هكذا اسمهم في الماضي والمتطرفين الظلاميين» «هكذا يوصفون في الحاضر»، وهم بسملون ويحوقلون ويتعوذون ويثورون، وتحمر وجوههم وتصفر ويستلون الخناجر أو المدافع الرشاشة، أو يغطون وجوههم كلما مرت بهم سيدة سافرة متبرجة»، هذه هي الصورة الأيقونية التي رسختها العلمانية لتضع أمام الجماهير المسلمة وللأبد مشكلات دينهم كما تراه العلمانية وكما تقول لهم إنها صورة موضوعية، إنها الصورة التي تجسد التخلف الإسلامي وعدم قدرة المسلمين على تقبل الجديد أو التكيف مع العصر، أو احترام إنسانية المرأة وانسداد سعة الأفق لديهم، وإفلاسهم من أي كياسة اجتماعية، أو مرونة فكرية، وتعصبهم وعدم تسامحهم، ولجوئهم للعنف ليخفوا فشلهم!! ولكنها هي العلمانية نفسها ترسم لنا صورتها وبيدها وبدون تدخل من أجهزة دعاية إسلامية أو متطرفة، صورة تفوق في البشاعة والإضحاك تلك التي رسمها العلمانيون للإسلام والمسلمين، ومازالوا يجسدونها منذ عشرات السنين.

وكانت تركيا اللادينية من أكبر المشاركين في رسمها على ساحة الممارسة السياسية، فالتحضر والعقلانية والاستنارة والتسامح، والديمقراطية وتحرير المرأة تنتهي كلها إلى صورة المرأة التي ينكرون عليها أبسط حقوق الحرية الشخصية المجرد أن هذا الحق يذكرهم بالإسلام.... ويرفضونها على رغم أنها تعبر عن إرادة الشعب الديمقراطية التي طالما تشدقوا بها، وعلى رغم أنها تعد نموذجًا للمرأة المتحررة التي طالما تحدثوا عنها كقدوة للنساء المسلمات وهي متعلمة وعاملة وخارجة للحياة العامة ومشتغلة بالشؤون السياسية على اتساعها وغير محصورة في الحريم، والمطبخ، تبخرت كل الشعارات العلمانية والتي قالوا إنها تحولت إلى واقع معيش في التجربة التركية الرائدة على امتداد ما يزيد على السبعين عامًا... هرب العسكر من الجلسة لأنهم لم يتحملوا رؤية الحجاب واحمرت واسودت وجوه من بقوا، وعادت الصورة العلمانية المرسومة بيد العلمانيين تتماثل بل تزيد كثيرًا في السخرية والجنون عن تلك الصورة الدعائية التي رسموها هم عن الإسلام. هذا هو أبلغ رمز عن التجربة العلمانية لا في تركيا وحدها، بل في العالم الإسلامي كله. شعارات عريضة، لكنها جوفاء، وتكذبها كلها الممارسة الفعلية، تهم كثيرة جزافية تلقى على الإسلام والتجارب والحركات الإسلامية، لكنها كلها وبلا استثناء تنطبق على العلمانيين وممارساتهم. من هو الأصولي المتطرف المتزمت الظلامي حقًا؟ ماذا عن عدم التسامح وضيق الأفق والاتباع الحرفي لظاهر النصوص ماذا عن الذين حولوا كلام بشر فان إلى نصوص مقدسة لا تمس وتطبق بحذافيرها حتى لو خربت الدنيا إن المسألة ليست مجرد هروب مضحك ومزر للجنرالات الأشاوس من أمام الحجاب فهؤلاء هربوا من كل شيء سوى اتباع أوامر الغرب، وهذا بالمناسبة رد بليغ آخر على دعاوى الاستقلال التي أذاعتها العلمانية عن نفسها، الجنرالات الذين هربوا من حجاب السيدة مروة ذهبوا أو ذهب أسلافهم - للحرب الشرسة في كوريا بأوامر من حلف الأطلنطي في أوائل الخمسينيات، وهم يحكمون شعبهم الكردي بالحديد والنار ويضربون شعبهم التركي بالانقلابات ضد الديمقراطية كل عشر سنوات، وبالانقلابات غير الرسمية ضد الإسلام والإسلاميين كل عام، ويتملصون من محنة كوسوفا، والوقوف إلى جانب اللاجئين، وإن كانوا مستعدين لضرب سوريا، وهربوا من تحديات اليونان وإن كانوا مستعدين لضرب بقية الجيران تجدهم فقط حاضرين لضرب الإسلام والديمقراطية، لكنك لا تجدهم يدافعون عن المصالح القومية لبلادهم وشعبهم، هذه هي المؤسسات التي خلفتها لنا العلمانية وهي مغرقة في رجعيتها، وأي رجعية وظلامية أشد من جيش ينتفض للدفاع عن تعاليم ميت ولا يهب للدفاع عن الوطن والشعب والمصالح السياسية والاقتصادية للبلاد؟

ولكن هذا هو أهون الضرر، فالمؤسسة السياسية والإعلامية والثقافية التي تزعم العلمانية أنها أصلحتها وجعلتها تلتزم بالديمقراطية والعقلانية والتسامح تنتفض في الجلسة الافتتاحية للبرلمان معقل الديمقراطية وتعددية الرأي والتسامح لتتنكر حقًا من أبسط حقوق الديمقراطية والتعددية والتسامح، بل إن هذه المؤسسة العلمانية تضرب المثل في التفاهة والصغار فتركز جهدها في إظهار التقوى والورع العلماني إزاء الحجاب، وهم الذين اتهموا المسلمين مرارًا وتكرارًا بأن اهتمامهم بقضية الزي الشرعي للمرأة المسلمة إنما يتمسكون بالظواهر والقشور والشكليات التافهة، فإذا كان الحجاب هو هذه التوافه، فلماذا ثاروا كل هذه الثورة العارمة ضده؟ هل انتهى الحال بالمؤسسة السياسية في تركيا التي تضم عتاة الساسة وجهابذة البرلمان -كما يصورون أنفسهم- بالا تجد ما تفعله سوى منازلة سيدة وحيدة؟ أم أن المسألة قصد بها في الحقيقة التعمية على فساد شاع في البلاد، وطال الكبار فيها ولم يجدوا ردًا عليه أو حيلة لمداراته سوى افتعال المواجهة بين الإيمان العلماني، والكفر الإسلامي؟! هذه الصورة الأيقونية للعلمانية تحل بجدارة محل الصورة الرمزية التي رسمتها العلمانية للإسلام مع فارق -كما قلنا- وهو أن الأولى حقيقية والثانية مزورة دعائية، وهي صورة لا تقتصر على تركيا وحدها، بل نكاد نلمح نظائر لها في معظم البلاد العربية والإسلامية، وليست بعيدة عنا صورة أخرى لذلك الوزير الذي بلغ من العمر عتيًا في بلد عربي كبير وصفوه بالاستنارة والعقلانية، وبأنه المصلح الأعظم لنظم التعليم، فإذا بالصحف تردد عنه في الفترات الأخيرة أنه يطارد التلميذات الصغيرات لينزع عنهن بالقوة غطاء الرأس بحجة أنه انتهاك لبراءتهن!! ولن تعدم صورًا مماثلة هنا وهناك تتشابه كلها في الهجمة على الحجاب من جانب أقحاح العلمانيين، ولكل هذه الصور المعنى نفسه الذي وجدناه في صيحات جلسة البرلمان التركي، إن العلمانية في محصلتها النهائية وبعد قرن أو أكثر من التجربة العملية في شتى ساحات الحياة لم تعد تعني أكثر من شيء واحد فقط هو خيانة الشعارات التي طرحوها في وجه الإسلام والعمل على النقيض منها تمامًا. وقد يبدو هذا أمرًا هيئًا أو لا يستحق الذكر لكثرة ما تعودنا من القوى العلمانية المختلفة من شتى المذاهب أن تخون شعاراتها، لكن القضية هنا ليست مجرد حزب سياسي يتخلى عن الشعارات التي أوصلته إلى الحكم، إنما نحن أمام تیار شامل له ممثلوه وتشعباته في كل مجالات الحياة وله سلطته الكاسحة طرح نفسه في وجه الإسلام وقواه كبديل عام ونهائي، ووجه إلى هذه القوى الإسلامية وللإسلام نفسه كل الاتهامات الممكنة ورماه بكل النواقص ورسخ هذه الدعايات في أذهان النخب الحاكمة وغير الحاكمة والجماهير، إلى حد أن تصور بعض المذهولين أن هذا التيار سيدخل الأمة إلى جنة الحضارة الحديثة بكل ثمارها ويخرجها من نار وعذاب الإسلام!! وصحيح أنه نجح في إخراج قطاعات من الأمة - كنموذج تركيا ودول وسط آسيا مثلًا. من قسم كبير من إسلامها، لكنها أبدًا لم تدخل في جنة الحياة العصرية، بل أدخلها جهنم العلمانية في سلوكها ونتائجها التي تتناقض تمامًا مع كل ما زعمته، بل وتجسدها كل الاتهامات والنواقص والعيوب التي رمت الإسلام بها. وعلى رغم فضائح الصور الأيقونية التركية وغيرها نظل نسمع ونقرأ لدعاة العلمانية الدعاية نفسها الفجة القديمة واجترار الشعارات الجوفاء ورمي التهم على الإسلام أي قوى تسند هؤلاء وتجعلهم على رغم انكشاف فضائحهم، يصرون على المنهج القديم الفاشل نفسه؟ إن هذا عيب آخر من عيوب العلمانية ودليل جديد على الإفلاس الفكري أنهم في كل الأحوال المتغيرة لا يجدون سوى تكرار الكلام القديم نفسه..

الرابط المختصر :