; تعويم الأنظمة ورفع الدعم عن رجالها | مجلة المجتمع

العنوان تعويم الأنظمة ورفع الدعم عن رجالها

الكاتب د. توفيق الواعي

تاريخ النشر الثلاثاء 14-مارس-2000

مشاهدات 93

نشر في العدد 1392

نشر في الصفحة 51

الثلاثاء 14-مارس-2000

من حق كل أمة أن تعرف ما تجهله عن زعمائها وقادتها وأولى الرأي فيها، وليس من حق أحد أن يعمي عليها شيئًا، أو يكتم عنها خبرًا، هذا إذا كان يعترف لها بالوجود، أو يراد أن يكون لها من الأمر شيء نعم من حقها أن تعرف سلطاتها وأولي الأمر منها، خاصة قبل اختيارهم وإبداء الرأي فيهم، تعرف ثقافتهم، إخلاصهم، دربتهم، أمانتهم، وطنيتهم، وانتماءهم، من حقها أن تطمئن على مستقبلها ومصائرها وأموالها ودمائها وأعراضها وحرماتها وكرامتها، هذا شيء بدهي ومنطقي وطبيعي أما أن يعمي على الأمة، ويدلس عليها، ويقمع كل صاحب عقل، ويضرب كل ناطق بنصيحة، أو مظهر لفكر، أو معلن برأي أو قائل بفكره وناظر ببصره، ويقطع كل لسان، ويكسر كل قلم، ويؤتي لها بأشخاص لا تعرفهم، ويفرض عليها أناس لا تدري من أمرهم شيئًا، ثم تلوي لها الأعناق، وتحني لهم الظهور، وتطأطا لهم الهامات، وتكمم لهم الأفواه، وتغمض لهم العيون ليفعلوا بالأمة ما يشاءون، ثم يظهر بعد ذلك أن جلهم كل أبله الفكر، راعن التصرف، أخرق الأفعال، جامح الشهوة، متورم الذات، مريض النفس، مختل العقل، أو يستبين بعد فترة أنه كان جاسوسًا لدولة معينة، أو عميلًا لمعسكر ما، أو مجندًا لحساب قوة متآمرة على الأمة، فهذا والله من أشد الغرائب، وأكبر الدواهي التي تصاب بها الأمم، وتبلى بها الشعوب المرشحة للتفسخ، والتحلل، والتيه.

إن الرسل التي كانت تأتي بالمعجزات والآيات البينات كان يستشهد على صدقها وصلاحها بماضيها الذي يعرفه الناس ويعايشونه وصدق الله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (سورة التوبة: 138) كانت الرسل تعرف بالأمانة والصدق والعفاف والهمة والنجدة والشجاعة، ورجاحة العقل والفهم، وقد استشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  بتلك المعاني على صدق دعوته، فقال لقومه: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بهذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا». هذا هو الرسول المؤيد بالمعجزات، وقد جاء بالبينات بين يديه، ولكن يظهر أن بعض السلطات الذي أيد بمعجزات الفقر والخراب والضياع، وجاء ببينات من الفساد والضلال والعمالة، قد وضع نفسه في مرتبة النبوة، وهذا من نكد طالع هذه الأمم.

كما أن من حق كل أمة أن تراجع خطوها، وتدرس أخطاءها ونجاحها، وتقرر على ضوئها، وترسم على نتائجها هياكل المستقبل، فليست دراسة الماضي وقوفًا على الاطلال وعويلًا في جنباتها، أو نكأ للجراح، ونبشًا للقبور، وإنما هي مقدمات تبنى عليها نتائج، وأسس يشاد عليها عمد، والأمم التي لا تقف عند أخطائها أو تقوم نتائجها، أو تستفيد من دروسها وعبرها، أمم ذاهلة يقضي عليها بجهلها وسذاجتها، فكم من أناس وصلوا للقمة بحق ثم تخطاهم الزمن؟ وكم من أناس وصلوا للقمة زورًا وبهتانًا فلما أعطيت للشعوب الحرية، رسبوا بجدارة، بل طاردتهم الشعوب ولاحقتهم؟ فمنهم أفلت بشق الأنفس، ومنهم من أودع السجون، أو قضى عليه، أو رحمه الموت، والعبر تتوالى في هذه الأيام فمثلًا في إيران تراجع وضع الرئيس السابق لإيران مدتين متتاليتين، وحصل في الانتخابات الأخيرة بالكاد على المقعد الأخير ليفلت وبصعوبة من السقوط المريع في العاصمة طهران.

ويعلق على ذلك الأستاذ فهمي هويدي الذي حضر الانتخابات فيقول: «ربما كانت هذه هي أول انتخابات حقيقية يخوضها الرئيس السابق، ويفتح فيها سجله كله، ويحاكم من خلال وسائل الإعلام، وقد اعتاد الرجل باعتباره من الرعيل الأول، أن يظل دائمًا في الصف الأول، وإلى ساعات قليلة قبل الانتخابات كان ظن أنصاره ومعاونيه أنه سيكون الأول في قائمة الفائزين، لكنهم صدموا حين أدركوا الحقيقة، واكتشفوا تدهور وضعه الانتخابي الذي دفع به إلى الترتيب الأخير، وكان لزامًا أن يعرف أنصار رفسنجاني أن السياسيين وغيرهم من الشخصيات العامة مثل العملات، لا تعرف قيمتها الحقيقية طالما أنها تتمتع بدعم أيًا كان مصدره، حتى إذا رفع الدعم، وتم تعويم العملة أو الشخص، ظهرت قيمته الحقيقية، والذي حدث مع رفسنجاني أنه دخل الانتخابات عائمًا، وبغير دعم، فظهر بحجمه وقيمته التي تختلف تمامًا عن تلك التي كانت مستقرة في الأذهان، الأمر الذي نتعلم منه الحذر، وعدم الاغترار بقيمة الأشخاص المدعومين؛ لأن تلك القيمة لا تكون صادقة إلا إذا نزعت الهالات والدعامات، وجرى تعويمهم، حينئذ سيكون لهم شأن آخر وسعر آخر.

والرسالة التي يجب أن تصل إلى الساسة والعاملين في الحقل السياسي -من درس رفسنجاني- أن زمن السياسي الذي يصلح لكل العصور قد ولى، إذ لم يعد مقنعًا لأحد ذلك السياسي الذي يصر على أن يصبح رجل الانفتاح والانغلاق والحرية والسلام والتنمية الاقتصاد والسياسة...إلخ.

ومن عاش في هذا الوهم الذي يبنيه على الرمال يكون قد خدع نفسه، ودل دلالة صادقة على أنه رجل كرسي، ومنصب يريد أن يحصل عليه بأي ثمن، ويطمع إلى التخليد لا إلى الإصلاح، ومن الأشرف لأي سياسي ناجح في أمة ناجحة أن يؤدي دوره في مرحلة ما، ثم يدع المجال لغيره كي يؤدي دورًا آخر، هذا في شأن رجل مثل رفسنجاني، وهناك آخرون لا يستطيعون إذا تخلي عنهم الدعم، أو نحيت عنهم الحراسات أن يمكثوا في بيوتهم أو يطلوا من نوافذهم على الناس، فضلًا عن مواجهة الجماهير والسير في الطرقات، فما بالك بترشيح أنفسهم أو الطموح في أن يكون أحدهم كاتبًا في الدولة، أو عاملًا في مصنع، ولهذا كان في إعطاء الأمم الحرية ضمانًا لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإظهارًا للمبدعين والعاملين، وتتويجًا لمن ضحوا في سبيل الأمة وسط الأنانية، وتقدموا وسط الجبن، وكشفوا عن الأمة الظلمة، وردوا لها اعتبارها، وقد بدأ ذلك في الظهور:

وإذا رأيت من الهلال نموه *** أيقنت أن سيصير بدرًا كاملًا

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سورة يوسف: 21)

الرابط المختصر :