العنوان توجيهات للدعاة.. كلمة الشيخ الغزالي إلى مؤتمر «رسالة المسجد»
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 21-أكتوبر-1975
مشاهدات 52
نشر في العدد 271
نشر في الصفحة 26
الثلاثاء 21-أكتوبر-1975
توجيهات للدعاة
كلمة الشيخ الغزالي إلى مؤتمر «رسالة المسجد»
المسجد قلب المجتمع الإسلامي، وملتقى المؤمنين بالغدو والآصال لأداء حقوق الله، واستلهام الرشد، واستمداد العون منه جل شأنه.
وهو مصدر طاقة عاطفية وفكرية بعيدة المدى خصوصا أيام الجمع عندما تنصت جماهير المصلين في سكينة وخشوعا «للأمام» وهو يشرح لهم تعاليم الإسلام ويبين لهم حدود الله، ويقينهم على ما في الكتاب والسنة من عظات وآداب.
إن خطبة الجمعة من شعائر الإسلام الكبرى، ومعانيها تنساب إلى النفوس في لحظات انعطاف إلى الله وتقبل لوصاياه.
ومن ثم كان موضوعها جليل الأثر كبير الخطر.
والإمام الذي يدرس موضوعه، ويجيد عرضه، يقوم بنسيب ضخم في تثقيف الأمة، وترشيد نهضتنا، ودعم كيانها المادي والأدبي، ووصل غدها المأمول بماضيها المجيد.
ولما كنا نريد الوصول بمستوى لخطابه في المسجد إلى مكانته اللائقة ونريد جعل المنبر مرآة لما حوى الإسلام من معرفة صالحة وتربية واعية، فقد أثبتت هذه التوجيهات الموحدة لما ينفي أن يتوفر في خطبة الجمعة من زاد روحي وثقافي منظم.
1- يحسن أن يكون لخطبة الجمعة موضوع واحد واضح غير متشعب الأطراف ولا متعدد القضايا، فان الخطيب الذي يخوض في احاديث كثيرة يشتت الأذهان وينتقل بالسامعين في أودية تتخللها فجوات نفسية وفكرية بعيدة، ومهما كانت عبارته بليغة، ومهما كان مستر سلا متدفق فإنه لن ينجح في تكوين صورة عقلية واضحة الملامح لتعاليم الإسلام.
والوضوح أساس لا بد منه في التربية، والتعميم والغموض لا ينتهيان بشيء طائل، وخطبة الجمعة ليست درسا نظريا بقدر ما هي حقيقة تشرح ونغرس.
2- عناصر الخطبة يجب أن يسلم أحدها إلى الآخر في تسلسل منطقي مقبول كما تسلم درجة السلم إلى ما بعدها دون عناء بحيث إذا انتهى الخطيب إلقاء كلمته كان السامعون قد وصلوا معه إلى النتيجة التي يريد بلوغها. وعليه أن ينتقي من النصوص والآثار ما يمهد طريقه إلى هذه الغاية.
3- ولما كانت الخطبة الدينية تنسج من المعاني الإسلامية المستمدة من «الكتاب والسنة» وآثار السلف الصالح فإن لحمتها وسداها يجب أن يكونا من الحقائق المقبولة، وفي آيات القرآن الكريم، ومعالم السنة المطهرة متسع يغنى في الوعظ والإرشاد. ولذلك لا تليق بنة أن تتضمن الخطبة الأخبار الواهي بله الموضوعة.
وإذا كان العلماء قد تجوزوا في الاستشهاد بالأحاديث الضعيفة فضائل الأعمال فقد اشترطوا لذلك: ألا تخالف قواعد الإسلام الكلية ولا
أصوله العامة. وفي الأحاديث الصحيحة والحسنة مجال رحب الخطيب الفاقة. وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والأئمة المتبوعين ما يعنى من الأساطير والأوهام.
4- لا يجوز أن تتعرض الخطبة للأمور الخلافية، ولا أن تكون تعصبا لوجهة نظر إسلامية محدودة.. فإن المسجد يجمع ولا يفرق، ويلم شمل الأمة بشعب الإيمان التي يلتقي عندها الكل دون خوض في المسائل التي يتفاوت تقديرها. وما أكثر العزائم والفضائل التي تصلح موضوعا لنصائح جيدة وخطب موفقة.
وقد شقي المسلمون بالفرقة أياما طويلة وجدير بهم أن يجدوا في المساجد ما يوحد الصفوف، ويطفئ الخصومات
5- بين الخطبة و الأحداث العابرة، والملابسات المحيطة، والجماهير السامعة، علاقة لا يمكن تجاهلها ومما يزري بالخطيب ويضيع موعظته أن يكون في واد، والناس والزمان والمكان في واد آخر.
ولأمر ما نزل القرآن منجما على ثلاث وعشرين سنة. فقد تجاوب مع الأحداث وأصاب مواقع التوجيه إصابة رائعة.
ولما كان القرآن شفاء للعلل الاجتماعية الشائعة فإن الخطيب يجب عليه أن يشخص الداء الذي يواجهه وأن يتعرف على حقيقته بدقة. فإذا عرفه واستبان أعراضه وأخطاره رجع إلى الكتاب والسنة فنقل الدواء إلى موضع المرض. وذلك يحتاج إلى بصير وحدق فإن الواعظ القاصر قد يجيء بدواء غير مناسب فلا يوفق في علاج. وربما أخطأ ابتداء في تحديد العلة فجاءت خطبته لغوا وإن كانت تتضمن مختلف النصوص الصحية.
6-هناك طائفة من الأحداث تسوق الأجزية الكبيرة على الأعمال الصغيرة وقد قرر العلماء المحققون أن هذه الأحاديث ليست على ما يفهم منها لأول وهلة.. وان ما فيها من أجزية ضخمة إنما هو لأهل الشرف في العبادة وأهل الصدق في الإقبال على الله.. وليس ذلك للأعمال الصغيرة التي اقترنت بها.
ومن هنا لا يجوز للخطيب أن يضمن خطبته هذه الأحاديث سردا مجردا فيحدث فوضى في ميدان التكاليف الشرعية ولكن إذا قضى ظرف يذكر هذه الأحاديث ذكرها مع شروحها الصحيحة.
7- تقوم التربية الدينية على بيان الجوانب الخلقية والاجتماعية في الإسلام وشرح ما يقترن بالخير والشر من معان حسنة أو سيئة، ومن عواقب حميدة أو ذميمة. ولا بأس من التعريج على الأجزية الأخروية وعرض ما أعده الله في الآخرة للأبرار والفجار بيد أن الأسباب والتفضيل في ذكر الأجزية المغيبة لا لزوم له ويكتفي بالإلماع إلى ما جاء في القرآن والسنة عن ذلك دون تطويل وتعمق.
8- من الخير أن تتضمن خطبة الجمعة أحيانا شيئا من أمجاد المسلمين الأولين الثقافية والسياسية وتنويها بالحضارة اليانعة التي أقامها الإسلام في العالم. الإشارة إلى أن مع بنابيع هذه الحضارة تفجرت من الحركة العقلية التي أحدثها القرآن واليقظة الإنسانية التي صنعها الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون الغرض من هذه الخطب -على اختلاف موضوعاتها- أن ترجع إلى المسلمين ثقتهم بأنفسهم ورسالتهم العالمية
9- معروف أن هناك فلسفات أجنبية ونزعات الحادية تسربت إلى الأمة الإسلامية في كسوتها التاريخية الماضية وطبيعي أن تتعرض الخطبة لذود هذه المفاسد النفسية عن أبناء الأمة، ووظيفة الخطبة في الإسلام عندئذ أن تتجنب الأخذ والرد والجدل السيئ.. ولكن تعرض الحقائق الإيجابية في الإسلام بقوة، وترد على الشبهات دون عناية بذكر مصدرها لأن المهم هو حماية التراث الروحي والعلمي.. وليس المهم تجريح الآخرين وإلحاق الهزائم بهم.
10- قبل أن يواجه الخطيب الجمهور ينبغي أن تكون في ذهن صورة بينة لما يريد أن يقوله. بل يجب أن يراجع نفسه قبل الكلام ليطمئن اطمئنانا كاملا إلى صحة القضايا التي سوف يعرضها، وإلى سلامة آثارها النفسية والاجتماعية.
وعليه أن يتثبت من الأدلة والشواهد التي يسوقها في معرض الحديث فإن كان قرآنا حفظه جيدا وإن كان سنة رواها بدقة، وإن كان أثرا أدبيا أو خبرا تاريخيا فإن توفيقه يكون بحسب مطابقته أو اقترابه من الأصل المنقول عنه.
إن التحضير المتقن دلالة احترام المرء لنفسه ولسامعيه وقد تفجأ الإنسان مواقف يرتجل فيها ما يلقى به الناس ويصور ما بنفسه.
والواقع أن القدرة على الارتجال تجيء بعد أوقات طويلة من الدربة على التحضير الجيد وعلي تكوين حصيلة علمية مواتية لكل موقف.
ومع ذلك فإن المهارة في الارتجال لا تغنى عن حسن التحضير للعالم الذي يريد أداء واجبه بأمانة وصدق والذي يقدر إنصات الناس له واحتفاءهم بما يقول.
11- الإيجاز أعون على تثبيت الحقائق، وجمع المشاعر والأفكار
حول ما يراد به من تعالیم.
فإن الكلام الكثير ينسى بعضه بعضا، وقد تضيع أهم أهدافه في زحام الإطناب والإفاضة. ألا ترى الأرض تحتاج إلى قد محدد من البذور كما تنبت، فإذا كثر النبات بها تخللها الفلاح باجتثاث الزائد حتى يعطى البقية فرصة النماء والإثمار.
كذلك النفس البشرية لا تزكون فيها المعاني إلا إذا أمكن تحديدها وتقويمها أما مع كثرة الكلام وبعثرة الحقائق فإن السامع يتحول إلى إناء مغلق تسيل من حوله الكلمات مهما بلغت نفاستها.
وللأطناب الممل أسباب معروفة منها سوء التحضير فإن الخطيب الذي يلقى الناس بالجزاف من الأحكام والتوجيهات لا يدري بالضبط أين بلغ بقوله وهل وصل إلى حد الإقناع أم لا فيحمله ذلك على التكرار والإطالة.. وما يزداد من الجمهور إلا بعدا.
وقد تنشأ الإطالة عن سوء التقدير للوقت والموقف فيظن الخطيب أن بحسبه أن يقول ما عنده وعلى الناس إن ينصتوا طوعا أو كرها- وهذا خطأ. ومما يحكى في قيمة الإيجاز أن أحد الرؤساء طلب منه إلقاء خطبة في بضع دقائق فقال:
«أمهلوني أسبوعا» فقيل له: نريدها في ربع ساعة فقال: «أستطيع بعد يومين» قيل له: ماذا طلبناها في ساعة؟ قال: «فأنا مستعد الآن»
إن الإيجاز يتطلب الموازنة والاختيار والمحو والإثبات. أما الكلام المرسل فالجهد العقلي فيه أقل. والحقيقة إن خمس دقائق تستوعب علما كثيرا وعشر دقائق وخمس عشرة دقيقة تستوعب خطبة أو محاضرة جيدة.
الرابط المختصر :
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل