; «جابر» القصة المثيرة في الزنزانة رقم «٢٤» | مجلة المجتمع

العنوان «جابر» القصة المثيرة في الزنزانة رقم «٢٤»

الكاتب عبدالحليم خفاجي

تاريخ النشر الثلاثاء 05-سبتمبر-1972

مشاهدات 17

نشر في العدد 116

نشر في الصفحة 22

الثلاثاء 05-سبتمبر-1972

●     المكان سجن القناطر الخيرية بجمهورية مصر العربية.
«عنبر ب دور «۷» زنزانة «٢٤»
●     الزمان صيف ١٩٦٤ م
جلس الحاج مصطفى كعادته بين مجموعة من النزلاء يستمع إلى شكاواهم ويخفف عنهم - بما يملكه في مثل هذه الظروف - بالكلمة الطيبة والقلب الكبير الذي يعينه على متابعة مشاكلهم فهذا قد فاته العفو بأيام وهذا وقفت إجراءات الأمن في طريق خروجه، وثالث تأخرت مسيرته إلى ما يثبت عدم قدرته على دفع الغرامة المحكوم بها عليه وهو تعبير مهذب على دفع الغرامة المحكوم بها عليه وهو تعبير مهذب لكلمة معسرة، ورابع لم يقبل نقضه إلى آخر هذه الحالات التي يموج بها مجتمع السجن. 
●     والحاج مصطفى يحتفظ في جيبه بورقة وقلم ليسجل ما يستعصي عليه ليواصل البحث عنها.
وبعد أن يتحسس هذه القلوب الحائرة ويطمئن عليها يأخذ كعادته أيضًا في تذكيرهم بما يجب عليهم نحو ربهم الذي وهبهم نعمة الحياة ونحو أسرهم ونحو جميع البشر ولا يتركهم إلا بعد أن يطمئن أنه قد ربط قلوبهم بحبال نور بالوجود بأسره وبجميع الكائنات الحية فيه.
ويومًا بعد يوم تتفتح القلوب من حوله فعدد الذين يقبلون على الصلاة يزداد وعدد الذين يتنابزون بالألقاب يقل وسمت جديد يعلو الوجوه وعيون تترقرق بدموع التوبة والإقلاع عن حياة الضياع والعزم على بدء حياة جديدة. 
والحاج مصطفى رجل واسع الأفق لا يغيب عنه أن كثيرًا من هؤلاء ضحايا الظروف التي تحيط بهم ولا يغيب عنه أيضًا أن هناك من لا عذر له إلا اتباع هواه ومسايرة نزعة الشر في نفسه، ولكنه يمسح على قلوب هؤلاء وهؤلاء لأنه يؤمن بأنه لابد من تسليح الأفراد بشيء ينبع من أنفسهم يعينهم على الظروف المحيطة بهم ويعينهم على أهوائهم. 
●     وجاء ذكر الثأر وتكلم جابر عبد البر أبو العلا من محافظة بنى سويف، طوحت به الظروف إلى سجن القناطر وعبر عن حيرته لاقتراب أيام الإفراج عنه في عفو نصف المدة القادمة وهناك خصومه ينتظرونه للأخذ بالثأر، وظل مسجونًا يستبشر بأيام الإفراج وقربها. إلا أن هناك بين الجدران من تعلوهم الكآبة والهم من اقتراب هذا اليوم وهم الذين ينتظرهم الثأر.
●     وجابر واحد منهم. 
لم يضيع الحاج مصطفى وقتًا ولم يطبق عليه علم النفس الإكلينيكي ولم يبحث عن الدوافع السيكولوجية وراء اللاشعور.
بل شرح له بأسلوبه البسيط العميق الصادق ما يجب عليه نحو خصومه بعد أن عرف أنه هو المعتدل وأنه لم يكن وراء جريمة القتل شيء يشفع له أمام الله.  
بين له الحاج مصطفى أن شريعة الله العادلة تجعل لأولياء الدم حقًا لا يضيع ولا بد أن تطيب نفوسهم بأخذ حقهم ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة 179)
أو تطيب نفوسهم بالعفو عنه ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ﴾ (البقرة 178). تفتح قلب هذا الصعيدي الطيب لنداء الحق وما كان لقلبه أن يتفتح وما كان لعقله أن يستجيب إلا للصوت الذي يخاطب الفطرة السليمة والتي علم ما يصلها فأنزل شريعته التي تحترم النفوس وتلبي حاجاتها ولا تضيع نصيبها من الحق باسم المجتمع.
قام جابر من هذه الجلسة وبحث عن قلم وورقة ووجد من كتب له كتابًا أرسله مباشرة إلى خصومه يخبرهم فيه بأن الذي دفعه إلى الكتابة ليس الخوف ولا الجبن وإنما هو الإسلام.
وأنه أدرك أنه كان يحيا حياة خاطئة وأن نفسه قد طابت بقبول ما فيه رضاؤهم سواء بدفع الدية أو حتى بالقصاص.  كل ما يرجوه أن يبدأ حياة جديدة لا يحركه فيها إلا الخوف من الله ورجاؤه فيه لينجو بآخرته وينعم في دنياه بحياة الأخوة والسلام
●     أحدث هذا الخطاب دويًا في البلدة الصعيدية «صفت رشين - مركز ببا بنى سويف» فقد كان مفاجأة للخصوم المتربصين للثأر والذين يعدون الأيام بالساعات والدقائق، وكان أيضًا مفاجأة لعائلة جابر التي كانت تنتظر خروجه مرفوع الرأس ليستقبلوه بطلقات الأعيرة حسب عادة أهل الصعيد شماتة بالأعداء وكيدًا، أما أن يكون هذا الخطاب منه لأعدائهم فهذا لم يكن يتوقعونه أبدًا 
أما الخصوم فقد تنازعتهم المشاعر لكن شعورهم بالرضا والارتياح كان هو الأغلب شعروا أنهم قد أخذوا حقهم كاملًا وانهم قد تمكنوا من جابر وشعروا أيضًا أنهم كانوا مثله في ضلال قديم وكانت على أعينهم غشاوة أزالها جابر بكلماته البسيطة الصادقة.
وتذوقوا طعم مشاعر جديدة لا عهد لهم بها. 
إن جابر الأمس البسيط قد حرك أجهزة الفطرة في نفوس هؤلاء الناس البسطاء الشرفاء مثلما حركها في جابر ذلك الرجل الطيب صبوح الوجه منير القلب الذي لا تغادر الابتسامة شفتيه ولا الرضا نفسه رغم أنه محكوم عليه بالمؤبد في قضية إسلامية ولم يقطع بعد نصف الطريق.
وكان من الطبيعي أن تستقر نفوس خصومه استقرارًا تامًا وسبيلهم إلى ذلك أن يذهبوا إلى زيارة جابر في السجن وفوجئ جابر بالسجان ينادي عليه لحضور الزيارة وفي الزيارة فوجئ بخصمه وجهًا لوجه لقد جاءه من بني سويف البعيدة يحركه اتجاه للخير يملأ قلبه ويشغله.  لم يتكلم جابر ولكنه تلقى كلمات اطمئنان تنساب من فم خصمه باردة حلوة وأصغى إليه بارتياح وهو يقول:
- يا جابر لقد سعدنا بخطابك «عمت الفرحة قلوبنا» لقد مسح هذا الخطاب على النفوس المكلومة وأزال ثقل الحزن وعلى الثأر ولهذا جئت جئتك من بعيد لأقول لك أن الطلقة التي كانت ستوجه إلى صدرك ستشارك في الاحتفال باستقبالك، وأننا أغلقنا القبر الذي كان سيحتويك وفتحنا لك بيوتنا وقلوبنا يا جابر إن خصومك من الآن أهلك ولا دية بيننا ولا دماء.
●     يقول جابر لقد اهتزت صورهم خلف ستارة دموعي التي امتلأت بها عيناي وتجمدت الكلمات على شفتي المرتعشتين وانطوى لساني تحت ثقل مشاعري ودوت الصفارة واختفى عن ناظري «جودة» ذلك الخصم الكريم وقادتني قدماي إلى الحاج مصطفى أسكب عنده دموعي وأهرب إلى ظله. 
لم يندهش الحاج مصطفى عندما قص عليه جابر ما تم في الزيارة كأنه كان يرى بقلبه الحوادث قبل أن تقع.
لكن المفاجأة جاءت من قبل عائلة جابر حيث شعروا أن تصرفه هذا يعني انتقاصًا من كرامتهم وهم أشد قوة وأكثر عددًا ولا يرهبهم شيء، وأرسلوا إليه خطابًا لاذعًا ليعدل عما قاله لخصومهم ويستمر على منابذتهم العداء.
ولكن «جابر» تلطف معهم بخطاب رقيق شرح فيه دوافع هذا التصرف وأنه قام بذلك استجابة لأوامر دينه ورجاهم أن يكونوا عونًا له على الخير وأن آخر شيء كان يفكر فيه هو وقوفهم منه هذا الموقف المجافي للحق والعدل.
لكن اهله لم يقتنعوا والحاج مصطفى يفسر ذلك بأن جابر أسرع بإرسال الخطاب إلى خصومه قبل أن يخبر أهله ويجعل لهم معه نصيبًا في الأمر.
«ولو كان ذلك لتم الأمر كما قدرت له على خير ما يكون»
●     بعد أيام فوجئ جابر بزيارة عمه له ومعه ابنته زوجة جابر ولم يخرج كلام عمه وحماه عن التهديد والإصرار على الرجوع عما جاء في خطابه وحاول جابر أن يشرح الموقف ولكن وقت الزيارة الضيق لم يمهله ودوت صفارة السجان معلنة انتهاء مدة الزيارة ولم يجد جابر الفرصة للرد على تهديدات عمه بأنه سيطلق زوجته وسيشرد أولاده لقد اهتز قلبه أمام دموع زوجته ولكنه استعان بالله ولم يستسلم للضعف البشري.
●     لم ييأس جابر ووجد من إيمان الحاج مصطفى سندًا يقويه وأشفع الزيارة بخطاب لعمه يحاول إيقاظ قلبه ليتجاوب معه على الخير وجاءه الرد الحاسم بقطع كل مليم يرسل إليه ولأول مرة يخلو دفتر الأمانات من اسم جابر واستراح أهله لهذا التصرف لعل في سلاح المقاطعة الاقتصادية ما يفيد ويثني عزيمته. 
●     ولكن قلوب الخصوم تحركت في الضوء متجاوبة مع حركة قلب جابر المؤمن مصداقًا لقوله تعالى ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ﴾ (الأنعام 122)   لم يجدوا في أنفسهم حرجًا من أن يقوموا هم بدور الأهل فأرسلوا إلى جابر مبلغ خمس جنيهات على أماناته بالسجن ووعدوه أن يزوجوه من ابنتهم إذا وصل الأمر إلى طلاق زوجته وإن كانوا لا يرجون له إلا كل وفاق مع أهله.
وأصبح الحاج مصطفى أمام إشكال جدید أمام موقف الخصوم الكريم وموقف أهل جابر العنيد. 
●     وطرح الأمر على قراء مجلة السجون للإسهام في البحث عن حل والحاج مصطفى برغم حيرته لا يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه وكان يردد لو أن جابرًا أخبر أهله أولًا لكان كل شيء قد انتهى ولكنه تعجل ولم يستشرني وعلى كل حال فإن في ذهني حلًا للموقف. 
وكنت أحب أن أعرف خاتمة هذه القصة التي عشت فيها يومًا بيوم غير أن الإفراج قد شملني قبل أن أعرف لها خاتمة وظللت وأنا خارج الجدران معلق القلب مشدود الخاطر بهذا الأمر. 
وكان عزائي في ثقتي في صاحب القلب الطاهر الصادق الذي لا يعرف اليأس في وجه الدنيا فكيف يعرفه أمام مشكلة فرد فيها، وخاصة إذا كان هذا الفرد من نوع جابر
●      تذکیر
إن طعننا في المقالين السابقين بعدم أهلية المشرع المحترف في تجريم الأفعال وعلى رأسها ما يحكم فيها بالإعدام وبعدم أهلية القاضي المحترف للحكم به لأنهما يقومان بدور كبير بوعي أو بغير وعي في أنظمة اجتماعية غريبة على إسلامنا أدخلها علينا الاستعمار القديم والجديد.
طعننا على هؤلاء مبعثه الغيرة على التشريعات الإسلامية من أن تشوه على أيديهم لبعدهم عن جوهرها وطبيعة بيئتها كما قد يولد في النفوس يأسًا من صلاحية الإسلام أن نجحوا في إسباغ صفة الإسلام على تصرفاتهم.
هذه الغيرة على التشريعات من عجز هؤلاء العلماء ومن انهزاميتهم لا تدعونا إلى التوقف عن الدعوة إلى تطبيق الإسلام على المستوى الفردي والجماعي ومن عجيب أمر هذه التشريعات الربانية أنها تؤتي ثمارها بين الأفراد برغم انصراف السلطة عنها أو حتى محاربتها لها، وفي هذه القصة الواقعية أكبر دليل على عظمة هذا الدين الذي لن ينهزم أبدًا وأنه حتمًا سينتصر لأنه دين الفطرة.
عبد الحليم خفاجي
قيمة الالتزام الفردي بالإسلام
كان قاتلًا فظهرته التوبة
طالب بالقصاص من نفسه!
قَبِله خصومه وقاطعه أهله!
 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

42

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

32

الثلاثاء 19-مايو-1970