العنوان رجب شهر الله
الكاتب مجلة المجتمع
تاريخ النشر الثلاثاء 05-أكتوبر-1999
مشاهدات 13
نشر في العدد 1370
نشر في الصفحة 59
الثلاثاء 05-أكتوبر-1999
سمى القرآن النسيء زيادة في الكفر، وما ذلك إلا بسبب الفوضى الزمنية التي تشوش النظام التاريخي لحياة البشر فوق الأرض وهو النظام ذاته الذي تسير وفقه أفلاك وأجرام بقدر مقدر وناموس مضبوط، فألغى النسيء ضمن رسالته في إلغاء كل طاغوت يند عن السنة الكونية وأرسى دعائم التاريخ الموقوت الذي هو أساس التحضر العمراني﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾ (التوبة: ٣٦)، معتبرًا أن طغيان الزمن بعضه على بعض هو تمامًا كطغيان الأصلاب واختلاط الأنساب بما يجعل عين الإنسان قريرة تكره أن تعود إلى فوضى الزمن أو اضطراب العلاقة الجنسية كما تكره أن تلقى في النار. وتجري سنة الله في التفاضل والتمييز بين مخلوقاته - تحت سقف العدل الإلهي المطلق-على التقويم الزمني فخص سبحانه أربعًا من الأشهر بالحرمة ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ﴾ (التوبة: ٣٦) كما بارك أماكن على أماكن أخرى.﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُۚ﴾ (الإسراء: ۱).وفضلًا عن تساوق هذا مع سنته الماضية فإن حكمة ما فتئت تنقدح في ذهن الناظرين في سنة الاختلاف هذه مؤداها أن هذا النحو من النظام ذي الأديم المتضارس يغري بالانخراط فيه من ناحية بحكم أن مواسمه معدودة، ولكنها متكررة كما أنه لا ينبذ من ناحية أخرى من نأى عنه بل يؤويه لو أب وهو إحدى معاني ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (النور: ٤٤) ولاشك في أن تبوأ مرتبة الحرمة لمن تبوأها من الأشهر والأمكنة كانت السبب وعلة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وما ذلك إلا تناغمًا مع سنة التعليل التي زين الله بها شريعته وبني على أساسها العقل الذي أناط به التكليف في دين لا مجال فيه للعبثية، فرجب الذي هو شهر الله كما قال ﷺ احتضن إحدى أكبر أحداث السيرة العطرة وهي حادثة الإسراء والمعراج التي خصها الله بسورة في كتابه، ولا يزال أولو الألباب فينا يكرعون من أسرارها الغزيرة دون أن يحيطوا بما هي له أهل، ويكفيها شامة بين أقرانها أنها احتضنت فرض الصلاة هذا المعراج الشبل الذي يمتشقه المسلم كل يوم مرات بل يكفيها عفرا لجبينها أنها ربطت السماء بالأرض عبر مكة التي الت إليها قبلة الناس بعد ظلم يهود وعبر القدس التي كانت مهدًا لكلمة السماء فكأن درب الكدح إلى السماء ليس له من طريق سوى مكة وبيت المقدس، فمن توسل إليها بغير ذلك فلن يلج حتي يلج الجمل في سم الخياط أما ذو القعدة وذو الحجة فهما من أشهر الحج الذي هو ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ﴾ (البقرة: ۱۹۷)، في ذي القعدة يتهيأ الحاج بزاد قلبه وزاد يده، وفي ذي الحجة يباشر مع إخوانه إعلاء شعائر الله في جوار تردد جنبات الكون الفسيح صداه، وفي حركة وصل مع شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام وفي مظهر من المساواة والخلوص والوحدة بين الأمة لا تضاهيها الاجتماعات الصاخبة للزعماء قبل موتهم ولا الدموع المشيعة بعد رحيلهم، أما أول الشهور محرم فقد حباه الله بأعظم التطورات في حياة النبوة الخاتمة الهجرة التي نقلت الإسلام من قوة الكلمة إلى قوة الكلمة والدولة معًا، والتي أعزت الدين في بدر وأحد والأحزاب والحديبية، ويبقى باب الهجرة مفتوحًا على مصراعيه لمن يكابد شوق اللحاق برعيلها الأول المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.. تقويم تاريخي مقدر ومضبوط يتأبى عن التلاعب به يدشنه الإنسان في محرم الحرام مهاجرًا إلى ربه كادحًا مكابدًا ضد كل طاغوت نهى الله عنه سواء اختلج في يم النفس أو سما في السماء كالدخان، وهو وضيع متزودًا من صفر الخير والربيعين والجماديين مسريًا وعارجًا بروحه في رجب مقتفيًا أثر نبيه في شعبان شهره ومحققًا الانتصار على نفسه ملجمًا إياها عن شهواتها في رمضان مؤهلًا لها لخوض غمار الجهاد بالمال والنفس والفكر ضد عاديات صهيون وأزلامها من العلمانية الكاذبة والاستبداد الأخطل، ووالجًا أشهر الحج الثلاثة الأخيرة، فكان الإنسان يخرج من بيته مهاجرًا إلى ربه في أول كل عام قمري، فما إن تستدير السنة مستعيدة هيأتها الأولى حتى يؤوب إلى بيت ريه ملبيًا تائبًا مما الم به من ذنب، أليس هذا هو الفلاح بعينه؟ بلى والذي قدر فهدي.
الهادي بريك ألمانيا
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل