; صفحات من دفتر الذكريات (66) زفة إعلامية ومؤامرة فرنسية 1962م | مجلة المجتمع

العنوان صفحات من دفتر الذكريات (66) زفة إعلامية ومؤامرة فرنسية 1962م

الكاتب الدكتور توفيق الشاوي

تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1995

مشاهدات 30

نشر في العدد 1168

نشر في الصفحة 52

الثلاثاء 26-سبتمبر-1995

لقد استفادت زعامة بن بيلا إلى حد كبير من التيار الإعلامي الذي كان الاتجاه الناصري والاشتراكي يسيطر عليه في مصر والعالم العربي بصفة عامة، وكان وراءه الحكومات الثلاثة: الناصرية، والفرنسية، والمغربية، وإن كان لكل من هذه الجهات أهدافه الخاصة التي لا يشترك معه غيره فيها.

فيما يخص المغرب فقد بينت أن هذا الاتجاه بدأ منذ دعوة الملك محمد الخامس لهم لزيارة المغرب في عام ١٩٥٦م، تلك الزيارة التي لم تتم بسبب القرصنة الفرنسية التي أدت إلى اعتقال الزعماء الخمسة، وهذا الاعتقال هو الذي مكن فرنسا من أن تشارك في هذا الاتجاه المؤيد لبن بيلا، بعد أن زاد أملهم في «ترويضه» بفضل ما أظهره من مرونة وقدرة على إعطاء الوعود والتطمينات للجانب الفرنسي ولغيره -بما فيهم الحكومة العسكرية الناصرية- ويظهر أن فرنسا هي التي استدرجت المغرب للرهان على هذا الجناح، رغم ما يعلنه من انحياز للاشتراكية والناصرية، وكلاهما ليس ممن يثق فيهم النظام الملكي المغربي.

هذا هو ما خطر لي عندما كنت أتأمل الزفة التي أحاطت وصول بن بيلا، وكان معه زملاؤه في سيارة مكشوفة تسير وسط الجماهير في شوارع الرباط قادمة من المطار، وقد استجابت الجماهير لنداء الإعلام العربي والمغربي الذي لم يترك هذه الفرصة تمر دون التركيز على دور المغرب في تأييد الجهاد الجزائري وجبهة التحرير طوال فترة الثورة الجزائرية.

إنني شخصيًا عرفت أهمية الدور الذي قامت به المملكة المغربية في إيواء المجاهدين الجزائريين، وتسهيل إقامة قواعد عسكرية لجيش التحرير الذي كان رجاله يجتازون الحدود من المغرب إلى الجزائر في جنح الليل وهم آمنون من جانب الجيش والشرطة المغربية، وقد كانت فرنسا في البداية تعترض وتحتج وتهدد، لكن الملك محمد الخامس كان رجلًا مسلمًا وطنيًا في أعماق نفسه، وثباته وصموده هو الذي اضطر بورقيبة إلى أن يحذو حذوه، وكلاهما كانت حجته أن منع «التسلل» هو واجبكم، وليس من شأننا أن نحرس لكم الحدود، ويكفي أنني كنت أقارن بين هذا الموقف البطولي وبين مواقف كثير من الدول العربية المجاورة لفلسطين التي جعلت من أول أهدافها حراسة «إسرائيل» ومنع الفدائيين الفلسطينيين من أن يكون لهم قواعد في أي بلد مجاور، بل تجاوز ذلك إلى التعهد بمقاومة التيار الإسلامي في داخل بلادهم لمجرد أنه يؤيد الكفاح المسلح الذي يواصله الإسلاميون في فلسطين كما سنرى فيما بعد.

المراهنة على ورقة بن بيلا

في المرحلة الأخيرة بعد أن قررت الحكومة الفرنسية الاعتراف بالاستقلال في معاهدة «إفيان» وراهنت على ورقة بن بيلا ومن معه، ومنهم بومدين الذي كان قائد القوات الجزائرية في الخارج- في تونس والمغرب- أصبح من مصلحتها تقوية هذا الجيش لتضمن نجاحهم في السيطرة على الجزائر رغم معارضة بعض الولايات في الداخل التي كانت تدين بالولاء للحكومة المؤقتة في المنفى.

قبل ذلك بفترة أوعزت المخابرات الفرنسية إلى الضباط الجزائريين في الجيش الفرنسي الذين تثق بهم ودفعتهم لكي ينضموا إلى صفوف الثوار في الجزائر بحجة أنهم تخلوا عن ولائهم لفرنسا، وانحازوا لجبهة التحرير، وقد مكنهم ذلك من اختراق صفوف جيش التحرير والجيش الوطني الشعبي الذي أنشأه بومدين، وحصلوا على مراكز مهمة بسبب ما لديهم من خبرة وتدريب جعلت الرؤساء يثقون فيهم ويسلموهم أكثر المراكز القيادية في الجيش، وبذلك استطاعوا أن يقوموا بالانقلاب ضد جبهة الإنقاذ الإسلامية التي اكتسحت الانتخابات البرلمانية والإقليمية عام ۱۹۹۱م. وكانت على وشك الوصول إلى السلطة بالطريق الديمقراطي، ولذلك فإن الجزائريين يصفون هذه «الطغمة العسكرية» بأنهم «حزب فرنسا».

ولم تكتفِ الحكومة الفرنسية بإطلاق العنان لجماعة بن بيلا وأنصاره في تنظيم قواهم بالخارج وتسليحها، بل ساهمت إلى حد كبير بطريق مباشر أو غير مباشر في الدعاية لزعامة بن بيلا أثناء اعتقاله وبعده، حتى أصبح الرأي العام العربي والاشتراكي والأوروبي في صفه، ولكي أعطي للقارئ صورة لدور الإعلام في هذا الموضوع أكتفي بتقديم القصيدة المطولة التي نشرها شاعر الثورة الجزائري المشهور مفدى زكريا:

ثقة الشعب ذمة.. فارقبوها

صدق الوعد فأطفحي يا بشائر

                  ودنا السعد فأمرحي يا جزائر

ومضى الزحف يجرف السد لما

                      أن طغى المد من دماء المجازر

واستوى الفلك يوم أن قيل بعدًا

                     وانطوى الشك عن ضمير الدياجر

واجتلى الرب يوم كلمه الشعب

                                وناجاه في الذرى كل ثائر

وصدقنا الفدا فرعنا المنايا

                    وسبقنا المدى فسقنا المقادر 

وأردنا البقاء فدنا الدهر

                  فانقاد راغم الأنف صاغر

وسخرنا من مزعجات الليالي

              وهزأنا من كبرياء المخاطر

وأتى أمرنا فأطرقت الدنيا

             خشوعًا وأذعنت للأوامر

ووضعنا شريعة فاحتكمنا

             بتعاليم شرعنا في المصائر

يا سماء أقلعي ويا أرض غيضي

              واسمُ يا عقلُ واخلصي يا ضمائر

أينع الغرس من رماد الضحايا

                ونما الزهر من رفات المقابر

ونفوس المخرجين تصاعدن

              بخورًا من عابقات المجامر

حولوا هذه المشانق عيدانا

             وألواحها النضاب مزاهر

وافتلوا من حبالها الحمر أوتارًا

            بها تعزفون لحن البشائر

وصرير الأغلال في السجن أوزانًا

             وإقفالها الغلاظ مزامر

وأنين المعذبين تسابيح

             بها تلهبون أسمى المشاعر

والحنايا من الضلوع محاريب

                       وأكبادها الحرار منابر

أنا من فيض وحيها نبع إلهامي

            ولولا العذاب ما كنت شاعر

أنا من همت بالجمال قديمًا

                          وتغنيت بالعيون الفواتر

وعشقت الأصيل والنهر والواحة

                                والرمل وألمها والجآذر

والصباح الطروب والورد والشاطئ

                          والليل والنجوم والزواهر

وطني أنت بدعة صنعتها

                           من طلاسيم فنها يد ساحر

وطني أنت بسمة الرب في الأرض

                         ومرآة حسنه المتواتر

وعلى الأطلس المريد يداه

                        تقدحان الزناد في كف ثائر

وبساح الفداء صرخته الكبرى

                       تدوي فتستفز القساور

وإذا كان من جمالك فيها

             تبت لله من جميع الكبائر

لك أخصلت قانتا صلواتي

             وتعلقت خاشعًا بالستائر

وبأنفاسك الزكية تسمو

              كلماتي وأستمد الخواطر

وبأرض الكرام في يوم عُرس

             قمت والشعب بالهتافات هادر

وجموع البلاد تزحف كالسيل

                   اندفاعًا وكالحيا المتقاطر

والبنود المرنُحات نشأوي

                راقصات محمومة تتخاطر

وشياطين للصحافة حيرى

               في المطارات بين ساه وساهر

وعيون المصورين سهاري

              تعصر الوهم من خلال المناظر

إن تنفست أو تبسمت طارت

              نشرات عبر الدنا تتناثر

والأعازيف مرحبًا بابن بلا

             في الحنايا تهتز منها المناشر

حدث رائع وأمر جليل

             طيروه لا تحفلوا بالمصادر

واقبسوه من كل ومضة برق

            واخطفوه من كل خفقة طائر

نباأ في السماء تجهله الأرض

               سلوا عنه حائمات الكواسر

ألفت رؤية الصواريخ في الجو

               فحامت على الشجاع المغامر

أيها النازلون بعد طواف

                      تؤوي مكلل بالمفاخر

اعبروا هذه القلوب دروبًا

              واجعلوا هذه العيون معابر

من رباط صعدتم لتعودوا

                 بعد ست كما يعود المسافر

كالوليد السعيد كالفرحة الكبرى

                              كما عاد للديار مهاجر

كنزول المسيح كالوحي كالإيمان

                         كالوعد كالحظوظ البواكر

والأماني العذاب ملء الحنايا

              والتهاني الطراب ملء الحناجر

وصفي بن يوسف: الحسن الثاني.

                            بعز المعاد جذلان ظافر

هل رأيتم في الصاعدين أباه؟

                         ووقفتم عليه وقف زائر؟

فحملتم رسالة الأب للابن

                         كما يحمل الرسول البشائر

ونثرتم قميص يوسف في الحفل

                     على الشعب فاستنارت بصائر

أيها العائدون عودة نصر

                         يوم دارت على العدو الدوائر

وبناة الخلود في قصر «أنوا»

                   فوق أنقاض ماردات القياصر

أنتم مطمح الجزائر في الجلي

                       وإشعاع روحها في الدياجر

والألي أضرموا شرارتها الأولى

                        وأذكوا لهيبها المتطاير

وصمام الأمان في وحدة الشعب

                             إذا رام كيدها متآمر

 ورجاء الغد السعيد إذا ما عاث.


 

[*] أستاذ القانون الدولي السابق بجامعة القاهرة

الرابط المختصر :