العنوان عالم الكويت وعلمها الشيخ عبد الله بن خلف بن دحيان
الكاتب الشيخ عبد الله النوري
تاريخ النشر الثلاثاء 07-يوليو-1970
مشاهدات 17
نشر في العدد 17
نشر في الصفحة 14

الثلاثاء 07-يوليو-1970
عرف الناس فيه رجلًا تقيًا،
عالم الكويت وعلمها الشيخ عبد الله بن خلف بن دحيان
حق علينا أن نكرم علماءنا، ونحترمهم في حياتهم، ونثني ونترحم عليهم بعد وفاتهم. نكرمهم في حياتهم إجلالًا لهم، وتقديرًا لعلمهم. وطلبًا لنصيحتهم، واهتداءً بإرشاداتهم ونثني عليهم بعد وفاتهم بذكر مآثرهم، واقتفاء آثارهم.
وعالمنا الذي نذكره الآن ونكتب عنه هو العلم الشامخ، والورع التقي، الذي وهب حياته للعلم، فغاص في بحاره حتى بلغ الأعماق، ثم وهب من علمه الكثير لكل سائل، أو طالب أو مستمع.
ذلك هو المرحوم «الشيخ عبد الله بن خلف بن دحيان» ولد رحمه الله في الكويت في الثامن والعشرين من شهر شوال سنة ۱۲۹۲ هـ الموافق 22 /9/1875م، ونشأ فيها طفلًا، فيافعا، ثم شابًا، ثم شيخًا، حتى انتقل إلى جوار ربه، قبيل فجر يوم الإثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 1349هـ الموافق ١٥-2 –1931م. عن عمر أعوامه ستة وخمسون، قضاها في خدمة العلم، وإرشاد الناس. قرأ القرآن وتعلم مبادئ الخط في مكتب أبيه، ملا خلف بن دحيان، وكان لأبيه ملا خلف مكتب يعلم فيه الصبيان القراءة والخط. في بيته في الطريق المعروف بسكة عنزة، حتى إذا بلغ الثانية عشرة من عمره، بدأ يطلب العلم على أجل علماء الكويت يومئذ، «المرحوم الشيخ محمد الفارس» ويحضر مستمعًا مجلس المرحوم السيد مساعد بن السيد أحمد السيد عبد الجليل.
رحلة إلى الزبير
ولما بلغ الثامنة عشرة، سافر إلى الزبير ليدرس على رجال من علمائها «وكانت بلد فقه ودين» فحضر حلقات الشيخ صالح المبيض - والشيخ عبد الله بن حمود - والشيخ محمد العوجان.
وهؤلاء الثلاثة هم من خيرة علماء الزبير يومئذ. فالشيخ صالح والشيخ عبد الله -كانا من أجل علماء الحنابلة، يحفظان كثيرًا من المتون في فقه الإمام أحمد ولهما فتاوى واستنتاجات يعتمد عليها.
أما الشيخ محمد بن عوجان فكان من أئمة الفرائض في زمنه.
وبعد سنتين من مقامه في الزبير، أكب فيهما على الدراسة ليل نهار. رجع إلى بلده الكويت وكان ذلك سنة ١٣١٢هـ واستمر يقرأ ويطالع ويستنبط «وقد ميزه الله بذاكرة قوية لا تنسى». حتى على علم غزير.
وفي سنة ١٣٢٤هـ ذهب إلى مكة المكرمة لحج فرضه وعمره آنذاك (32) سنة. وكانت رحلته رحلة حج ودراسة لم يضيع فيها فرصة المقام ولا فرصة السفر. قابل في حجه هذا كبار علماء مكة والمدينة. واختلط بهم.
وبعد رجوعه بدأ يراسل كل من اشتهر بالعلم في الأقطار الإسلامية عربية أو غير عربية.
ورسائله لم تكن مجرد تعارف أو كتابة أو سؤال عن الحال.
بل كانت للدراسة وطلب العلم. فكل رسالة وجوابها صدفتان مشتملتان على اللآلئ الفوائد من عظيم الفوائد التي لا يدركها إلا من كان ذا علم غزير، وقلب واعٍ، وذكاء مفرط.
والذين عرفوا عبد الله بن خلف، وعرفوا فيه رجلًا تقيًا، ورعًا، متواضعًا لله في نفسه، عظيمًا في أعين الناس، يقضي نهاره «وكل نهار من أيام عمره» معلمًا للناس، واعظًا لهم، حلالًا لمشاكلهم، مفتيًا في قضاياهم، يقرأ الكتاب ليستفيد منه، يقرأ القرآن ويتدبر معانيه ويستنتج منه أحكامه. يعبد الله، ويختلط بالناس، يجلس في مجلسه لهم، ويعود المرضى، ويهنئ أو يعزي، عرفه عارفوه بأنه قوي الإرادة. مضاء العزيمة، صادق القول، وفي بالعهد، محافظ على الوعد. لا تعرف همته الكسل، ولا الملل.
لم يذكر عنه رحمه الله أنه أضاع ساعة من عمره في لهو أو عبث. لم يلبس فاخر اللباس، ولا انتعل بغالي النعال. بل كان يكتفي منهما بما يكفيه. بما يرد عنه غائلة برد، أو يمنع عنه وقدة حر، وكان رحمه الله إذا مشى مع الرجال بان فيه أنه قصير القامة، لكنه كان مهيب الطلعة، نوراني الوجه، خفيض الصوت وفي صوته بحة. يرى فيه رائيه جمال التقوى، وثبوت الحنان فإذا تكلم تكلم لله. يحس منه سامعه نصحًا، وإرشادًا وتوجيهًا. ودعوة إلى الله. وإلى طاعة رسوله.
وكانت مراقبته لله دائمة. ومن خلال هذه المراقبة ينطلق إلى المشاركة في كل عمل ينفع المجتمع. امتثالًا لأمر الله الكريم ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: 2).
كان يساعد في كل عمل إسلامي فإن وجد المال «والمال عنده قليل» مد يده به. وإلا فله في القول نصح وحث. لا يتيه عن ذلك رغبة ولا رهبة. لأنه يقول ما يعتقد أنه الحق ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33).
في سنة ۱۳۲۸هـ أسست الجمعية الخيرية وهي مؤسسة غايتها مساعدة كل من يحتاج إلى مساعدة مادية أو ثقافية أو صحية للفقراء والمساكين وأبناء السبيل. ووقف المرحوم الشيخ عبد الله بن خلف مع مؤسسيها موقف المحرك والمشجع.
خطیب مفوه
وكان أول خطيب في المدرسة الأحمدية يوم افتتاحها شاكرًا القائمين على تأسيسها وحاثًّا الحاضرين على أن يجعلوا من هؤلاء أسوة لهم فيناصروا مشاريع العلم ويفتتحوا دور التعليم. وذكر ما للعلم من فضل في إحياء النفوس، وإيقاظ القلوب، وتنوير العقول، وأن الجد لا تناله الأمة إلا بالعلم.
عاش رحمه الله إمامًا وخطيبًا في مسجد البدر منذ تأسس سنة ١٣٢٤هـ. فكان الناس يقطعون المسافات البعيدة للصلاة فيه. لا يردهم عن ذلك حر ولا قر. لا لشيء إلا ليصلوا خلفه ويستمعوا خطبته.
کرمه وجوده
إنه الجواد الكريم، وكان كرمه الإيثار، ولا يجود إلا على مستحق، يتفقد أصحابه وجيرانه، ويواسيهم سرًا، يجود وما لديه قليل. فلا يمسك منه حتى القليل. فكان كمن قال الله فيهم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ﴾ (الحشر: 9).
والحلم من صفاته. وكم بلغه عن بعض حساده كلمات تثير الحليم. ولكنه كان يبتسم لها. ويقابل أهلها بما يليق بمكانته. ويليق بالعافين عن الناس والله يحب المحسنين ما دام في مجلسه أحدًا، ولا اغتيب إنسان، ولم يجد على أحد، بل كان يحمل في صدره القلب النقي الخالص، ويحمل في هذا القلب النية الحسنة وصفاء الود.
في منصة القضاء
وعدله المشهور دليل على صدق إيمانه وثبات يقينه بربه. وُلي القضاء، فحكم فعدل، ولم يخف في الله لومة لائم. ولا بطش ظالم. يأتيه الخصمان فيسمع من كل منهما حجته ثم يعرض عليهما الصلح فإن قبلا أصلح بينهما وإلا حكم بما يعتقد أنه الحق فيخرج الخصمان وكلاهما راضٍ بحكمه العادل داعٍ له بالخير.
يجلس للزائرين صباحًا ومساءً كل يوم، ولكن مجلسه ليس للقيل والقال. بل للوعظ والتذكير والإرشاد. يقرأ للناس من كتاب الله وسنة رسوله، فإذا مر بآية فسرها، ثم ذكر أسباب نزولها، ثـم استنتج منها أحكامها. وكذا الحديث يشرح لهم معناه.
ويذكر شيئًا من حياة الصحابي الذي رواه. وبعد الحديث يتبسط مع الجلساء يقتبس من جليسه النادرة. ويستمع منه النكتة فتطربه ولا يكاد ينساها.
دعابات الشيخ مواعظ
وكان يمزح مع الكثير من تلامذته وأصحابه وأذكر فيما أذكر أني أتيته بعد صلاة فجر يوم شديد البرد وقد لبست في يدي قفازين وطويت غترتي على رقبتي ولم يظهر مني سوى وجهي ولما صافحني ضحك وقال لم يبقَ عليك إلا أن تتنقب. ومنذ ذلك اليوم لم ألبس في يدي قفازًا «وهـو ما يسمى في الكويت «الدسوس» حتى في أشد أوقات البرد.
وجاءه شاب وحيد لأبويه اتخذ له مسكنا غير مسكن أبيه ليستقل فيه هو وزوجته فلامه الشيخ على ترك بيت أبيه فقال: «يا سيدي» الشيخ - ما قصدي من ذلك إلا أن أقصر من لسان أمي، فقال الشيـخ «ومن يقصر من لسانك؟ فطأطأ الرجل رأسه ولم ينطق بكلمة واحدة وتساقطت دموعه ولم تغب شمس ذلك اليوم حتى رجع الشاب إلى سكن أبيه يسأل والديه الرضا عن ذنبه تجاههما.
وتعرض له الصبيان في الطريق لا لشيء إلا ليسلم عليهم ثم يدخل الولد على أبويه وهو مسرور بسلام الشيخ عليه. يبشرهما بذلك.
وأخيرًا لا آخرًا فإن من عد موج البحر عد طويلًا.
وبعد صلاة فجر يوم الجمعة ٢٥ رمضان سنة ١٣٤٩هـ أحس بألم في أحد جانبي صدره لم يمنعه من حضور صلاة الجمعة مأمومًا.
وعلم أهل الكويت بنبأ هذا المرض الذي هو في اصطلاح الطب نيمونيا ويسميه الكويتيون «ذات الجنب» والذي قَلّ إن يصاب به أحد فيسلم.
وأخذ الناس يتهافتون على المسجد والمجلس ليسأل بعضهم بعضًا عن صحة الشيخ والشيخ صابر أمام قدر الله يظهر أثر الألم على وجهه ولا يقول إلا حقًا.
واشتدت وطأة المرض ولا طبيب ولا دواء إلا الكمادات وقد يفيد الكي وتحدث الحاضرون أمامه عن الكي ودعا الشيخ ربه أن يحرم جسده على النار واستجاب الله دعاءه. وفي آخر الليل قبل فجر يوم الإثنين ۲۸ رمضان أسلم روحه إلى باريها وهو يذكر الله بلسان فصيح وصوت مسموع.
وعلم الناس بوفاة شيخهم وقاضيهم ولم يكن هناك يومئذ تليفون ولا إذاعة، بل كان الناس متلهفين إلى الخبر فزعًا مما سيحدث.
وبعد الشروق أي بعد ساعتين ونصف من وفاته شُيِّع جثمانه إلى مقره الأخير وخرج لتشييعه كل من يستطيـع السير على قدمه من شيب وشبان حتى الصبيان وكلهم حزين، كان أول المشيعين في المقبرة وآخرهم عند المسجد.
لم يحزن شعب بأكمله لوفاة فرد منه إلا أهل الكويت يوم وفاة الشيخ عبد الله بن خلف حتى أن الناس كانوا يعزون بعضهم بعضًا لأن المصيبة بفقده كانت عامة. لم يفقده أهله وذووه فحسب، بل فقده الكل وبكاه حتى النساء في بيوتهن.
رحم الله «عبد الله بن خلف» رحمة واسعة مع الصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا.
عبد الله النوري
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل
حوار الشيخ أحمد القطان يتحدث لـ «المجتمع» عن رحلته إلى کابل
نشر في العدد 1003
721
الأحد 31-مايو-1992

