; عالم معاصر يدعو لـــــ.. تأسيس علم «الجهل» | مجلة المجتمع

العنوان عالم معاصر يدعو لـــــ.. تأسيس علم «الجهل»

الكاتب قيس القرطاس

تاريخ النشر الثلاثاء 26-ديسمبر-1972

مشاهدات 15

نشر في العدد 131

نشر في الصفحة 16

الثلاثاء 26-ديسمبر-1972

عالم معاصر يدعو لـــــ..

تأسيس علم «الجهل»

بهدف.. معرفة

مالا.. نعلم

بقلم المهندس: قيس القرطاس

آفاق جديدة

علم الجهل

أصبح العلم في العصر الحديث جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر ولقد صارت له مكانة كبرى في نفوس الناس وتغلغل في كيانهم ومشاعرهم وأفكارهم واتسع نطاق العلم البشري المعاصر فتفرع إلى فروع عديدة وتنوعت فيه الاختصاصات المختلفة في جميع ميادين الحياة، وبالنظر لهذه المكانة العالية للعلم وتماسه مع النواحي العملية صار البعض ينظر إليه نظرة مقدسة مبالغ فيها، وقد سيطرت هذه الفكرة بالأخص على أولئك الذين تخدعهم أو تبهرهم العناوين الصحفية البراقة وتجنح بهم بعيدًا عن الواقع ومن الأفكار الخاطئة ما يعتقده هؤلاء من أن العلم البشري قد بلغ نهايته، إلا أن هذا الاعتقاد غير صحيح، لأن أي كشف جديد هو كالحجر حين يرمي في بحيرة راكدة فيؤدي إلى حدوث تموجات صغيرة في البداية ثم تتسع شيئًا فشيئًا حتى تعم الحركة مساحة كبيرة ...سطح الماء، وأن أي كشف لن يكون هو النهائي، وإنما  هو حافز لكشوف أخرى ستظهر فيما بعد.

نظرتان متباينتان:

 - يسود ...العلمي نظرتان تجاه العلم، نظرة قديمة انتهت بانتهاء التفكير الكلاسيكي القديم ونظرة جديدة ظهرت عند حدوث التحول العلمي الخطير في بداية هذا القرن والنظرة الأولى نظرة جامدة ثابتة وهذه النظرة ترى في العلم كائنا جامدًا اسطورياً ثابتًا لا يتغير ولا يتبدل. وهذه النظرة قد أثبتت التجارب أنها نظرة متحجرة تسبب إيقاف عجلة العلم وتحول دون تقدمه أما النظرة الأخرى المتحركة الديناميكية، فهي لا تعرف السكون و تأبى إلا الانطلاق والتحرك فتدفع بالعلم إلى الأمام.

والذين يرجحون النظرة الثانية لن يعتريهم الجمود اطلاقاً، ويشرح جيمس كونانت هذين الاتجاهين بقوله: "ومن أمثلة هذا الاختلاف رأيان بل نظرتان ينظرهما الناظر إلى العلم، النظرة الاستاتيكية، نظرة الثبوت والجمود تضع في بؤرة الصورة من العلم ذلك الجزء الذي يحتوي القواعد والقوانين والنظريات ومعها ذلك الفيض العظيم مما كشف العلم ونظم وانتظم من حقائق أما النظرة الأخرى النظرة الديناميكية فترى العلم شيئًا غير ثابت ولا جامد تراه شيئا متحركا، تراه نشاطا متصلا، وكل ما جمع العلم من حقائق فأخطر ما فيها أن منها يستطيع الباحث أن يثيب إلى حقائق أخرى". «1»

والعلم الماضي إنما هو منطلق للعلم الحالي، وكذلك العلم الحالي إنما هو منطلق لعلم أسمى منه هو علم المستقبل الذي لن يكون بدوره سوى حلقة واحدة من سلسلة طويلة من حلقات المعرفة.

العلم في تغير مستمر.

عندما تبنى الرأي العلمي السائد في القرن التاسع عشر الاعتقاد القائل بكمال العلم البشري وما يتبعه من التفكيرات الضيقة السائدة حينذاك كالمادية والمصادفة والتوالد الذاتي وغيرها، إن ذلك كله أدى الى تأخر سير العلم بسبب عجز التفسيرات الكلاسيكية القديمة عن مواكبة التقدم فأصاب الموقف العلمي جمود عجيب، ولكن عندما تبدلت هذه الفكرة اندفع العلم إلى الأمام وانطلق من جمود الأرض إلى رحاب الفضاء، ويصف ول ديوارنت التغير الذي أصاب الموقف العلمي فيقول إلى أي نجم بعيد ذهبت نظريتنا السديمية المشهورة؟ هل يؤيدها علم الفلك الحديث أو يسخر من وجهها المغبر؟ و أین ذهبت اليوم قوانين نيوتن العظيم حين قلب انشتين ومينكوفسكي وغيرهما الكون رأسًا على عقب بمذهب النسبية غير المفهوم؟ وأين مكان نظرية عدم فناء المادة وبقاء الطاقة في الفيزيقا المعاصرة وما يكتنفها من فوضى وتنازع.

 فما أصاب علومنا؟ هل فقدت فجأة قداستها وما فيها من حقائق أزلية؟ أيمكن أن يجهلها الكثيرون، وهي إن القواعد العلمية الحديثة لیست سوی فروض قام بها الإنسان بوضعها لتفسير الغوامض التي تحيط به من كل جانب وقد يكون نصيبها النجاح أو الفشل، وإذا أصابها النجاح فإلى أمد محدد وزمن مقدر

النظرية القديمة والجديدة:

ولقد حدث في الوسط العلمي شيء غريب جدا فعندما ظهرت بعض النظريات الجديدة التي أثبتت وجودها ببراهين رآها العلماء مقنعة ونسخت النظريات القديمة وحلت محلها، إذا بـالجديدة تعجز عن تعليل بعض الظواهر في الوقت الذي تستطيع القديمة إلقاء بعض الأضواء عليها.

هذا ما حدث بالنسبة لطبيعة الضوء إذ لا يزال العلماء في حيرة من أمره فهم يتذبذبون بين نظريتين الأولى تقول إن الضوء عبارة أمواج والثانية تقول إن الضوء جسيمات صغيرة جدا تسمى الفتون، ويبين أنشتين وأنفلد الفرق بين النظريات القديمة والجديدة بقولهما "أن تكوين نظرية جديدة لا يشبه هدم كوخ حقير وبناء ناطحة سحاب بدلًا منها، بل أقرب شبهًا بحال رجل يتسلق جبلًا فيتسع أفق نظره ویری آفاقًا جديدة كلما ازداد ارتفاعًا، ويرى طرقًا ومسالك جديدة، تصل بين البقاع الموجودة في سفح الجبل مما كان يتعذر عليه رؤيتها أو لم يبرح هذا السفح» (۳) وتضيف إلى ذلك إن هذا الارتفاع إلى أعلى الجبل قد يتيح للمتسلق أن يرى الصورة بحالة أكثر شمولاً بالنسبة لمرآها في أسفل الجبل، إلا أنه يبعد عنها فلا يتبين جميع ملامحها بدقة.

قوانيننا العلمية نسبية: -

وإذا كان القرن التاسع عشر قد سيطرت عليه عقلية التطور حتى أصبح يُسمى بعصر التطور، فإن القرن العشرين أحرى به أن يُسمى عصر النسبية، لأن النسبية قد سيطرت على كل مجال، حتى لقد وصفت قوانيننا العلمية بالنسبية أيضًا، يقول ليكونت دي نوى « إن القوانين العلمية قوانين نسبية للإنسان الذي هو الآلة المفكرة التي تعبر عن الرابطة الموجودة بينه وبين السبب الخارجي وهي تصف تتابع الحالات النفسية التي تنتج عن هذه القوانين هي بالضرورة نسبية ذهنية وصلاحيتها ترتبط بالإنسان وتعتمد على تماثل الانعكاسات لدى مختلف الأشخاص لنفس المنبهات الخارجية، ومن هذا يتضح أن بعض التعابير- كالحقيقة العلمية - يجب أن تؤخذ بحدود ضيقة وليس بالمعنى الحرفي كما يظن العامة.

فليست هناك حقيقة علمية بالمعنى المطلق.

والقول المعروف: السير نحو الحقيقة بواسطة العلم قول باطل.

فهناك فقط مجموعات من الإحساسات التي وجدنا بالتجربة أنها تتبع بعضها البعض بترتيب معين، والتي تدعي أنها ستتوالى على نفس النمط في فترة مستقبلة محدودة تلك هي روح حقيقتنا العلمية» (٤)، إن الباحث عندما يرى في التجارب الماضية عددًا من الحوادث قد وقعت على نمط معين أو أدت إلى نتيجة ما، فإنه يستنتج من ذلك أن الحوادث في المستقبل ستقع على نفس المنحى وستؤدي إلى نفس النتيجة.

الاحتمالية بدلًا من الحتمية:-

ولكن إذا كان العالم في القرن التاسع عشر لديه الجرأة الكاملة لكي يقول إن الحالة - أ - تتبع الحالة - ب - والحالة - د - تتبع الحالة - ج - فأن العالم في القرن العشرين أكثر تحفظاً وأقرب إلى التواضع منه إلى الغرور ولا يجزم بشيء وإنما يستطيع أن يقول إن الحالة - أ - قد تتبعها الحالة ـ ب ـ أو ـ ج ـ أو ـ د ـ وقد يستطيع أن يقول إن - د - أكثر احتمالًا من - ب ـ و - ج - ولكن لا يحدد أيها التي ستقع.

يقول ج. برونوفسكي «هذا هو الرأي الانقلابي للعلم الحديث، وقد استبدلت فيه نظرة النتيجة الحتمية بفكرة الاتجاه المحتمل» (٥).

 التغير لا الثبوت هو الطابع الذي يميز به العلم

نقص العلم البشري: -

إن أبحاث العلماء وأقوالهم ونظرياتهم تؤكد نقص العلم البشري.

وأن هذه النظرة الجديدة هي الصحيحة التي تعبر عن الحقيقة والواقع وتساهم بدفع العلم إلى الأمام بعكس النظرة القديمة التي تشكل أكبر عقبة في طريق ازدهار العلم وقطف ثماره.

ومن الجدير بالذكر أن الآية القرآنية ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(الإسراء:آية ٨٥)،  قد قررت قصور العلم البشري قبل ثلاثة عشر قرنًا من وقتنا الحاضر، كما أن الرسول «ص» قد دعا في أحاديث متعددة إلى العلم والاستمرار في طلبه والتواضع وعدم الغرور بما لدى الإنسان من علم.

فقد روى عن رسول الله «ص» أنه قال: «من سلك طريقًا يلتمس علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة » وجاء في إثر موقوف « لا يزال الرجل عالمًا ما دام طلب العلم فإن ظن أنه علم فقد جهل » إن الذي يؤكده العلماء أن اعتقاد المرء بجهله هو خير حافز للتقدم.

يقول كروكس « من بين الصفات التي عاونتني في أبحاثي النفسية وذللت لي طريق اكتشافاتي الطبيعية، اعتقادي الصحيح الراسخ بجهلي وأكثر الذين يدرسون الطبيعة يستحيل أمرهم عاجلًا أو آجلًا إلى إهمالهم الكلي لجانب عظيم من رأس مالهم العلمي المزعوم لأنهم يرون أن رأس مالهم هذا وهمي محض، أما أنا فإن تركي لرأس مالي العلمي الوهمي قد بلغ حدًا بعيدًا، فقد تقبض هذا النسيج العنكبوتي للعلم إلى حد أنه لم يبق منه إلا كرة صغيرة لا تكاد تدرك ولست بأسف من الحدود التي تضعها أمامنا الجهالة الإنسانية، بل إني اعتبرها منشطًا منقذًا » (٦).

علم الجهل: -

ونتيجة لهذه التبدلات الجذرية في الجو العلمي دعا عالم معاصر إلى تأسيس علم جديد قد يتصور البعض أنه علم غريب ولكنه حقيقة ماثلة أمام أعيننا تعبر عن واقع الإنسان أنه علم الجهل ذلك العلم الذي يأبى المغرورون الأعتراف به.

يقول الأستاذ جان فوراستيه «أن أساتذتنا وعلمائنا يرهقون أنفسهم لتعليم ما يعرفون دون أن يكون لديهم الوقت أو المزاج للتحدث عما لا يعرفون ولا بد لنا من القول بأن ذلك من حسن الحظ لأن الكلام عن علم الجهل يبدو مستحيلًا وخطيرًا ما دام هذا العلم غير موجود فإن التخبط فيه ميسور وتكذيبه قد يكون لاذعًا، لذلك أراني أن علم الجهل لا وجود له وأدعو إلى إنشائه ولسوف ينشأ لأنه يفي بحاجات اجتماعية وعلمية.

ويتماشى و الإحساس بالشيء الذي يتكون اليوم» (۷) .

فمتى يُقر هذا العلم ومتى يُدرس في مدارسنا حتى يستطيع رجال المستقبل أن يكّونوا صورة واضحة عن علومنا الحديثة بدلا من التخبط الذي نراه اليوم.

١ - مواقف حاسمة في تاريخ العلم (٤٨).

۲ - مباهج الفلسفة ( ٢٣/١ ).

٣ - تطور علم الطبيعة (۱۹).

٤ - مصير البشرية (١٦).

٥ - العلم والبداهة (۲۰۰).

٦ - على أطلال المذهب المادي (١٢٣/١).

٧ - معايير الفكر العلمي (١٤).         

الرابط المختصر :