العنوان عطاء المسيري.. بين مداد العلماء ودماء الشهداء
الكاتب د. إبراهيم البيومي غانم
تاريخ النشر السبت 19-يوليو-2008
مشاهدات 16
نشر في العدد 1811
نشر في الصفحة 30
السبت 19-يوليو-2008
دهى الكنانة، لما جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
أما الخبر فهو رحيل أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيري يوم الخميس آخر أيام شهر جمادى الآخرة ١٤٢٩هـ (٣ يوليو ٢٠٠٨م). وقد دهى رحيله ليس مصر «الكنانة» وحدها، وإنما كل أرض العروبة والإسلام... وأما الفزع، فقد كان رد فعلي التلقائي عندما تلقيت الخبر وأنا خارج البلاد!
والمسيري يمثل ثورة في عالم الأستاذية بقدرته الفائقة التي كان- يرحمه الله- يتمتع بها في إزالة الحواجز بينه وبين طلابه وتلامذته، وتشجيعهم على التعامل معه كأنهم في مستواه، وكأنه في مستواهم!
واللافت في مدرسة المسيري أن أغلبية طلابها ليسوا ممن درسوا على يديه في الجامعة، فكلنا أو أغلبنا أصحاب تخصصات مختلفة عن تخصصه الأكاديمي في ميدان «الأدب الإنجليزي» وهناك أساتذة «تجاوزًا» يجهدون في بناء الحواجز بينهم وبين طلابهم، ويبذلون في بناء هذه الحواجز من الجهد أكثر مما يبذلون في التفكير والتأمل والتوجيه والمناقشة مع طلابهم، لم يكن المسيري يتصنع إزالة الحواجز، ولم يكن يفتعل تقريب المسافات على بعدها وطولها بينه وبيننا، وإنما كان يتصرف بعفوية مذهلة، ولم نشعر يومًا- وهو يحاضرنا، أو يسامرنا، أو يخطب فينا- أنه يملي علينا أفكاره، أو يمارس شهوة التسلط العلمي والفكري على محدودي العلم والمعرفة أمثالنا.
بساطة وعفوية: كنا ننهل من عفويته ونستثمرها قدر المستطاع، وكان هو المبادر في أكثر الحالات بالاتصال بي وبزملائي من تلامذته ممازحًا ومعاتبًا، وداعيًا باستمرار لتناول «الكنافة بالجبنة» في بيته العامر في شهر رمضان خاصة، وفي أوقات متفرقة من العام مع لفيف من محبيه وتلامذته وحوارييه.
كان حريصًا على إزالة الحواجز بينه وبين طلابه.. ولم نشعر يومًا وهو يحاضرنا أو يسامرنا بأنه يفرض علينا آراءه وأفكاره.
وكانت بساطته تغرينا بالإفراط في الحديث معه، وفي مناقشة أفكاره؛ بل وفي نقدها أحيانًا كثيرة، وهو يرهف السمع لنا، ويوافق على بعض ما نقوله، ويشيد به، ويطلب من أحدنا أن يكتب فكرته، ويعبر عنها في دراسة أو في مقال مسهب، ويوصي بقراءة بعض الكتب أو البحوث ذات الصلة بالموضوع، ويسعد كل السعادة عندما كان البعض منا يرسل له مقالًا، أو دراسة، أو كتابًا صدر له.
دعاني ذات مرة للحديث مع مجموعة من تلامذته ومريديه في منزله العامر عن «نظام الوقف الإسلامي»، وكيف أنه تعبير عن تراث عريق ينبع من صميم الرؤية الإسلامية التي تضع الإنسان– مطلق الإنسان– في بؤرة اهتمامها، وليس كالعمل غير الهادف للربح في الرؤية الرأسمالية الغربية «الأوروبية والأمريكية» الذي ينطلق من أساس مادي بحت، ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى منظومة قوانين الضرائب مثلًا، ودعاني وغيري من زملائي وتلامذته مرات ومرات على جامعاتنا ومراكز أبحاثنا، وكانت أول مرة نرى ونسمع أستاذًا تعلم وعلم في أمريكا يقول: «لا تشتروا الوهم من هناك، وعليكم أن تجدُّوا في بناء معرفة علمية رصينة انطلاقًا من رؤية إسلامية إيمانية عمقها إنساني وغايتها الكبرى الإنسان، وفي ذلك تتجلى عظمة الإسلام وأهميته للبشرية كلها وليس فقط للمسلمين من أتباعه وحدهم».
قضية فلسطين ستبقى في القلب من إنجازاته بموسوعته عن «اليهود واليهودية والصهيونية» ... وغيرها من كتاباته التي تناولت القضية.
مؤلفات أخرى
لأستاذنا رحمه الله وأجزل له المثوبة في دار البقاء، مؤلفات أخرى في الحضارة الغربية والحضارة الأمريكية مثل: «الفردوس الأرضي» و«الفلسفة المادية» و«تفكيك الإنسان» و«الحداثة وما بعد الحداثة» و«دراسات معرفية في الحداثة الغربية»... ومن دراساته اللغوية والأدبية: «اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود» و «دراسات في الشعر» و في الأدب والفكر»... كما صدر له ديوان شعر بعنوان: «أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية»، وله كذلك عدة قصص، و ديوان شعر للأطفال، وله إلى جانب ذلك كله مواقف سياسية؛ لا يقفها إلا الرجال الذين لا يذل أعناقَهم حرصٌ، ولا يملأ أفواهَهم الماءُ.
العالم العامل
جاء في الأثر المروي عن الرسول محمد ﷺ، أن مداد العلماء يوزن يوم القيامة بدماء الشهداء، وأستاذنا المسيري «يرحمه الله» نحسبه– والله حسيبه ولا نزكيه على الله– أنه كان من العلماء العاملين المجتهدين الذين يوزن مدادهم بدماء الشهداء يوم القيامة، فالمسيري في مسيرته الطويلة الحافلة بالعطاء والكد والكدح حتى آخر نفس، كان نموذجًا إحيائيًّا عمليًّا لمفهوم العالم في الثقافة الإسلامية، هذا المفهوم الذي ران عليه كثير من الغبار والتشويش بفعل عوامل الضعف والاستكانة التي أصابت المجتمعات الإسلامية في عصور الانحطاط، فأصبح العالم أبعد ما يكون عن أداء مهمته في خدمة مجتمعه وأبناء أمته.
فالعالم العامل في الرؤية الإسلامية ليس هو المثقف العضوي الذي تتحدث عنه نظريات علم الاجتماع السياسي الغربي، والماركسي الغرامشي تحديدًا، بل العالم العامل صاحب رؤية ورأي، وله مهمة إصلاحية تتوزع بين ثلاث وظائف كبرى بنسب متباينة: الوظيفة الأولى هي المساهمة في تثبيت أصول الإسلام، وقواعده العقدية في نفوس الأجيال المتلاحقة، وتقوية ثقة أبناء الجيل الجديد في أنفسهم وفي ثوابتهم العقدية وهويتهم الأصيلة، والوظيفة الثانية هي دحض وتفنيد الاتهامات والادعاءات التي تحاول النيل من تلك الأصول والثوابت.
ولا تستغرق هاتان الوظيفتان إلا أقل من ثلث جهد العالم العامل، أما ثلثا جهده الباقيان فيجب أن يتوجها للوظيفة الثالثة وهي الاجتهاد والتجديد وتقديم ما يفيد أبناء مجتمعه بقدر ما يسعه الاجتهاد، وبقدر ما يجعل المجتمع أكثر قدرة وأمتن قوة، وأقرب إلى تحقيق المقاصد العامة للشريعة، وفي القلب منها مصالح الناس في المعاش والمعاد معًا، وبتوازن وتكامل دون تعارض أو اختلال بين المصلحتين.
من هذا المنظور ستحتاج إسهامات أستاذنا المسيري – يرحمه الله – إلى جهود فرق بحثية، وليس باحثًا واحدًا، أو عدة باحثين لتقدير قيمة إسهاماته في الوظائف الثلاث للعالم العامل حسب معايير الرؤية الإسلامية التي آمن بها المسيري، ونافح عنها منذ انتقاله من صفوف العلمانية إلى رحاب الإيمان، ومن التحيز ضد الذات وعلى حسابها لحساب الآخر، إلى التحيز للذات الحضارية وللإنسانية، انطلاقًا من المرجعية الإسلامية.
وتبقى قضية فلسطين وشهدائها في القلب من إنجازات المسيري في موسوعته عن «اليهود واليهودية والصهيونية» وفي غيرها من كتاباته التي تناولت الانتفاضة الفلسطينية الأولى «انتفاضة الحجارة» و«انتفاضة الأقصى»، وكل حبة رمل، وغصن زيتون، ونقطة دم لطفل أو طفلة فلسطينية، أو امرأة أو شيخ من أهل فلسطين، كل ذلك لم يفارق المسيري لحظة واحدة، وكأنه بعفويته وكتاباته المستبشرة دومًا بالمستقبل لفلسطين، كان يمزج مداده بدماء شهدائها، فهنيئًا لك سيدي المسيري، وطبت وطاب ذكرك، وجزاك ربك بأحسن ما تعمل.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل