الثلاثاء 11-مايو-1971
حرية التنقل من حقوق الإنسان الأساسية ولكن.. مطلوب تنظيم هذه الحرية.. وهو أمر ممكن!
من خيام البر إلى مصايف أوروبا
· مع بداية هذا الشهر، وهبوب رياح الصيف الساخنة وزوابع «الطوز» المتربة.. تبدأ معركة الإجازات في دواوين الحكومة ومصالحها.. ومكاتب الشركات ومصانعها..
· وتتنوع طلبات التراخيص بها علوًا إلى ثلاثة شهور ونزولًا إلى شهر واحد...
ويشتد الزحام على باب الشهر القادم شهر يونيو حتى يبلغ ذروته على أبواب شهر يوليو وأغسطس.. ويحتار المسئولون أمام الرغبات ويسير دولاب العمل في حده الأدنى!!
موجة التصييف في العالم
وتجتاح موجة التنقل لقضاء العطلة السنوية في الصيف أرجاء كثيرة من أنحاء العالم.. فسكان أوروبا الباردة يهرعون إلى شمس الشرق الدافئة.. حتى أهل الشواطئ الدافئة يتنقلون أيضًا في ربوعها من ساحل الريفيرا إلى كابري، ومن الإسكندرية إلى بيروت وبالعكس.. وهلم جرًا.
الكويت والصيف
ولكن الحياة في الكويت تتميز عن غيرها من بلدان العالم إذ تكاد تتوقف الحركة فيها طوال الأربعة شهور..!!
فهل لذلك من أسباب؟!
يقول بعض الدراسين الاجتماعيين:
- إن ظاهرة التصييف في الكويت ما هي إلا نوع من الترجمة الحقيقية لماضي السكان الذين كانوا يعيشون على الرحلات التجارية في البر أو في البحر..!!
- وهي بشكل آخر انطلاقة من قيود الحياة الرتيبة التي تفتقد وسائل الترفيه والمتعة والاستمتاع بالحياة المتلونة والمتغيرة.. حيث يجد المواطن الكويتي الذي قدر له أن يقيم في الصيف على أرض بلاده.. يجد نفسه أسير المنزل في جو التكييف الصناعي..!!
- وحينما قلت الروابط العائلية التي تجمع الشمل من الأهل والجيران يشعر الإنسان بالوحدة ويضيق بالعزلة..!!
- وطفرة الانتقال من حياة البداوة التي كانت تمنح الإنسان الكويتي قدرة على مواءمة نفسه مع الطبيعة بتقلبات رياحها وحرارتها ورطوبتها..
- وثمة آراء تشير إلى التقاليد التي ما زالت ترسم طابعها على المجتمع الكويتي بحيث ينظر إلى كل خارج عليها نظرة اشمئزاز.. جعلت منه هاربًا بعيدًا عن الأنظار حيث يمارس حريته كما يحلو له..
البر شتاء.. والسفر للخارج صيفًا
ويعللون هذه الظاهرة بأنها استمرار لما درجت عليه العائلات من نزوح عن قصورها و«فيلاتها» بما فيها من أثاث فاخر ورياش.. إلى أطراف الإمارة حيث تنصب خيام الشعر التي يطلق عليها «بيوت العز»..!!
- وتعيش الأسرة فيها بكل سعادة بالماضي وفرحة بالحرية مع أفاق الصحراء المترامية حيث لا طعام إلا الخراف في بساطة الإعداد والالتهام..
وحيث يمارسون أفراحهم على تقاليدهم كل حين.. وتكثر ولائمهم وتعذب أحاديث سحرهم..
وينطلق الأولاد في أمان من ضجيج المدينة وحوادث السيارات..!!
· هل الغنى سبب رئيسي؟!
إن توافر الإمكانيات لدى الإنسان الكويتي بدون شك أحد الأسباب الرئيسية في هذه الهجرة الصيفية.. وكثرة الدعاية التي تروج لها وسائل الإعلام الميسرة في كل بيت.. وروح التقليد التي تفرض نفسها على الناس في بلد ضيق أشد تأثيرًا من كل ما سبق..
قلت لشاب جامعي: إلى أين سفرتك هذا العام؟
فقال: إلى إنجلترا..
قلت له: وهل ستصحب أسرتك معك؟
قال بابتسامة: ماذا تفعل معي..!! إنهم ما زالوا يصرون على لبس العباءة..!! أتريد أن تكون مثار التندر والتفرج أم هدف هواة التصوير والاستجواب!!
وسألت رجلا خط الشيب لحيته:
· إلى أين مصيفك هذا العام؟
- قال: إلى لبنان..
· قلت له: ولماذا اخترت لبنان بالذات؟
- قال: لا أحد هناك يسألك عما تفعل..!! ويمكنك أن تتخاطب مع الناس دون ترجمان..!!
وتستطيع أن تتوه مع مختلف الجنسيات.. وإذا ما ضاقت نفسك ببيروت استطعت أن تجد مأواك في قرى لبنان مع المروج الخضراء..
وأدركت أحد الأصدقاء من هواة السفر إلى القاهرة وهو يستعد بأسرته وسيارته ليكون في طليعة أفواج المسافرين..
· لماذا تصر على القاهرة؟!
- قال: يا أخي.. مالنا ولأوروبا.. أنا متعصب.. الشرق للشرقيين.. لا تشعر بالغربة هناك.. تستطيع أن تستمتع بالصيف وأنت محافظ على دينك وتقاليدك.. فعلى أرض الكنانة يمكن للرجل المتدين أن يجد متعته البريئة فالمساجد ملأى بالمصلين.. وأماكن الله وغاصة بالمرتادين.. وكل مهاجر لما هاجر إليه..!!
فضلًا عن أن الدينار الكويتي له قيمته هناك مما لا يرهق ميزانية الأسرة..!!
أثر هذه الموجة على الاقتصاد
وسألت أحد رجال الاقتصاد:
· ألا ترون سيادتكم أن موجة التصييف في الخارج التي انتشرت بين أبناء البلاد لها أثر على الاقتصاد الوطني؟
· فقال:
· بلا شك.. فالأسواق في هذه الفترة تعتبر في حالة ركود.. وإن كان بعض التجار يعملون حسابها ويشطبونها من أيام العام التجاري.. وصغار التجار أشد الناس تأثرًا بها حتى تجدهم يبيعون في غالب الأحيان بدون أرباح.. يقصدون تحرك رأس المال فقط...
· إن انخفاض القوة الشرائية في فترة الصيف قد يؤدي ببعض المحلات التجارية إلى التفليس.. ولهذا الانخفاض أثر كبير على التجارة الناشئة وخاصة إذا ما أخطأ أصحابها التقدير. ولم تكن لديهم دراسة علمية وتخطيط اقتصادي.
· وإذا ما زرت أسواق المباركية وشارع فهد السالم ومبارك الكبير في هذه الفترة تشعر بما ذكرت لك.
وحينما تذهب إلى الميناء البحري (السيف) أو الميناء الجوي تجد الحركة تكاد تسير في تفريغ ضروريات الحياة فقط.
· ومن أشد الناس تأثراً بهذه الظاهرة:
١- أصحاب الحرف الصغيرة مثل الحلاقين والخياطين.. إلخ.
٢- شركة المواصلات وسائقو التاكسيات.
٣- أصحاب «الكراجات».
٤- سوق «الحراج» مع هبوط أسعار السيارات المستعملة بصورة غير عادية.
هل هذا تهريب مشروع؟!
• وثمة أمر آخر ذو أهمية كبرى وأثر ضار.. بالاقتصاد الوطني.. وهو أن المسافرين يحملون معهم من العملة قدرًا مدخرًا طوال العام لهذه الأيام خاصة.. فضلًا عن رواتب الشهور القادمة بالنسبة للموظفين، ومكافآتهم السنوية بالنسبة للعاملين ببعض الشركات..
ومن ثم تتم عملية ضخمة من خروج نسبة كبيرة من الدخل الوطني إلى الخارج حيث تنفق عن أخرها في السلع الاستهلاكية... إنه نوع من التهريب المشروع.
هل لهذه الموجة أثر على الأخلاق؟
سؤال توجهت به إلى أحد الأخصائيين الاجتماعيين فقال:
- الناس في أهداف تصييفهم في الخارج مذاهب شتى! أو بتعبير أخر «لكل امرئ ما نوى»..!!
- فليس كل من يذهب إلى الخارج يحمل في أعماق نفسه روح التقليد.. وفي خارجها إمكان المحاكاة، والاندفاع، أو الانطلاق مع الشهوات والرغائب.. ولكني أقول بكل تأكيد إن كثيرين ممن يذهبون إلى أوروبا في هذه الفترة لا يستطيعون أن يكونوا على قدر من الاستمساك بدينهم وتقاليدهم..!! واختلاطنا بغيرنا سلاح ذو حدين.. ألا أن الأثر الأخلاقي في فترة التصييف بلا حدود.. وانتقال كثير من العادات الغريبة علينا إلى بلادنا تعتبر أثرًا لهذه الموجة...
التنظيم.. علاج
· قلت له: التصييف أمر واقع.. ووقف تياره نوع من نطاح الصخور..!! ومبرراته كثيرة من الترويح واستعادة النشاط، والاستفادة من الترحال والانتقال والتعارف الإنساني بين البشر.. إلخ.
· فهل يمكن أن نجعل من هذه الظاهرة المتزايدة ظاهرة صحية لا مرضية؟!
قال: نعم.. التنظيم.. والتنظيم فقط..
- ينشأ مكتب هنا يسجل الراغبين في السفر إلى الخارج لقضاء عطلة الصيف مع تحديد الجهة التي يودون السفر إليها وعدد المسافرين وتاريخ السفر..
- تبلغ السفارات الكويتية في هذه البلاد بالأعداد القادمة إليها مواعيد وصولها.. حيث تقوم بإعداد المكان الذي ينزلون فيه واختيار المرافقين أو التراجمة وإعداد البرامج اللازمة مع استشارتهم فيها..
- تشجيع التصييف البلاد العربية..
أما الفوائد لهذا التنظيم فتفوق الحصر:
١- السفر الجماعي، والرحلات الداخلية الجماعية، مع الإقامة الجماعية لفئة من بلد واحد لها ميزات:
- قلة التكاليف..
- سهولة التعامل..
- الاستحسان بالعادات العربية..
- الحرص على الأخلاق الإسلامية..
- عدم الذوبان في مجتمعات لا أخلاقية..
- إمكانية تكوين دعاة في تلك البلاد برسالتنا الإسلامية..
٢- إشراف السفارات له فوائد: التوجيه، والحماية، والتوفير. فهي أقدر وأحرص الجهات على أن تعطي القادمين كل المعلومات الصادقة عن البلاد التي ينزلون إليها فتمنع التورط والمآزق التي يصادفها الكثيرون من المصطافين في بلاد لا يعرفونها.
· وسألت مسئولًا في وزارة الإعلام:
هل يمكن الحد من عملية الاصطياف في الخارج؟
فأجاب:
أولًا: الاهتمام بسواحل الكويت وتجميلها ولعل ما ذكر عن اهتمام وزير الدولة ببحث موضوع الشاليهات واجتماع لجان بالبلدية لهذا الموضوع يأتي بنتيجة سريعة.
ثانيًا: الحزام الأخضر والحدائق العامة.
ثالثًا: الإكثار من المكتبات العامة المكيفة مع الاهتمام بالتثقيف عن طريق المحاضرات بها وبحث مشاكل كل حي.
رابعًا: الاهتمام ببرامج التلفزيون بحيث توضع له خطة تستقطب جمهور أفراد المجتمع.
خامسًا: الدعاية اللازمة للنوادي الصيفية بحيث لا تقتصر على الشباب بل تشمل الكبار وتكون ذات أهداف أخلاقية وإنسانية وتؤدي دورها المطلوب بكفاءة.. ولا يحرم منها أي حي في البلاد.
سادسًا: أن تعد النوادي الرياضية والجمعيات المختلفة برنامج نشاط صيفي مدروس.
سابعًا: أن يبحث موضوع أسعار المكيفات الغالية ولو أدى الأمر إلى إنشاء مصنع تجميع وتركيب بحيث تصبح المكيفات في متناول جميع المواطنين.
وخرجت من وزارة الإعلام وفي رأسي أثر من بعض الصراعات الفكرية التي سمعتها في هذا الموضوع مما أجيز نشره ومما لم يجز إعلانه.. من أصحاب الدعوة إلى التصييف في الخارج بحماس وعنف ورغبة في الاستمتاع بالمعرفة وخيرات الله على وجه الأرض..
ومن المهاجمين لهذه العادة التي ضررها أكبر من نفعها.. والقطار يسير لا يلوي على شيء من الصائحين هنا أو هناك يعلن بصفارته ودويه إخلاء الطريق أو دهس الواقفين على قضبانه..
أبو هالة
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل