; فتح القسطنطينية: قراءة جديدة في تاريخ قديم | مجلة المجتمع

العنوان فتح القسطنطينية: قراءة جديدة في تاريخ قديم

الكاتب أحمد منصور

تاريخ النشر الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

مشاهدات 8

نشر في العدد 1125

نشر في الصفحة 39

الثلاثاء 15-نوفمبر-1994

على أطلال الخلافة (٢)

محمد الفاتح فتح القسطنطينية وعمره خمسة وعشرون عامًا وقضى ٢١ عامًا في الخلافة فتح خلالها البوسنة والهرسك وكثيرًا من مدن أوروبا وآسيا الوسطى.محمد الفاتح اشترى أيا صوفيا بماله وأوقفها مسجدًا للمسلمين وبني في عهده في اسطنبول وحدها 180 مسجدًا لا زال كثير منها شامخا حتى الآن.أوصى الفاتح جيش المسلمين بالصوم قبل الفتح بيوم وبقيام الليل والتهليل والتكبير ليلة الفتح،فهاجموا القسطنطينية في الصباح لايريدون سوى النصر أو الشهادة.

ظل فتح القسطنطينية أملًا يراود قادة جيوش المسلمين والمجاهدين منذ سمعوا رسول الله يقول في حديثه الذي رواه البخاري «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، وكان الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري هو أول من سعى لنيل ذلك الشرف النبيل، فسار في خلافة معاوية -رضي الله عنه- وحاول في عام ٥٢هـ أول محاولة يقوم بها المسلمون لفتح القسطنطينية إلا أنه استشهد قرب أسوارها -رحمه الله- وما زال قبره ومسجده هناك شاهدين على تلك المحاولة.وتتابع بعد ذلك عشرة من قادة المسلمين على فترات مختلفة كل منهم يسعى لأن يكون له شرف فتحها حتى جاء السلطان محمد الفاتح سابع سلاطين بني عثمان حيث أخذ يعد لفتح القسطنطينية مدة عامين منذ العام ٨٥٥هـ ١٤٥١م وحتى العام ٨٥٧هـ حيث بدأ الجيش الإسلامي بالزحف عليها تحت قيادة محمد الفاتح.

القسطنطينية قبل الفتح

احتلت القسطنطينية أهمية استراتيجية كبيرة على مدار التاريخ، فموقعها الجغرافي يدرك أهمية كل من ذهب إليها وتجول في أطرافها ليجد أنها عقدة الاتصال بين آسيا وأوروبا من حيث الموقع والمنافذ البحرية، ولذلك فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية عن نابليون بونابرت قوله: «لو كانت الدنيا مملكة واحدة لكانت القسطنطينية أصلح المدن لتكون عاصمة لها». شهدت القسطنطينية بعدما أصبحت العاصمة الشرقية للإمبراطورية الرومانية البيزنطية بعد انقسامها إلى شرقية وغربية في عام ٣٩٥م ازدهارًا كبيرًا سرعان ما أخذ ينهار شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى أسوأ عهودها في عهد الإمبراطور قسطنطين آخر أباطرة بيزنطة، وكعادة الأنظمة الفاسدة والممالك الخائرة أخذ قسطنطين ومن قبله يستنزفون ثروات الدولة في بناء القصور الضخمة والكنائس الفخمة ساعين بذلك لصرف الناس عن حالة الضعف والانهزام التي كانت تعاني منها الدولة البيزنطية في أواخر عهودها وقد بلغ الإسراف مبلغًا كبيرًا في هذه الجوانب حتى صارت الدولة رغم ضعفها تزين قباب الكنائس وجوانب القصور بالمجوهرات والنفائس المختلفة لعلها تحظى برضا الناس وتأييدهم لها رغم عدم قدرتها على حمايتهم وتوفير الضرورات لهم.وعلاوة على ذلك فقد أخذ جيرانها يقتطعون من جوانبها ويستولون على أطرافها مع انشغال أباطرتها بمظاهر العظمة وأبهة السلطان مما هيا الأسباب للفاتح حتى يقود جيش الفتح الإسقاطها.

الإعداد للفتح

كان السلطان محمد الفاتح ابن السلطان مراد الثاني لم يتجاوز الخامسة والعشرين حينما قاد جيش المسلمين وزحف به على القسطنطينية، وهذا يعطي دلالة أكيدة على أن هذا الرجل الذي دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلم له قبل أكثر من ثمانمائة عام على الفتح قد هيأه الله وحباه بصفات خاصة توافرت في قادة من شباب المسلمين قبله وبعده ربما كانوا قلة لكن كلًا منهم ترك أثرًا لا يزول على صفحات التاريخ. سلك الفاتح رغم صغر سنه مسالك القادة العظام وهو يعد للفتح، فعقد المعاهدات مع الدول المجاورة حتى يضمن حيادها، ثم قام ببناء قلعة عظيمة في الطرف الأوروبي لا زالت شامخة حتى الآن في أضيق نقطة على مضيق البوسفور بين القسم الأوروبي والقسم الآسيوي «قلعة روم إيلي حصار»، وشارك بنفسه في بنائها حيث انتهى من بنائها خلال ثلاثة أشهر بما يعدزمنًا قياسيًا يقدره كل ما يزورها ويرى ضخامتها وهندسة بنائها، ولعل اختياره لمكانها يدل على عبقرية فذة وحسابات علمية دقيقة جعلت الأتراك يقيمون حديثًا جسرًا فوق البوسفور عند نفس النقطة باعتبارها أضيق مسافة بين جانبي المضيق.وعلاوة على ذلك فقد استقدم الفاتح المخترعين والعمال المهرة من كل أوروبا، كما استقدم العلماء والصناع وأجزل لهم العطايا فقاموا بتصميم المدافع، وبناء السفن وتطوير المعدات الحربية والصناعات الأساسية، ورغم أن كثيرًا من هؤلاء كانوا من غير المسلمين إلا أن ذلك لم يمنع الفاتح من الاستفادة منهم في مهاراتهم، وقد بلغ عدد السفن الحربية التي بناها الفاتح في بعض الروايات أكثر من أربعمائة سفينة كانت كلها في بحر مرمرة.

موقف البيزنطيين

حينما شعر الإمبراطور قسطنطين بأن الفاتح يعد العدة للزحف على القسطنطينية وإسقاطها أخذ يبذل مساعيه لتقوية وضع الدولة المنهارة فأرسل إلى بابا روما ليستنجده فاستنهض البابا ملوك أوروبا وجيوشها بعدما جرى توحيد شكلي للكنيسة الرومانية بشقيها الشرقي والغربي، ووصلت بعد القوات بالفعل من أوروبا حتى وصلت لخليج القرن الذهبي الذي يستطيع المشاهد إدراك موقعه بوضوح من قصر الخلافة «توب كابي» إلا أنها سرعان ما هربت؛ فسعى قسطنطين للاستنجاد بالروس إلا أنهم كانوا ضعافًا ومنقسمين ولم يجد قسطنطين بُدًا من مواجهة مصيره المحتوم.

الزحف والحصار

كانت القسطنطينية قلعة منيعة لها أسوارها العالية الضخمة التي ما زالت قائمة حتى الآن، حيث تسعى الكنيسة لتجديدها الآن لتأكيد الهوية النصرانية للمدينة بعدما تغلبت المساجد على الكنائس، كما أن الموقع الاستراتيجي كان له دوره في تكوين موانع طبيعية أفشلت محاولات الفتح من قبل.بدأ الفاتح زحفه على القسطنطينية برًا وبحرًا في ربيع الأول من عام ٨٥٧هـ-١٤٥٣م، وفيما كان جيش الفاتح يضم ١٥٠ ألف مقاتل كان الجيش الرومي يضم ۸۰۰ ألف مقاتل وفيما كان الأمل بالفتح والنصر والشهادة والتمكين يحدو بجيش المسلمين كان الخور والضعف وروح الانهزام تسيطر على جيش الروم رغم محاولات قادتهم بث روح الصمود فيهم. 

أحكم الفاتح حصاره على القسطنطينية خمسين يومًا جرت فيها كثير من المناوشات ومحاولات الاختراق من قبل المسلمين إلا أن حصون المدينة القوية والمقاومة الأولية التي أبداها الروم حالت دون ذلك، وكان إغلاق الرومان لخليج القرن الذهبي بالسلاسل في وجه سفن المسلمين أثره في عدم قدرة الفاتحين على الاختراق بحرًا، لكن عبقرية الفاتح تفتقت عن حيلة أذهلت الرومان حيث قام بدراسة المنطقة التي تتجمع فيها سفن المسلمين في بحر مرمرة مع المنطقة التي أغلق فيها الرومان القرن الذهبي بالسلاسل ثم أمر بتمهيد الطريق من حيث موقع سفن المسلمين وحتى ما بعد السلاسل التي أغلق بها الرومان مياه القرن الذهبي، ثم أمر بفرش الطريق الذي بلغ طوله عدة أميال بألواح الخشب القوية، حيث صب المسلمون فوقها الدهون والزيوت ثم قاموا بذلج السفن عليها ليلًا حتى أنهم تمكنوا في الليلة الأولى من إدخال سبعين سفينة فوجئ الرومان بها في الصباح تمخر عباب القرن الذهبي فجن جنونهم فيما بدأت السفن بقصف القسطنطينية بحرًا ومدافع المسلمين برًا وتم تشديد الحصار حتى أصبح جند المسلمين على بعد أمتار من الأسوار التي نقبوها وحفروا الأنفاق إلى داخل المدينة من تحتها، وأرسل الفاتح إلى قسطنطين يدعوه للتسليم حقنًا للدماء وحفاظًا على الأرواح لكنه رفض ولم يجد الفاتح بُدًا من الهجوم والفتح.

يوم الفتح

حينما أصر قسطنطين على رفض التسليم وأبلغ الفاتح أنه سوف يواصل القتال دفاعًا عن القسطنطينية حتى الموت، أمر الفاتح جنوده بالاستعداد للمعركة، وقام قبل الفتح بالمرور على جميع قواته البحرية والبرية حيث دعاهم إلى تطهير نفوسهم وإخلاص نياتهم لله -عز وجل-، وذكرهم بحديث الفتح ودعاهم إلى الصيام قبل الهجوم بيوم حتى تزكو نفوسهم وتطيب قلوبهم وينحصر مرادهم في النصر أو الشهادة، وفي ليلة الفتح لم ينم الجند، وإنما كان الجيش جميعه ما بين راكع وساجد ومكبر ومهلل، فارتفعت صيحات التهليل ودوى التكبير وقرعت طبول الحرب لتزيد الحماس في نفوس الجند، وأخذ العلماء يجوبون بين الخيام يقرؤون آيات الجهاد ويرتلون الأناشيد الحماسية الدينية، وجمع الفاتح قادة الجند والعلماء في خيمته وقام فيهم خطيبًا وناصحًا وكان مما قاله لهم «إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير، فأبلغوا الجند فردًا فردًا أن الظفر الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدرًا وشرفًا، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم الإسلام نصب عينيه، فلا يصدر عن أحدهم ما يجافي هذه التعاليم وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ويتركوا القساوسة والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون».

 انتقلت هذه المعاني العظيمة من قلب الفاتح إلى قلوب العلماء وقادة الجند ومنهم إلى الجند الذين ربطوا على قلوبهم بآيات القرآن وحديث الفتح، وما إن بزغ الفجر حتى كانت الشعلة الإيمانية بلغت في نفوس الجند ما بلغت، فانطلقت جحافل الفتح فجر العشرين من جماد أول ٨٥٧هـ-۲۹ مايو ١٤٥٣م، ثم بدأ جيش المسلمين- الذي يضم مائة وخمسين ألفًا وعلى رأسه محمد الفاتح- القتال والمناوشة لاستنزاف طاقة الروم، حتى تمكن المسلمون من اختراق الأسوار واجتياز الأبواب وارتفعت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله فوق أسوار المدينة، وسرعان ما انهزم الرومان وفروا أمام المسلمين وقتل الإمبراطور مع من قتل من جنده وسرعان ما ملأت أركان المدينة أصوات التهليل والتكبير، وصلى محمد الفاتح العصر في المدينة.

أخلاق النصر لدى محمد الفاتح

لم يقف الفاتح عند حد وصيته التي أوصاها لجنده قبل الفتح أو أمره لهم بالصيام والقيام لتزكية نفوسهم أو أفكاره العسكرية الرائدة سواء كانت البحرية أو البرية، وإنما تجلت أخلاق النصر بصورة أوضح لديه بعد الفتح، حيث جمع الجند وقرأ عليهم حديث الفتح، ثم سجد لله شكرًا وترحم على الشهداء ثم توجه إلى قصرالإمبراطور وحينما علم بموته أمر بدفنه بما يليق بمكانته، وحينما علم أن الجنود قد اشتغلوا بالسلب والنهب أصدر أوامره الفورية بوقف كل اعتداء وفساد، ثم قصد كاتدرائية النصارى وأعلن في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين وطلب منهم انتخاب بطريق لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وسمح لهم بتتويجه بنفس الطريقة التي كانوا يقومون فيها أيام ملوك الرومان وأعطاه حرسًا من جنود الجيش العثماني من الانكشارية الأقوياء، ومنحه حق الفصل في القضايا المتعلقة بالرومان فدفع هذا عشرات الآلاف الذين قد فروا من المدينة خوفًا من المسلمين إلى العودة لينعموا بالأمن تحت ظلال الخلافة الإسلامية، وشرع محمد الفاتح في بناء مسجده وحبب المسلمين في بناء المساجد وحفظ القرآن فبنى خلال فترة حكمه في اسطنبول وحدها مائة وثمانون مسجدًا ما زال كثير منها وعلى رأسها مسجده الذي ظلت مآذنه شامخة حتى الآن. وقد قام الفاتح في نفس عام الفتح بشراء كنيسة أيا صوفيا التي أقامها الإمبراطور البيزنطي قسطنطين في عام ٥٣٢م، وأصبحت مسجدًا تقام فيه الصلاة من ١٤٥٣م وحتى ١٩٣٤م حيث أعيدت في عهد إينونو إلى مظهر الكنيسة وتم إيقاف الصلاة بها حتى عاد الأذان من فوق مآذنها في عام ١٩٨٠م.

فتوحات أخرى كبيرة

لم يقف محمد الفاتح بجيشه عند حدود القسطنطينية التي أعلنها عاصمة لخلافة الدولة الإسلامية وسميت بعد ذلك بإسلامبول وأصبح اسمها بعد ذلك إسطنبول -وهو اسمها الحالي- وإنما انساح بجيشه في أوروبا ووسط آسيا ففتح في أوروبا بلاد البلقان وصربيا والبوسنة والهرسك وأثينا والمورة وبعض المدن اليونانية وأترانت في إيطاليا، أما في آسيا الوسطى فقد فتح طرابزون وغيرها من المناطق الأخرى وتوفي الفاتح -رحمه الله- في عام ٨٨٦هـ الموافق ١٤٨١م عن عمر يناهز الثالثة والخمسين وقد أمضى في الحكم واحدًا وثلاثين عامًا قضاها في الجهاد والفتوح وتثبيت أركان الخلافة ودعائم الدولة.جلستُ في مسجد محمد الفاتح في إسطنبول وأنا أستحضر هذا العصر الزاهر والفتح المبين وكانت رائحة التاريخ تملأ نفسي وأنا أجوب مع الشيخ أمين سراج جنبات مسجد الفاتح حيث كنت أستحضر عظمة الفاتح وجنده الغالبين ثم تراءت لنفسي فتوح المسلمين العظيمة من بعد فتوجهت لقصر الخلافة الكبير «توب كابي» لأقرأ من جديد صفحات من معالم تاريخنا القديم.

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

رد على إسفاف المشبوه

نشر في العدد 42

33

الثلاثاء 05-يناير-1971

عداء اليهود للأمة الإسلامية

نشر في العدد 74

22

الثلاثاء 24-أغسطس-1971

بريد المجتمع (216)

نشر في العدد 216

22

الثلاثاء 03-سبتمبر-1974