العنوان في فقه الدعوة 14.. الصياغة الحديثة لنظرية العمل الجماعي
الكاتب محمد أحمد الراشد
تاريخ النشر الثلاثاء 29-أغسطس-1972
مشاهدات 30
نشر في العدد 115
نشر في الصفحة 24
الثلاثاء 29-أغسطس-1972
نكبتان كبيرتان حدثتا في تاريخ الإسلام، أتعبتا عموم المسلمين، ولمدى أجيال، بخلاف نكبات صغيرة محدودة الأثر كثيرة.
النكبة الأولى: أحدثها هولاكو، وبلغت ذروتها باحتلاله بغداد عاصمة الإسلام.
والناظر لهذه النكبة يجد أنها ما كانت بدعة عما يصيب الأمم في فترات ضعفها، وتوقعها الكثير من العلماء، وحذّروا الأمة وأولي الأمر من وقوعها قبل سنين طويلة من السنة التي وقعت فيها، وهي سنة 656 هـ، لما رأوه من تردي أحوال العامة في عقيدتها وأخلاقها، وبعد جهاز الدولة عن الجد والتجرد، وضعف هيمنة الخلفاء، وعزوف جمهور العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتقائهم بالجدل والمناظرات الجافة الموغرة للصدور «1».
وقد حاول بعض متأخري الخلفاء إصلاح الأحوال بنظام الفتوة الذي حرف به سيرة كثير من العامة إلى سيرة شبه عسكرية، إلا أن إصلاحه كان مخروقًا؛ لأنه لم يعتمد العقيدة أساسًا تربويًّا لنظامه، فتحول النظام إلى نوع من اللهو.
وهذا هو الذي يُفسّر لنا ذلك الذهول الذي أصاب معظم الأمة بعد تلك النكبة، وحيرتهم، ولولا أن أتاح الله للأمة الإمام ابن تيمية، بما أعاده من الثقة، وأوضحه من فقه العمل، لكان الذهول أطول، إلا أن بعض أصحاب القلوب الحية من العلماء كانوا أسرع إلى فهم كلام ابن تيمية، فعاونوه، أو نسجوا على منواله، ورتقوا بعض الخرق الكبير.
ومع ذلك، فيجب أن لا نبالغ في تصوير أثر الاستدراك الذي قام به ابن تيمية وصحبه، فإنه كان محدود الأثر، واستمرت أحوال العامة في التردي، واستمرت تجزئة العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة متنازعة ضعيفة.
بعد قرون من نكبة بغداد، استطاعت الدولة العثمانية في عصرها الأوسط، وبمجيء بعض السلاطين الأقوياء الذين تمكنوا من توسيع رقعتها، أن ترث هيبة العباسيين، وتعيد إلى الأذهان معنى الخلافة الأقرب إلى سمتها الأول الذي عهده المسلمون في أواسط الخلافة العباسية، إن لم نقل: سمتها الأقدم من ذلك، واستمرت الدولة العثمانية حتى نهاية حكم السلطان عبدالحميد رحمه الله جديرة بأن يوصف حكمها بأنه حكم إسلامي، على عيوب كثيرة، ونقص في تطبيق بعض الأحكام الشرعية في آخر عهدها، وعلى ظلم من بعض الولاة الذين أساء السلاطين اختيارهم أحيانًا.
ولا يقول بخلاف قولنا هذا الا متأثر بتزييف حقائق التاريخ الحديث، ذلك التزييف الذي قامت به المجامع الاستشراقية والدوائر التبشيرية، واستخدمت فيه عملاءها من الكُتّاب أو ضحاياها من الذين تقمصهم نوع من التطرف القومي العربي.
وأما النكبة الثانية: فاحتلال الجيوش الإنكليزية والفرنسية لبلاد الإسلام في الحرب العالمية الأولى، وقضاؤهم على آخر صورة يمكن أن تُسمّى بأنها إسلامية كما قلنا ممثلة في الحكم العثماني أو بعبارة أدق: قضاؤهم على أي احتمال قريب لتقويم انحراف الحكم العثماني عن الإسلام، حين حرّف حزب الاتحاد والترقي بانقلابه على عبدالحميد قوانين شرعية كثيرة، وحرّف مناهج التربية، وأشاع الطورانية، أي القومية التركية، ورضي السذج من أركان ذلك الحزب تدخل الأيادي اليهودية والماسونية في الحزب وسياسة الدولة.
وكما جعل هولاكو احتلال بغداد هدفًا معنويًّا مهمًّا أراد به كسر معنويات عموم الأمة الإسلامية، فكذلك جعل الحلفاء، أو الانكليز بالتحديد، أو تشرشل نفسه احتلال بغداد والقدس هدفًا معنويًّا، مع التركيز على احتلال بغداد بالذات لكسر معنويات الأمة، وإعادة احتلال هولاكو لها إلى الأذهان، كما كشفت عن ذلك البرقيات المتبادلة بين قائد الحملة الإنكليزية لاحتلال العراق خلال الحرب العالمية الأولى، وبين وزارة المستعمرات «2».
*
وبرزوح البلاد الإسلامية تحت حكم الجيوش الاستعمارية، أو تحت حكم المماليك الذين نصّبوهم ووجّهوهم من وراء ستار، عادت الجاهلية إلى أرض البلاد الإسلامية، ضربت أطنابها، وتمكّنت من قياد المؤسسات السياسية، والأجهزة التربوية، والبيوت التجارية والمالية، واستطاعت بذلك من دخول القلوب بالترغيب والترهيب.
وبعودة الجاهلية، عادت الحاجة إلى من يجاهدها ويعيد حكم الإسلام.
مبادرة عاكستها الظروف
وحين أذهلت المخلصين بدعة الانحراف الضخمة التي جاء بها حزب الاتحاد والترقي حاول بعض السذج منهم مناهضتها فورا، ففشلوا، في قصص مشهورة، إلا أن المحاولة الواعية جاءت بعد سنين من بغداد، على يد رجل من كبار العسكريين أيام عبدالحميد، ويعرفه العراقيون بالنبل والتقوى والشجاعة، ذلكم هو « محمد فاضل باشا الداغستاني » رحمه الله؛ إذ إنه أسس مع بعض خيار أعيان بغداد من آل الخطيب وغيرهم ما أسموه بـ «الحزب الإسلامي» سرًّا، ونص منهاجهم على مناهضة حكم الاتحاديين، وإعادة الحكم إلى سمْت إسلامي شرعي واضح على نحو ما كان سابقا «3».
كانت مبادرتهم هذه سنة 1913.
ولذلك أجبرتهم ظروف الحرب العالمية على التريث والالتهاء بصد الخطر العام الذي دهم الأمة، ثم مات البطل الداغستاني فيما نحسبه شهادة بشظايا طلقة مدفع خلال معركة حصار الكوت، تلك المعركة الظافرة الرائعة التي انتهت بهزيمة الإنكليز أمام بعض بقايا جيش الأمة الإسلامية، واستسلام أربعة عشر ألف جندي إنكليزي وأخذهم أسرى، وكان الداغستاني رحمه الله قائد المتطوعين غير النظاميين في تلك المعركة وما سبقها ودفن جوار قبر الإمام أبي حنيفة ببغداد، ودفنت معه تلك الهمة الكبيرة العالية النبيلة.
تجدد الذهول
ولكن انتهاء الحرب العالمية، وتسلط الجاهلية، تركا عموم المسلمين في ذهول شديد وحيرة.
كان الوضع الجديد بحاجة إلى رجل يبدأ فيعيد من أفراد المسلمين أمة إسلامية، ويقودها إلى حكم الإسلام ثانية، بأسلوب يناسب الواقع الجاهلي.
لكن الرياح الجاهلية كانت تصفر صفيرًا شديدًا في ديار الإسلام الخالية وما هناك من يصرخ بالمسلمين مستنهضًا، فيعلو هتافه على صفيرها.
نعم، كانت أصوات مخلصة كثيرة في بقاع الإسلام، لكنها ما كانت تعرف طريق العمل الصحيح، ولا الصفاء الإسلامي الكامل وتتوهم الطريق مقالات تكتب أو مؤتمرات تجتمع فتقرر عودة الإسلام على الورق فحسب؛ ولذلك بدت صيحاتهم على ورق الصحف أو المنابر أو في المؤتمرات كمجموعة نغمات نشاز أمام نغمة الأوج الهدارة لنشيد الإسلام الجديد الذي كان المسلمون بشوق إلى سماعه.
كان الإسلام بحاجة إلى من يعرف طريق العودة الصحيح، ويفقه أصول نظرية العمل الجماعي عند السلف، فيدق صدره، ويعلي صوته ليسمعه المسلمون، ويقول: ها أنا، فيلتفون حوله، ويتميزون صيحته، ونبرة تكبيره.
إدراك الذات
«ها أنا» هذه عرف إقبال رحمه الله حاجة الأمة لها.
إنها التعبير عن «إدراك الذات» عنده.
وفي مثل فترة الذهول تلك، التي كان يعيشها المسلمون، تعني إدراك الطريق الصحيح، الذي يبدأ من تربية الفرد، على معاني العقيدة الإسلامية الصافية، ويتطور إلى تجمع له قيادة لها خطة.
وقد صور إقبال إدراك الأمة لذاتها الحقيقية الإسلامية من بعد ذهولها كإدراك الطفل لذاته من بعد عجزه أيام طفولته الأولى.
ولأن هذه الأمة تولد من دعوة رجل واحد فقيه ذي همة، كما قال في ديوانه الذي خصصه لبيان الذات: «تولد الأمة من قلب جليل» «4»، فقد تحددت صفة الخطوة الأولى في طريق انتشال الأمة من الذهول وإرجاعها إلى الإسلام.
إنها الخطوة الأولى، عنوانها: أن يبادر قلب جليل فيدق صدره أمام جماهير المسلمين ويقول ها أنذا، على صفاء عقائدي، وتجرد سلوكي تلحظونه، فتجمعوا حولي.
أو، بأحرف إقبال في تصوير هذا البشير النذير حين يستفيق من الذهول:
أرأيت الطفل يا ذا البصر
ما له عن نفسه من خبر
ليس تدري أذنه ما النغمة
لحنه ثورته والضجة
وبعين الكون إنسانا يرى
كل شيء ما عداه أبصرا
بعد لأي طرف الخيط بدا
بعد ما حلّت يداه العقدا
فتراه عينه مستعلنا
فيدق الصدر، يعني : ها أنا
«أنا» هذي بدء مقصود الحياه
نغمة اليقظة في عود الحياه «5»
هذا هو «المجدد» بالاصطلاح الإسلامي؛ فالإسلام لا يعرف «أن تكون السلطة بيد الجاهلية ويقف الإسلام منها موقف التابع المتخلف، ولا كان يكفيه أن يكون هنا وهناك رجال متمسكون بالإسلام في حياتهم الفردية المحدودة، وتشيع في الحياة الجماعية الواسعة أخلاط شتى من الجاهلية والإسلام.
ولذلك كان -ولا يزال- الدين الإسلامي في كل عصر في حاجة إلى رجال أقوياء يأتون ويسددون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى الإسلام، سواء أكان عملهم في ذلك محيطًا شاملاً أو كان على بعض نواحي الأمر مقتصرًا، وهؤلاء هم الذين يدعون بالمجددين» «6».
ولأن طريقهم يقتضي البذل، كان من شروطهم أن يكونوا أبطالاً من الشجعان؛ إذ إن «الذين لا يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، ولا يشجعون على مقاومة الأخطار والمشكلات والذين لا يطلبون في هذه الدنيا إلا الراحة والسهولة والرغد، وهم ينسكبون لذلك في كل قالب ويطاوعون لكل ضغط، لا تجد لهم فعالا يذكر في التاريخ الإنساني، وإنما تشكيل التاريخ يكون من شأن الأبطال وحدهم، وهم الذين قد غيّروا أبدا مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، وبدّلوا أفكار العالم» «7».
ها أنا.... يقولها حسن البنا
وكان هذا البطل الشجاع الذي دقّ صدره وقال: ها أنذا، هو الإمام حسن البنا رحمه الله، ورفع صوته عاليًا معلنًا بداية التجمع والمسير سنة 1928، بعد عشر سنوات كاملات من الذهول الذي أصاب الأمة من جراء نتيجة الحرب العظمى، وسرعان ما تكاتفت معه تلك الطليعة المؤمنة من عمال شركة قناة السويس فكانت الدعوة الوارثة لجماعات السلف الآمرة بالمعروف.
وكان الأستاذ المودودي يمهد آنذاك ببحوثه القيمة لمثل هذه المسيرة في الهند، ثم بدأ التجميع فعلا سنة 1938.
وتلقف بعض الميامين هذه الدعوة في بعض البلاد العربية عن الإمام البنا، فكان في كل مكان رائد شجاع تجمعت حوله طليعة، وبدأوا المسير المبارك في السودان، وسوريا، وفلسطين والعراق.
وبذلك رسم هؤلاء القادة، بريادة الإمام البنا، مع الطلائع المقدامة الذين سارعوا للعمل معهم، الصورة العملية لأصول نظرية العمل الجماعي الإسلامي في العصر الحديث، وأتاحوا لبلاغة سيد قطب رحمه الله أن تنطق فتصف الطريق الدائم لمسيرة الدعوات.
يدعونا أن نتذكر «يف وقع هذا الأمر أول مرة»!
لقد وقف رجل واحد يواجه البشرية كلها بمنهج الله ويقول لها - كما أمر- : إنها في جاهلية، وإن الهدى هدى الله..
ثم تحول التاريخ.. تحول حين استقرت هذه الحقيقة الهائلة في قلب ذلك الرجل الواحد. تحول على النحو الذي يعرفه الأصدقاء والأعداء!
هذه الحقيقة التي استقرت في قلب ذلك الرجل الواحد ما تزال قائمة قيام السنن الكونية الكبرى.. وهذه البشرية الضالة قائمة كذلك وقد عادت إلى جاهليتها! وهذا هو الأمر في اختصار وإجمال..
توجد نقطة البدء. نقطة استقرار هذه الحقيقة في قلب.. في عدة قلوب.. في قلوب العصبة المؤمنة.. ثم تمضي القافلة في الطريق.. في الطريق الطويل.. الشائك.. الغريب اليوم على البشرية غربته يوم جاءها الهدى أول مرة - فيما عدا بعض الاستثناءات - ثم تصل القافلة في نهاية الطريق الطويل الشائك.. كما وصلت القافلة الأولى..
لست أزعم أنها مسألة هينة، ولا أنها معركة قصيرة.. ولكنها مضمونة النتيجة.. كل شيء يؤيدها.. كل شيء حقيقي، وفطري، في طبيعة الكون، وفي طبيعة الإنسان.. ويعارضها ركام كثير، ويقف في طريقها واقع بشري ضخم، ولكنه غثاء!
ضخم نعم.. ولكنه غثاء ! » «8».
«إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام...أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق، فيشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع، ويطبقون هذا في واقع الحياة.. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان» «9».
«إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا».
« والثلاثة يصبحون عشرة، والعشرة يصبحون مئة، والمئة يصبحون ألفا، والألف يصبحون اثني عشر ألفا.. ويبرز ويتقرر وجود المجتمع الإسلامي!» «10».
فهذا هو أسلوب الطلائع في محاولة البعث الإسلامي لتحقيق المنهج الإسلامي؛ فالمنهج «إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملا، وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - تجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين، وفي حياتهم كذلك» «12»، ولا بد «من البعث الإسلامي مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث، وبين تسلم القيادة؛ فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تخطيها» «13».
وهذه الطلائع، هي الطلائع الموفقة الفائزة التي سيندم من لم يلتحق بها منذ الآن، وسيتوجع كما توجع الصحابي ذو الجوشن الضبابي رضي الله عنه حين لم يُسلم إلا بعد فتح مكة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام بعد بدر فقال له:
«هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟
قال: لا.
قال: فما يمنعك منه؟
قال : رأيت قومك كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.
.. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» «14».
وكم من أناس اليوم لا يعدو منطقهم منطق ذي الجوشن، يدعوهم واقع المعركة الإسلامية إلى أن يكونوا الأوائل، والمقدمة، والنبلاء، والقادة، ورأس النفيضة، فيأبون إلا أن يكونوا مؤخرة؟
وكم من إصبع سيعض ندما يوم يختار الله الطلائع السائرة لإتمام نوره؟
ولا تزال اليوم في العالم الإسلامي بلاد كثيرة فيها عناصر من الأفراد الدعاة جيدة، وجمعيات إسلامية متعددة، وتجمعات لدراسة الحديث النبوي الشريف وكلام السلف، وطرق صوفية، وطلاب دراسات شرعية، وأحزاب إسلامية انتخابية لا تعتمد طريق التربية، ولكن ليس في أي من هذه الأحزاب والطرق والتجمعات والجمعيات والعناصر التصميم على سلوك طريق الدعوة التي تتجمع على أساس طاعة لأمير، وتلح في التربية، وتخطط لتغيير الواقع الجاهلي الذي يضغط عليها واستبداله بحكم إسلامي؛ فهذه الجماعات مدعوة، أينما وجدت، في شمال أفريقيا أو شرقها أو غربها، أو في منطقتنا هذه، أو في بلاد الأفغان، أو جنوب شرقي آسيا، إلى أن يراجع أفرادها أنفسهم، فيصححوا عقائدهم إن كان فيها نوع بدع، ويعلوا هممهم إن كان يعتريهم نوع خوف، ويتخلون عن الأنانية وحب التزعم إن كان قد ولدهما فيهم طول العمل في تجمعات صغيرة، ثم يبايعوا حرا يتميز بهم في حركة إسلامية واضحة الهدف التغييري، متينة التوجيه التربوي، رصينة الصف التنظيمي.
فإذا بادر مقدام فقال: ها أنا، فإن لأفراد هذه الجماعات أسوة وقدوة في الحوار الشريف بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حين أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة.
قال إبراهيم عليه السلام :
«يا إسماعيل : إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني؟
قال: وأعينك» «15».
فهذا هو جواب المؤمنين دومًا، بلا تلكؤ ولا تلعثم.
وإن الله قد أمر بإعادة الحكم الإسلامي ويجب أن تكون من الأعوان.
لا تتخلف، وامض، وبادر، وكن وريث إسماعيل.
لا تقعد في بيتك.
لا تسمع نداء مستقبلك الوظيفي والتجاري، فهنا في هذه الإجابة الإسماعيلية رأسمالك الحقيقي.
فإن استغربت أسلوب الطلائع، وأبيت إلا فتاوى القدماء، فاستمع إلى الإمام ابن تيمية يشرحه لك ويقول:
«كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكَلّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا» ثم يقول: «وقوله صلى الله عليه وسلم،، ثم يعود غريبا كما بدأ،،: أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: ﴿مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ﴾ (المائدة: 54). فهؤلاء يقيمونه إذا ارتد عنه أولئك.
وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل، كما كان عمر بن عبدالعزيز لمّا ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبا» «16».
الرواد يصفون الطريق
فإن هداك الله، وكنت في الطلائع، فاسمع الرواد في العصر الحديث يشرحون لك الطريق.
فأول ما ينبه إليه الإمام البنا هو : «وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس» «17».
ثم شرح ذلك فقال:
«إن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب.
ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين.
ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.
وكثيرًا ما تسير هذه المراحل الثلاث جنبًا إلى جنب؛ نظرًا لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعا فالداعي يدعو، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك. ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة، أو النتيجة الكاملة، لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين» «18».
وأما الأستاذ المودودي فيدعوك إلى التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لترى كيف «قام ذلك الرجل الوحيد فتحدى الدنيا كلها، ورفض كل تلك الأفكار الخاطئة والطرق المعوجة التي كانت رائجة في الدنيا، وعرض بإزائها عقيدة من عند الله مخصوصة وطريقة معينة، وفي مدة قليلة من السنين حوّل مجرى التيار، وغير لوّن الزمان بقوة تبليغه وجهاده» «19».
«إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام. فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام، ثم إذا لم يكن من الممكن تحقيق هذا المقصد الأسمى إلا بالمساعي الجماعية، لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة تؤمن بمبادئ الحق، وتحافظ عليها، ولا تكون لها غاية في الحياة إلا إقامة نظام الحق وإدارة شؤونه بغاية من الاهتمام والعناية.
ولعمر الحق أنه ولو لم يكن على وجه الأرض إلا رجل واحد مؤمن، لما جاز له أن يرضى على نفسه بتسلط نظام الباطل، حينما يجد نفسه وحيدًا فاقدًا للوسائل اللازمة، أو أن يحاول التستر وراء الحيل الشرعية، كالاقتناع بأهون البليتين، بل الحق أنه لا يكون أمامه إلا طريق واحد، وهو : أن يدعو الناس كافة إلى منهاج الحياة الذي يرضى به الرب تعالى. فإن لم يُجب لدعوته أحد، فإن قيامه على الصراط المستقيم، واستمراره في دعوة الناس حتى يلقى ربه خير له ألف مرة من أن يتنكب الصراط الحق ويهتف بنعرات تهش لها وتفرح بها الدنيا المتسكعة في بيداء الضلالة والغواية».
وكما وعي الرجال هذه الطريقة، وعتها امرأة من الداعيات، وذلك قول الفاضلة نهال بنت الرجل الصالح علامة العراق أمجد الزهاوي رحمه الله «أن ما ألمّ بالعالم الإسلامي من أرزاء، بانحرافه عن جادة الصواب وطغيان المادية، لأعظم من أن يتلافى بجهود ضئيلة، من خطب ومقالات ومحاضرات ومسائل جزئية ومقاومات فردية؛ فالسيل لا يصده الا سيل مثله» «20».
﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾(آل عمران: 34)؛ فقد كان أبوها رحمه الله يلهج ببيان طريق العمل الجماعي الصحيح، ويحث عليه، وأفتى بوجوبه.
ولكن هذه الحقائق ذهل عنها الفرديون وظنوا أنه طريق خطب، وصيحات منابر، وقرارات مؤتمرات، وحاول الداعية الإسلامي الكبير شكيب أرسلان رحمه الله تعليمهم الطريق الصحيح فلم يُفلح.
يقول رحمه الله في نص ثمين جدًّا خلال رسالة أنشأها سنة 1931 ونشرت مجلة «المسلمون» صورتها، يخاطب أحد أبناء فلسطين:
«تأتيني كتب كثيرة من المغرب وجاوا ومصر وسورية والعراق ونفس فلسطين بلدكم، مقترحًا أصحابها عقد مؤتمر إسلامي أو انتخاب خليفة وما أشبه ذلك. ويكون جوابي دائما: يجب أن نؤسس من تحت. يجب أن نربي الفرد».
ثم يستطرد فيقول:
«أما أن نعقد مؤتمرًا مجموعًا من ضعفاء ليس لهم إرادة مستقلة، وهم لا يقدرون أن ينفذوا قرارًا، فما فائدة ذلك؟ أتريد أن نجمع أصفارا؟» «21».
وهذه كلمات تكشف عن قمة الوعي وعن آخر تجارب الدعاة، ولكن أصحاب شكيب خذلوه وكانوا أقصر هممًا.
ولا زلنا ننظر هؤلاء الخطباء المساكين على منابر الجمعة والاحتفالات يتألمون، وينادون المسلمين بالعمل والجهاد، ويختمون خطبهم بمثل قولهم: الإسلام يناديكم ولا يسألون أنفسهم: بأي متصد للزعامة نثق، وما تم فيها إلا قائد مقود، و متبجح مملوك؟
إنهم جهلوا طريق العمل الصحيح، فلا تؤدي خطبهم إلا إلى زيادة آلامهم وآلام السامعين، ولو علّموهم اليأس من قادة اليوم، وأرشدهم إلى وجوب التجمع والأمر بالمعروف الذي جاء به الإسلام، والنهي عن المنكر الذي تقترفه الأحزاب والزعامات المملوكة، لحصل لهم المطلوب الذي يتمنونه، ولكن ما زلنا نسمع نشيج الجُمعات وقرارات المؤتمرات منذ عشرات السنين، وما ثم إلا جمع الأصفار.
إنه التأسيس من تحت كما يقول شكيب، ليس غير.
وإنها خيمة التنظيم لا قاعات المؤتمرات.
ونار الأحرار، لا أنوار الثريات.
تنصب خيمتك في صحراء جاهلية القرن العشرين، وتضرم نارك ليراها التائهون والمنقطعون فيقصدونها وينزلوا خيمتك، وتنادي ابنتك لبيني لتزيد لهب النار، وتعلمها:
يا لبينى أوقدي طال المدى
أوقدي عل على النار هدى
أوقدي يا لُبن قد حار الدليل
أوقدي النار لأبناء السبيل
ارفعي النار وأذكي جمرها
على هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما
أرشدي هذا الفراش الهائما
حبذا النار بليل توقد
حبذا المؤنس هذا الموقد
حبذا عندك هذا النزل
لو حوانا في سفر منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريق
إنما النيران أعلام الطريق
زودينا بهيام ووجيب
زودي يا لُبن من هذا اللهيب «23»
«1» أشار الغزالي في مواضع من الإحياء إلى مثل هذه الظواهر، وكتب فيها الندوي خلال كتابه «رجال الفكر والدعوة في الإسلام» في طبعته الثانية، ولأكرم العمري بحث عن أخلاق العامة آنذاك نشره في مجلة كلية الدراسات الإسلامية ببغداد.
«2» كتاب «حرب العراق 1914-1918» لـشكري محمود نديم.
«3» تجد الإشارة إلى خبر هذا الحزب في كتاب «البغداديون أخبارهم ومجالسهم» لإبراهيم الدروبي.
«4» شطر من ديوان الأسرار والرموز /108
«5» ديوان الأسرار والرموز/133
«6»موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه للمودودي/28
«7» نحن والحضارة الغربية للمودودي/251
«8» الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب/191
«9» في ظلال القرآن 10/191
«10» معالم في الطريق /9/118
«12» هذا الدين لسيد قطب/7
«13» معالم في الطريق /7
«14» طبقات ابن سعد 6/47
«15» صحيح البخاري 4/175
«16» مجموع فتاوى ابن تيمية 18/297، والإشارة إلى حديث: بدأ الإسلام غريبا ثم يعود.. «17» «18» المؤتمر الخامس المجموعة /239/254
«19» نحن والحضارة الغربية /250
«20» مجلة التربية الإسلامية ببغداد مجلة 3 عدد 4
«21» المسلمين مجلة 2/363
«22» لعزام من قصيدة اللمعات التي ألحقها بترجمته لديوان رسالة المشرق لإقبال.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلمن ثمرات التاريخ.. عين جالوت أو قفت الكارثة عن العالم (1من2)
نشر في العدد 1778
39
السبت 24-نوفمبر-2007