; في مفترق الطرق! | مجلة المجتمع

العنوان في مفترق الطرق!

الكاتب محمد سالم المليباري

تاريخ النشر الثلاثاء 30-مايو-1972

مشاهدات 15

نشر في العدد 102

نشر في الصفحة 24

الثلاثاء 30-مايو-1972

قصة قصيرة

في مفترق الطرق!

بقلم: محمد سالم المليباري

 الشمس ما زالت في كبد السماء تتابع سيرها الأبدي، والناس في كر وفر، لا يقعدهم حر الظهيرة، والكل مستغرق فيما قدر له، وما هي إلا سويعات حتى أخذت الشمس تزحف صوب الغرب لتختفي في خدر أمها بعد أن لعبت دورها اليومي في الحياة، وبدأ الناس يطوون صفحات أعمالهم، وقد هدهم المسير وأتعبهم الحصاد وقضوا شباب النهار في كد وجد، وكفاح وجلاد، إنها الحياة عمل وكفاح، وعقيدة وجهاد!

وارتفع الأذان هنا وهناك، فيممت الجموع بيت ربها حامدة الله على نعمائه، شاكرة لفضله، قانتة خاشعة.

وتوجه سالم إلى بيت الله يلتمس فيه زاد التقوى وهداية الطريق وسعادة الحياة يعلوه خشوع وطمأنينة وتكنفه قناعة ورضا.

وبعد أداء الفريضة أتجه صوب قلب المدينة رضي القلب ساكن الفؤاد قرير العين هادئ البال يلهج لسانه بالذكر ويتحرك قلبه بالحمد.

وبينما هو سائر في الطريق إذ أبصر أمامه شابًا يترنح يمنة ويسرة كالذي يتخبطه الشيطان من المس، يتصاعد من فيه دخان تشابكت حلقاته لتكتب في الهواء قصة حياة، ثم تمحى!

شاب في زي غريب، ذو شعر طويل، قد أخفى الإهمال ما أودع الله فيه من جمال –کوردة  زاهرة في روضة معطلة - شارد سارح في عالم الخيال، عادت ذاكرة سالم إلـى الوراء تستعرض الأحداث قبل سنتين، حيث كان طالبًا في إحدى المدارس الثانوية وكان خالد أحب أصدقائه يزوره في بيته بين حين وآخر، وكان والد خالد ممن أغدق الله عليهم من فضله، ذا جاء وثراء عريضين وقد غرس آماله في أبنه الوحيد وعلق عليه أمانيه بأن يكون عضدًا يشده أزره وينهض معه بأعباء الحياة الباهظة!

ومساء ذات يوم ذهب سالم ليزور صديقه فلم يجده، وعلم من أهله أنه خرج مع بعض أصدقائه وأنه لن يعود إلا في الهزيع الأخير من الليل كما هو دیدنه كل يوم ليلة، فرجع سالم يائسًا قانطًا، وفي اليوم التالي عاود سالم زیارة خالد فاعتذر إليه لغيبته، وأخبره بأن له أصدقاء في المدينة يخرج إليهم مساء ليفرج عن قلبه الضجر المال للحياه بالتجول في المنتزه وعلى شاطيء البحر تارة أخرى ليستعيد نشاطه باستنشاق الهواء النقي وعبير الأزهار العطرة ورؤية المناظر الرائعة!

تتابعت الأيام وقلت زيارة سالم لصديقه الذي انغمس في معترك الحياة، وانشغل سالم بدروسه والاستعداد للامتحان الذي يقترب يومًا بعد يوم.

كان سالم ذا طاقة محدودة وكان ترتيبه الخامس ولكنه داوم على اجتهاده وجده، فكان يراجع كل يوم ما يدرسه ويستمع إلى الأخبار ويقرأ الجرائد اليومية مع مزاولة لعبة كرة الطائرة التي كان بطل المدرسة فيها، وكان خالد أذكى من صديقه وكان ترتيبه الثالث منذ أن التحق بالمدرسة، يفهم ما يلقى إليه ويعيه وكان يستعيد كل ما يقوله الأستاذ في أثناء شرحه، كأنه شريط مسجل، ولم يكن من عادته أن يراجع دروسه إلا في أيام الامتحان.

ولاحظ سالم على صديقه بعض التغييرات، فكان أحيانًا يغشاه النعاس عندما يلقي المدرس درسه، وكانت أثار التعب تظهر على محياه، وعبثًا حاول سالم أن يعرف أسباب هذه التغيرات.

كان مدرس التاريخ يشرح دور العرب والمسلمين في الحضارة العالمية والتقـدم الإنساني واختراع العلـوم وابتكار الفنون، وبين أن الغرب عيال على العرب في كل علــم وفن فما كان من خالد إلا أن هب قلقًا وقال لأستاذه ما الفائدة في رواية هذا التاريخ في أيـام غزو الفضاء؟ فالغرب اليوم هو القدوة في التقدم والحضارة وأفحمه الأستاذ بقوله تقدموا -يا خالد- يوم أن كثر فينا أمثالك، الذين لا يتعبون أنفسهم بالجد والجهد، بل همهم الوحيد الراحة والمتعة، فسبقهم العالم وداسهم مشاة القافلة.

قرب الامتحان وكان قاب قوسين أو أدنى فسهر الطلاب ليلهم وراجعوا دروسهم ثم انتظموا في قاعة الامتحــان راهبين راغبين وانتظروا يوم الحصاد!

وكم كان دهشة الطـلاب والأساتذة عندما أعلنت نتيجة الامتحان ورسب خالد الطالب الذكي، وبقي سبب إخفاقه لغزًا مجهولًا، وفي المساء ذهب سالم إلى صديقه ليواسيه ويفرج عنه لهم والحزن، فسلم عليه ودخل غرفته، فوجد رائحة كريهة في الغرفة، ومد خالد إليه مقعدًا ليجلس عليه، ووقعت عينا سالم علـى مجموعة من الكتب ذات ألوان زاهية على المنضدة، وبجوارها مطفأة مملوءة ببقايا اللفائف!

فسأل خالدًا عن نوع هذه الكتب وموضوعاتها، فناوله واحدًا منها فإذا هو مجلة رائعة المنظر تحتوى على صور خليعة خارجية عن حدود الآداب والأخلاق فاشمأز سالم من رؤيتها وردها سريعًا إلى صديقه!

دق الجرس، فنهض خالد لاستقبال القادمين ودخل بعد برهة ضيفان وعرفهما خالد لسالم، كان أحدهما ابن تاجر مشهور في المدينة وكان الأخر طالبًا في جامعة لندن، أمعن سالم التأمل فيهما وأطال النظر إليهما حيث كانت صورة كل منهما تستدعي ذلك: صورة وجه يظهر بعضه ويختفي جله كالقمر الذي يحاول أن يظهر من بين السحب المحيطة به، لا يرى العنق من الشعر الطويل المسدل، قميص تحليه صور عجيبة، سروال على هيئة قمع مقلوب! يا لها من محاربة علانية للفطرة!

إنها «الموضة» المستوردة من الغرب! فقال سالم فـي نفسه لو كان داروين حيًا لما وسعه إلا أن يرجع عن نظريته ويقول «لم يتطور الإنسان عن القرد بل القردة تتطور عن الإنسان!»

أجلس خالد الضيفين بجواره فسأله أحدهما عن القصة التي قرأها في المجلة التي أهداها إليه، فقال خالد «إنها رائعة جدًا، وقد سهرت إلى الساعة الثانية صباحًا لإتمامها، وقد استولت على كياني وهزت مشاعري وقرأتها عدة مرات وأنهيت معها علبتين من اللفائف».

وتحدث طالب الجامعة عن رحلات غزو الفضاء، والعقل الصناعي وتناول بالسخرية والازدراء الدين ورجاله ونسب تأخر الأمة العربية إليه، وعندئذ هب سالم معترضًا، وقال لطالب الجامعة: فليعلم الأخ أن الدين لم يكن حجر عثرة في سبيل تقدم الإنسان بل هو الذي أخذ بيد البشرية إلى التقدم والرقي وأخرجها من الظلمات إلى النور، ويوم أن ابتعدنا عن الدين تخلفنا وأثر سالم أن يقف بالحديث مع طالب الجامعة إلى هذا الحد، حيث بدأ على وجهه عدم الاكتراث و إمارات الاستخفاف!

ودعا الضيفان خالدًا لمشاهدة «ليلة في باريس» تلك الليلة فقام سالم وعاد إلى البيت وقد أدرك سبب رسوب خالد وعرف نتيجة تلك الصداقة الراقية!                     

ولا زال الشاب المترنح أمام سالم عندما استيقظ من ذكرياته، فدنا منه، فأخذته حيرة، ولم يكد يصدق عينيه!

أنه خالد قد نقره الدخان، واذهب الحشيش لبه فحلق في عالـم الخيال والأوهام، ولا زالـت حلقات الدخان تكتب في الهواء قصة أمال، ثم تمحى!..

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

42

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

32

الثلاثاء 19-مايو-1970