العنوان في مواجهة استراتيجية الجدار الحديدي الصهيونية- الانتفاضة نموذجًا
الكاتب عبد الرحمن فرحانة
تاريخ النشر الثلاثاء 27-فبراير-2001
مشاهدات 10
نشر في العدد 1440
نشر في الصفحة 36
الثلاثاء 27-فبراير-2001
يمكن تطوير المقاومة بتفعيل مفردات القوة المتنوعة التي تمتلكها الأمة لتغيير الواقع بدل الاستسلام له.. ظاهرة صلاح الدين دلالة واضحة على ذلك
خلال انتفاضة الأقصى بلغ عدد المواجهات العسكرية ۲۷۰۰ عملية إضافة إلى ٧١ عملية استشهادية أو تفجير عن بعد.. إنها حرب حقيقية
استند المشروع الصهيوني في نشأته على استراتيجية الجدار الحديدي التي صاغها الصهيوني اليميني زئيف جابوتنسكي، واعتمدها- عمليًّا- الصهاينة العماليون، وعلى رأسهم ديفيد بن جوريون ومفاد هذه الاستراتيجية الاعتقاد أن هناك شعبًا في فلسطين لن يستجيب لمتطلبات المشروع الصهيوني بالاستيطان بفلسطين من خلال الحوار، وبالتالي فعلى اليهود أن يعتمدوا القوة في إحلال المادة البشرية الصهيونية على أرض فلسطين، وتنفيذ البرنامج الصهيوني من طرف واحد ومواجهة الطرف الآخر بالعنف. وتعتمد هذه الرؤية على تحقيق القوة الذاتية للكيان الصهيوني مرحليًّا للوصول إلى حالة بناء الجدار الحديدي الذي سيتحطم عليه قرن المقاومة العربي، وفي هذه الحالة تبرز مرحلة الحوار في ظل اختلال ميزان القوى لإرغام الطرف العربي على تقبل الشروط الصهيونية وهو ما يعبر عنه الواقع الحالي في ظل عملية التسوية.
ويندرج في السياق ذاته استراتيجية "الحزمة الواحدة" الداعية للجمع بين الردع النووي وعملية التسوية. وعراب هذه الاستراتيجية بيريز الذي يشرح مفهومه لها قائلًا: «علينا أن نرى في السلاح النووي.. وفي التسوية الحل الوسط للسلام مع جيراننا جملة واحدة، أو مجموعة واحدة يجب السعي نحوها والعمل من خلالها وبطبيعة الحال، فإن الميل نحو التسوية لم يتولد من قناعة ذاتية لدى الصهاينة وإنما استجابة للظروف الموضوعية التي مر- ولا يزال يمر بها المشروع الصهيوني ومنها تأكل الفكرة الصهيونية، وخفوت تألقها في الوسط اليهودي، والعجز عن تخطي العقدة الديمجرافية كمًّا ونوعًا في ظل إحصاءات تشير إلى أن عدد اليهود في فلسطين التاريخية يتوازى مع عدد الفلسطينيين (٤,٢) مليون نسمة لكل من الطرفي)، وفشل المشروع الصهيوني في تحويل الكيان الصهيوني إلى فرن صهر ثقافي لتشكيل الهوية اليهودية المتماسكة، وهو ما تعبر عنه اللوحة الفسيفسائية داخل الكيان الصهيوني على جميع الصعد الاجتماعية والسياسية والدينية، يضاف إلى ذلك الانكشاف الاستراتيجي العام وسط المحيط البشري العربي والإسلامي، رغم توافر القوة العسكرية المجردة، وهي مفردة واحدة من المفردات في معادلة القوة الشاملة، وهي غير كافية لحسم الصراع.
وإدراكًا لهذه الحقيقة الماثلة وفي ظل مرونة التشكل لدى الفكرة الصهيونية طرح الخبير الاستراتيجي الصهيوني هاركابي في سياق مكمل لاستراتيجية الجدار الحديدي نظرية الاختراق مبينًا أن التصادم بين المشروعين الإسلامي واليهودي ستسفر نتيجته عن تحقق الغلبة للطرف الآخر .. وفسر نظريته- الاختراق- بأن العربي يستفز حين المواجهة، ومن الصعب مواجهته ولكنه بطبيعته قابل للاختراق، وفي محضن هذه النظرية تولد مشروع التسوية ونموذجه الأول اتفاقية أوسلو باعتبار هاركابي مقربًا من حزب العمل وقادته السياسيين ويتناغم التلون الاستراتيجي الصهيوني الحالي استجابة لخطاب العولمة، وفي مناخه تحول الشعار الصهيوني من إسرائيل الكبرى جغرافيًّا» إلى إسرائيل الكبرى اقتصاديًّا، في إطار مشروع الشرق أوسطية.
مشروع المقاومة
أمام الصلابة الظاهرية للجدار الحديدي الصهيوني هل المقاومة تعتبر ظاهرة غير واقعية؟ وهل الاستسلام حتمية تاريخية كما يروج دعاة ثقافة السلام الذين طاطؤوا رؤوسهم لسقف الواقعية المزيف؟
إن منطق التاريخ وسنن الله في المجتمعات ينفيان ذلك!! فعلى صعيد السنن الإلهية تؤكد سنة المدافعة:
﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)﴾ (البَقَرَةِ :251 )
ضرورة التناقض وتصادم العناصر المتناقضة وتبادل منازلها في مستويات القوة، من حيث القوة والضعف والغلبة والهزيمة وفق سنة التداول المطردة التي يحكمها البعيد الغيبي، ومنظومة الأسباب،
﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140)
بمعنى أن هناك استحالة التسكين التاريخ عند حالة تاريخية معينة وبقاء
مستوى القوة ثابتًا لأي أمة.
وكذلك تؤكد حركة التاريخ قانون الصراع المتقلب بنتائجه، وتحول مستويات القوة من الأدنى إلى الأعلى وبالعكس، وعلى ضوء ذلك يمكن تطوير المقاومة بتفعيل مفردات القوة المتنوعة التي تمتلكها الأمة لتغيير الواقع لا الاستسلام له بحجة الواقعية وظاهرة صلاح الدين الأيوبي دلالة تاريخية واضحة على ذلك.. إذ استطاع أن يؤسس لمشروع المقاومة ضد الوجود الصليبي، وظل مشروعه يتطور حتى تحول إلى جهاد شامل مع الصليبيين أسفر عن رحيل آخر جندي صليبي زمن المماليك.
ثقب في الجدار الصهيوني
يقول شلومو بن عامي وزير الداخلية والخارجية في حكومة باراك السابقة: إنهم وقعوا في خطأ كبير حينما انسحبوا من جنوب لبنان من طرف واحد، ذلك أنهم قدموا الاجتماعي، على الاستراتيجي»، مشيرًا لرضوخ الحكومة الصهيونية لضغط الحراك الاجتماعي ضد بقاء الجيش في لبنان، وعلى رأس ذلك حركة الأمهات الأربع، الداعية لانسحاب الجنود الصهاينة من جنوب لبنان، وقد بدأت المجموعة نفسها بالمطالبة بانسحاب الجيش الصهيوني من الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبن عامي محق في مقولته لأن ضربات المقاومة اللبنانية، وانسحاب الجيش الصهيوني أثبت جدوى المقاومة وأبدى فشل الشعار الآخر المقابل القائل إن «السلام هو الخيار الاستراتيجي».
وهي إشارة التقطها الفلسطينيون، حيث فهموا الدرس اللبناني جيدًا وحولوه إلى صيغة مقاومة ولكن بنكهة فلسطينية أشد إيلامًا للكيان الصهيوني بسبب التصاقهم وتداخلهم الجغرافي به وعوامل أخرى لا مجال لذكرها الآن، وترجمة لهذا المعنى يقول الشيخ أحمد ياسين في تأبين الشهيد حامد أبو حجلة منفذ عملية نتانيا كل الخيارات سقطت ولم يعد لها وجود وإن خيارات التسوية ذهبت إلى غير رجعة، في ظل تمسك شعبنا بتحقيق أهدافه بالجهاد.. إنه الخيار الوحيد الذي أثبت نجاحه في العالم وما جنوب لبنان عنا ببعيد.
الانتفاضة.. إنجازات: ربما تعتبر الانتفاضة الحالية في فلسطين من أعقد حالات المقاومة الفلسطينية التي واجهها المشروع الصهيوني على مر تاريخه.. بسبب أن الانتفاضة الحالية مزيج من المقاومة الشعبية والفصائلية المسلحة، وبسبب تردد الصهاينة ما بين الخيار العسكري القاضي باجتياح مناطق السلطة الفلسطينية- حقل الشوك. وما بين رغبتهم في بقاء السلطة لأنها الشريك الأمثل في عملية التسوية ولحاجتهم لخدماتها الأمنية.
وفي ظل هذا التعقيد تحقق الانتفاضة إنجازات استراتيجية لا يمكن إغفالها منها:
تحقيق مبدأ توازن الرعب بين الفلسطينيين واليهود.. وقد تمكن الاستشهاديون من ضرب نقاط العمق الصهيوني موقعين إصابات فادحة على المستويات البشرية والاقتصادية والنفسية ففي عملية واحدة مثل الخضيرة ذكر بعض المصادر الصهيونية أن عدد القتلى بلغ ٤٠ قتيلًا.
مع تدمير عشرات السيارات والمحال التجارية وذكرت إحصائية صهيونية أن عدد الاشتباكات والمواجهات العسكرية خلال الانتفاضة الحالية بلغ (۲۷۰۰) عملية، بالإضافة إلى (۷۱) انفجارًا تم تفجيرها عن بعد أو بواسطة الاستشهاديين.
فقدان الأمن الشخصي لدى المواطن الصهيوني، ففي أحد الاستطلاعات ورد أن أكثر من 80% من الصهاينة لا يحسون بالأمن الشخصي، حتى في مدن العمق الصهيوني، وفي السياق نفسه ذكرت مصادر صحفية صهيونية أن شركة "ايجد" وهي أكبر شركة للباصات أوقفت 35% من باصاتها نظرًا لعزوف الركاب عنها خوفًا من العمليات الجهادية، كذلك يعزف أكثر من 50% من اليهود عن ارتياد الأماكن العامة للسبب نفسه، ومثال على ذلك تقول «أمونا هليل» للتلفاز الصهيوني في برنامج إخباري وهي من سكان قرية «رنوت التي يسكنها كبار الضباط... تقول أمونا: «إنها تراجعت عن حضور فيلم السينما الذي تعكف على مشاهدته في مدينة اللد مساء عطلة نهاية الأسبوع لأنها تخاف أن تتعرض للهجمات مصدر صهيوني آخر ذكر أن 40% يعانون إما من أزمات نفسية أو أمراض نفسية بسبب أجواء الانتفاضة.
بل إن كثيرًا من المحلات التجارية التي تقع على أطراف القدس تغلق أبوابها مع الرابعة عصرًا ليتمكن أصحابها من العودة إلى القدس عبر الخطوط الالتفافية قبل غروب الشمس خوفًا من الهجمات حسب تقرير بثته القناة الأولى للتلفاز الصهيوني، وفي هذا الخصوص يقول صهيوني اسمه شمعون طبراء من سكان مستعمرة موعين الواقعة إلى الغرب من القدس إنه أصبح مضطرًا لإغلاق حانوته في القدس في الرابعة مساء لكي يستطيع العودة إلى بيته قبل حلول الظلام، ويعلق طبرا على هذه الحالة قائلًا: هل يوجد جيش وحكومة في العالم لا يستطيعان توفير الحماية لسكان عاصمة دولتهم، أما الصهيوني بنحاس ماياء أحد تجار تل أبيب الذي ينتقل بينها وبين القدس بشكل يومي لمتابعة تجارته فيقول في تقرير إخباري للتلفاز الصهيوني أيضًا: الحياة أغلى من أي شيء آخر، لا أريد الموت. سأحاول أن أنقل أعمالي إلى مدينة أخرى غير القدس.
تحقق الانتفاضة الحالية تطورًا نوعيًّا في أساليب المقاومة المسلحة والمصادر الاستخبارية الصهيونية تؤكد أن هناك تقدمًا ملحوظًا في دقة التصويب لدى القناصة الفلسطينيين والتقدم نفسه طرأ على استخدام المتفجرات عن بعد باستخدام الهاتف النقال، ومن المنتظر أن تتقدم الأساليب بشكل مطرد نظرًا لمتطلبات أعمال المقاومة.
بدائل اقتصادية
وفي ظل الظروف الحالية ومع توقف عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين من العمل في المصانع الصهيونية، وكلما امتد عمر الانتفاضة فإن الحاجة تقتضي إيجاد بدائل اقتصادية محلية. ومع نمو هذه البدائل وتطويرها من الممكن تحقيق نواة الاستقلال للاقتصاد الفلسطيني.
المقاومة وفاعليات الانتفاضة حيدت خاصية التفوق النوعي التي يتمتع بها الكيان الصهيوني وفي هذا الإطار، فإن الاستشهادي يستطيع التسلل الضرب مدن العمق الصهيوني ويعود سالمًا دون أن يتمكن الصهاينة من إيقافه بالتهم العسكرية المتقدمة.
فقدان الأمل لدى المشروع الصهيوني بإمكان البقاء في المنطقة في ظل حجم العداء الذين أفرزته الهبة الجماهيرية العربية والإسلامية لدرجة أن بعض مفكريهم قالوا: لا أمل لنا للعيش بسلام في وسط هذا المحيط البشري المعادي.. بل أشار كثير منهم لحالة الإرهاب النفسي التي تصيبهم عندما يرون الموجات البشرية العارمة من المصلين الذين يهتفون ضد اليهود بعد خروجهم من صلاة الجمعة.
كرست الانتفاضة العقدة الديمغرافية للمشروع الصهيوني، وألهبت المخاوف من حجم الوجود السكاني الفلسطيني الرافض للسيطرة الصهيونية ومدى تأثير التحولات التي تجري في المجتمع الفلسطيني في ظل الإحصائيات التي تشير إلى أن الفلسطينيين يتعادلون مع اليهود بالعدد السكاني حاليًّا في فلسطين التاريخية وسيشكلون عام ٢٠٤٥م 75% من عدد السكان بينما ستصل نسبة اليهود إلى 25% فقط.
الانتفاضة عززت خيار المقاومة وجدوى ممارسته وأدت إلى تألق مصطلح الجهاد في الساحة العربية والإسلامية، وأزاحت التشويهات التي لحقت بهذا المصطلح كدعوى الإرهاب وغيرها من الأسماء الزائفة، ويؤكد هذه الروح صيحات المواطنين في جميع بقاع العالم الإسلامي في المظاهرات وعبر الفضائيات الداعية للجهاد والمقاومة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل