العنوان الحقيقة (قصة الأسبوع)
الكاتب عبد العزيز عطايا
تاريخ النشر الجمعة 18-أغسطس-1978
مشاهدات 16
نشر في العدد 408
نشر في الصفحة 36
الجمعة 18-أغسطس-1978
* منطقة الروضة، من أرقى المناطق الكويتية، وأكثرها نطقًا بالتطور والمدنية، شوارعها الواسعة المنسقة المنظمة من علامات التقدم الحضاري والمهندس حسن حمود نموذج للإنسان المتعلم المثقف الحاصل على درجة علمية عالية من أمريكا، وهو أحد سكان منطقة الروضة وأصبح من سكانها البارزين بعد فترة قصيرة من وصوله من الخارج.
بنى له بيتًا وحديقة، وصنع لهما سورًا لا يعلو فوق قامة الإنسان، جاء السور كإطار جميل، وجزء من التكوين الرائع للبيت والحديقة. كل شيء مصنوع بغرض وهدف، وغالبًا ما يكون هذا الغرض هو الشكل الجمالي لبيت الأسرة السعيدة المكونة منه ومن زوجته وابنه وابنته وطفلته الصغيرة. ابنه البكر لا يتجاوز عمره سبعة عشر عامًا، وهو شاب في المرحلة الثانوية، وهو تائه في المنطقة ضائع في فراغ، منذ أتت إجازة الصيف الأيام لا طعم لها ولا رائحة وأبوه مشغول عنه بعمله في إحدى الشركات الكبرى، وأمه لا تجد ما تقدمه له غير النقود، لم تعد تقدم له النصيحة لأنها صارت كلامًا قديمًا فقد بريقه، ثم إن الابن لم يعد صغيرًا فضلًا عن إخوته وهم ابنة وطفلة وجنين في الطريق، هؤلاء يأخذون وقتها كله، ولا يتركونها تفكر في الابن الكبير، غير أنها التفتت إليه بذهنها أخيرًا حين لمحت شيئًا غريبًا على وجهه، سحابة تغشاه، من أين تكونت؟ إن السحب تتكون من بخار الماء، هل صعدت من أعماقه أشياء غطت وجهه؟
قالت لزوجها المهندس الجالس تحت شجرة في الحديقة:
- حسن... اترك الصحيفة الآن.
طوى الصحيفة ورماها في مقعد قريب، فقالت:
- ابنك محمود... يبدو حزينًا دائمًا.
قال بلهجة كارهة للكلام:
- وماذا أفعل له؟
- نوع من الكآبة يلازمه.
- نوع من الفراغ... اقترحت عليه أن يقوم برحلات... أن يشترك في النادي... أن يذهب إلى أي مكان مثل الشباب... ولكنه رفض.
- ربما لم يجد في كل هذا ما يغري.
- هل مطلوب مني أن أحل له مشاكله؟
- أنت أبوه... لا تنس ذلك.
وقف قائلًا:
- لا تنسي أنتِ الزيارة التي اتفقنا عليها... هيا بنا نتحدث في الطريق.
خرجت معه تمشي على مهل وكأنها تلمس الأرض بقدميها خوفًا على حملها، لقد تكورت بطنها وبدت واضحة من بعيد، انطلقت بهما السيارة مسرعة فقالت وهي خائفة من الحركة المضطربة:
- لا تسرع... لا تنس من في بطني.
سأل بدهشة:
- ما حكايتك اليوم؟... كررت كلمة لا تنس أكثر من مرة.
- أنت كثير النسيان... بدليل أنك انصرفت عن ابنك حمود تمامًا... وصار الولد يشعر بالوحدة والإهمال.
- عملي يستغرق كل وقتي... ثم إنه لا يسمع كلامي...
تحدثا طول الطريق، في أثناء الذهاب والإياب، وعادا بعد صلاة العشاء، وسأل الأب المهندس خادمه الهندي عن ابنه، فأخبره أنه لم يأت بعد. خرج الرجل يسير في طرقات خالية حول البيت، ذهب يبحث عنه لعله يراه مع أصدقائه، كانت الطرقات هادئة صامتة مضاءة بمصابيح جعلت الصمت والهدوء أكثر عمقًا، تمنى الرجل أن يسير هكذا مدة طويلة. اكتشف نعمة السير على الأقدام في جو يخيم عليه السكون والاطمئنان ساقته قدماه إلى الطريق العريض الذي تتفرع منه كل الطرقات: لم يشعر برغبة في العودة، فظل يسير بهذه الخطوات المنتظمة وهو يفكر أول مرة في ابنه كما ينبغي أن يفكر الأب، وقرر أن يضع ابنه تحت مجهر بصره ورعايته واعترف أن زوجته كانت على حق حين طلبت منه اليوم أن ينتبه إلى أنه أب. وتساءل أين يجد هذا الولد؟
في الطريق العام؟ قرب الميدان؟ التقى أصدقاء ابنه، فسأله عنه قال الشاب:
- كان يخرج معنا أحيانًا... وكان يحبس نفسه في البيت أحيانًا أخرى، والليلة لمحته يدخل مسجد جمعية الإصلاح الاجتماعي.
- أتعتقد أنه هناك؟
- إذا لم يكن قد خرج.
- ولكن صلاة العشاء انتهت من مدة... وأذكر أن ابني لا يصلي.
- لا أعرف... حكيت لك ما رأيت، أتحب أن أبحث لك عنه داخل مبنى الجمعية؟
- لا... أشكرك... أنا ذاهب إلى هناك بنفسي... ها هو مبنى الجمعية قريب مني.
وعرج الرجل نحو المبنى المعروف في منطقة الروضة، دخل يطل برأسه ويرسل بصره إلى أرجاء الفناء مع أنه من سكان المنطقة، إلا أنه يجهل مكان المسجد، تقدم بضع خطوات داخل الفناء الواسع، فوجد نفسه أمام مركز الشباب، ذهب إليه بخطوات بطيئة، رأى الملعب يموج بأجسام تقفز هنا وهناك. اتجه إلى شاب واقف كمتفرج، وإن كان يرتدي ملابس اللاعبين، سأله هل يعرف حمود حسن؟ فهز رأسه بالنفي، وأشار إلى مبنى المركز، وأخبره أنه المبنى الذي يوجد فيه كل الشباب.
أدار وجهه إلى باب المبنى الزجاجي لمح شخصًا واقفًا خلفه يشبه ابنه، أسرع إليه قبل أن يختفي الشاب، فقد بدأ يتحرك نحو الداخل مع شخص آخر، دفع الباب بيده ودلف إلى الممر سمع صوتًا يقول:
-حمود- انظر-
التفت حمود وهتف:
- أبي... أتبحث عني؟
دنا منه الأب قائلًا:
- نعم... لم لا تخبرنا أنك هنا؟
- أحدث شيء؟
- تعال معي... أريدك.
ونظر إلى صديقه وقال:
- بعد إذنك يا بني.
وخرج المهندس وابنه إلى الطريق وراح حمود يبحث عن سيارة أبيه، فلم يجدها، قال باستغراب:
- جئت بدون سيارة؟
- في الحقيقة المشي أعجبني.
- ولكن لماذا تبحث عني؟... أتريد شيئًا حقًا؟
- نعم... أخبرتني أمك أنك تشكو ضجرًا.
- أنا أشكو لها... مم؟
- شكوت بصمت... بحزن... شيء من هذا.
- أنت تعرف يا أبي أن الإجازة طويلة مميتة.
- صحيح... ولكني نصحتك بالسفر... بالذهاب إلى أي مكان.
- وقد ذهبت... وليس إلى أي مكان... وبدون سفر فهو مكان قريب... وجدت فيه جماعة من الشباب من خيرة المسلمين.
- تقصد شباب المركز.
- لا أسمع هناك لغوًا... ولا أجد هناك فراغًا ...
- أصليت معهم العشاء؟
- نعم... وأقسمت أن أصلي معهم دائمًا.
- على أي حال يا بني هذا شيء لا أكرهه.
- بل يجب يا أبي أن تحبه.
يسيران تحت مصباح يغمر الطريق، أحدق الأب في وجه ابنه وهما يسيران تحت مصباح يغمر الطريق بنور عميق، فلم ير أثرًا للكآبة التي حدثته عنها زوجته، وجه الشاب يفيض بحيوية أكدت أن الليلة مباركة قضاها الشاب في عبادة انعكس نورها على وجه الابن. عاد الأب ينظر أمامه وهو يتساءل: هل ملأ الولد فراغه؟ وهل الرجوع إلى الدين هو السبيل السليم الذي يخلق الحياة الطيبة؟
قال حمود لأبيه وقد اقتربا من الدار:
- فيم تفكر يا أبي؟... نظرت إلى وجهي ثم سرحت ...
- خير ما فعلت يا بني... ذهابك إلى المسجد والمركز حل المشكلة كنت سأعجز عن حلها.
ودخل الأب وتبعه الابن الذي استمر في سيره حتى اختفى في الداخل، وجنح الأب نحو مقعده تحت الشجرة، لم يكد يجلس وحده حتى وقع بصره على الصحيفة ملقاة على الأرض، تذكر أنه رماها على مقعد، أتكون وقعت من فعل الهواء، هواء هذه الليلة بخيل، مال فوق الصحيفة وحملها إليه وراح يقرأ. ومن غريب المواقف أن يقرأ عن انحراف الشباب!
تمت
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل