العنوان كلهم.. يهوذا
الكاتب محمد عبد الله السمان
تاريخ النشر الثلاثاء 24-أغسطس-1982
مشاهدات 11
نشر في العدد 584
نشر في الصفحة 20
الثلاثاء 24-أغسطس-1982
- لنكن صرحاء مع أنفسنا:
هذه مجرد أمنية، أن نكون صرحاء مع أنفسنا، أمنية تحقيقها صعب، ومنالها عسير، لأن تحقيقها ومنالها يتطلب في المقام الأول، أن تكون لنا ألسنة تتكلم، وأقلام تتحرك بحرية مطلقة، تصرخ في وجه الخائن قائلة: هذا خائن فانبذوه، مع أن مجرد نبذ الخائن أخف عقوبة تليق به، وتوقع عليه، وبخاصته إذا كان هذا الخائن خائنًا لدينه ووطنه وأمته؛ حيث إن عقوبته معروفة حتى للعوام من المسلمين؛ لأنها بنص الكتاب والسنة...
وشيء طبيعي ألا يجرؤ إنسان على اتهام الخائن من أبناء وطنه؛ لأن الديكتاتورية الوقحة التي فرضها على الشعب، جعلت الشعب لا يقوى على الهمس بالاتهام فضلًا عن التصريح به، ولكن الشيء غير الطبيعي أن تتعهد بعض الأنظمة العربية ليس بمجرد معوناتها المادية والأدبية للخونة؛ حتى الذين يجاهرون منهم بخياناتهم، بل يفرض رقابات على الصحف المحلية حتى لا تمس من قريب أو بعيد هؤلاء الخونة.
وابتسم السياسي المحنك المعتزل والذي ناهز الثمانين من عمره، وقال: كل ما قلته صحيح، ولكن يجب أن تدرك -وأظنك مدركًا- أن سائر الأنظمة العربية اليوم أبوابها من زجاج، وأن الأنظمة التي تحمي الخونة من حرية الرأي في بلادها، إنما هي في الحقيقة تحمي نفسها، وإذا كان يهوذا رمزا للخيانة، فكلهم يهوذا!!!
- الخيانة السافرة.. والخيانة المستترة:
إن الخيانة المستترة هي التي أضاعت فلسطين منذ أربعة وثلاثين عامًا، والخيانة السافرة في الآونة الأخيرة هي التي مكنت لإسرائيل في الأرض غير قانعة بأرض فلسطين؛ بل تجاوزتها إلى أراضي مصرية وسورية ولبنانية، أجل الخيانة المستترة عام 1948م هي التي أضاعت فلسطين العربية، فالجيوش العربية التي اشتركت في المعركة اشتركت بناءً على توجيه الاستعمار الذي كان حريصًا على أن يضرب عصفورين بحجر واحد، ففي ظل الأحكام العرفية يمكن لهذه الدول أن تتخلص من الحركات المعارضة اليمينية الممثلة في حركة الإخوان المسلمين، واليسارية الممثلة في الحركة الشيوعية، ثم أن اشتراك الجيوش العربية مع اليهود في الحرب يجعل الحرب حربًا رسمية شاملًا وموضوعًا، تعترف المنظمة الدولية بنتائجها، لذلك سارعت الدول بالاعتراف بقيام إسرائيل بمجرد أن كسبت المعركة، وقد تنبه إلى هذه المؤامرة التي خطط لها الاستعمار وقبلتها الأنظمة العربية مرغمة كل من الإمام الشهيد حسن البنا، ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، ثم الدكتور عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية يومئذ، وقد سمعت بنفسي هذا من الراحلين الأخيرين، كان من رأيهم ألا تدخل الجيوش العربية الرسمية فلسطين، ويكتفي بإرسال المتطوعين وإمدادهم بالسلاح..
أما الخيانة السافرة التي مكنت لإسرائيل في الأرض فشواهدها أكثر من أن تحصى، وإذا كانت الخيانة المستترة -فيما مضى- تتمتع بقدر من الخوف من الشعوب ولا نقول من الحياء، فإن الخيانة السافرة في الآونة الأخيرة على جانب كبير من الصفاقة والوقاحة، لا تتمتع بأدني قدر من الخوف؛ لأنها -ممثلة في أنظمتها- تملك الشعوب، وتملك الأداة التي ترهب بها هذه الشعوب إذا حاولت أن تتحرك، تملك إلى جانب الجيوش أجهزة الأمن والمخابرات التي تعمل على وقاية النظام الحاكم أيًّا كان شكله، تابعًا لواشنطن أم تابعًا لموسكو، ثم أن الأسلحة التي تدفع فيها عشرات المليارات من الدولارات، هي في الواقع ليست من أجل فلسطين -وبائعو السلاح يدركون ذلك- وإنما من أجل حماية الأكاسرة والأباطرة والفراعنة، وهبل، واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسرا....
- فلسطين... والصراع:
مأساة فلسطين منذ معركة 1918 م تحولت لدى سائر الأنظمة العربية بلا استثناء إلى قميص عثمان، وأصبحت سوقًا للمتاجرة بالشعارات، هذا في دائرة ظواهر الأمور، أما دائرة بواطن الأمور، فإن القضية الفلسطينية تمثل أزمة نفسية معقدة لدى هذه الأنظمة العربية؛ بل بمثابة صراع يرهق أعصابها، وينغص عليها حياة البذخ والترف التي تعيشها، لذلك فهي تنتظر على مضض الساعة التي تتخلص أدمغتها من هذا الصراع، وسيان أن يكون الخلاص على يد أمريكا أو على يد آل صهيون أنفسهم... وهذه هي الحقيقة، وإن كانت مرة بالغة المرارة إلا أنها حقيقة وكفى وربما نتهم بأننا خياليون أو متوهمون، والاتهام يصبح أمرًا بديهيًا ما دمنا نعري هذه الحقيقة..
وما حدث ويحدث في لبنان أمر لا يثير الدهشة، فإن الموقف السلبي المشين الذي تقفه الأنظمة العربية، وكأن الجريمة لا تعنيها في قليل أو كثير يؤكد أن هذه الأنظمة العربية جادة في التخلص نهائيًّا من صراع القضية الفلسطينية، على الأقل عن طريق موقفها السلبي التي تحاول -واهمة- أن تداريه بالجعجعة، والبيانات والتصريحات والإعلان عن عقد المؤتمرات...
واضح أن غزو إسرائيل للبنان يمثل الحلقة الثالثة في المؤامرة، كانت «كامب ديفيد» هي الحلقة الأولى، فالجزء المنزوع من السلاح في سيناء، ووجود القوات الدولية في هذه المنطقة إنما يمثل حزام ووقاية لإسرائيل في الحدود المصرية، والمعاهدة نفسها ضمان لإسرائيل من أن الدولة العربية التي تملك أكبر قوة لن تفكر في الحرب معها مرة أخرى، وكانت الحلقة الثانية في المؤامرة ضم الجولان، بمثابة حزام أمن لإسرائيل من ناحية جارتها سوريا، أما الحلقة الثالثة في المؤامرة -وليست الأخيرة- فهي غزو لبنان، ويكفي إسرائيل أن تفرض منطقة منزوعة السلاح في الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وتأمن بذلك تهديدات المقاومة الفلسطينية.
وصحيح أن أمريكا قد لعبت الدور الرئيس، مخابراتها المركزية خططت للاعتداء على سفير إسرائيل في لندن، لتمنح إسرائيل مبررًا لغزو لبنان، وأمريكا هي التي أوزعت لبريطانيا بإطالة المعركة مع الأرجنتين حتى تنهي إسرائيل مهمتها في لبنان، ولم يكن مفاجأة أن تنتهي المعركة في جنوبي الأطلسي بعد ساعات معدودة من انتهاء مهمة إسرائيل في لبنان.
وصحيح أن حزب الكتائب المسيحي له ضلع في المؤامرة الإسرائيلية؛ حيث اشتركت قواتها مع القوات الإسرائيلية في تدمير مراكز المقاومة، ولكن يجب أن نصارح أنفسنا بأن دور بعض الأنظمة العربية في الخيانة لا يقل شأنًا عن دوري أمريكا والكتائب في المؤامرة.
لم يسدل الستار بعد، فالجريمة لم تتم فصولها بعد، فالممثلون ما يزالون خلف الكواليس لتمثيل بقية الأدوار، والمشاهدون العرب ما يزالون جالسين على كراسيهم في استرخاء يدخنون التبغ، ويتعاطون المخدرات، ويتجرعون المسكرات، ويتبادلون الاتهامات بالخيانة، ويتراشقون بالحجارة، ويتناسون -في غباء- أن الجريمة حين تتم فصولها، ستكون نهايتهم هي البداية، ولن تنفعهم أمريكا ولا روسيا.. البداية لفجر جديد يشكله الإسلام بلا مؤامرات، والعروبة بلا خيانات، وسوف يختفي إن شاء الله اسم يهوذا إلى الأبد....
وما ذلك على الله ببعيد!!
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل