العنوان للأجهزة القمعية في العصر الحديث بداية
الكاتب د. توفيق الواعي
تاريخ النشر الثلاثاء 26-سبتمبر-1995
مشاهدات 32
نشر في العدد 1168
نشر في الصفحة 37
الثلاثاء 26-سبتمبر-1995
مما هو معروف أن الجمعيات الوطنية وُجدت لمقاومة المحتل والخلاص من الاستعمار والاستعباد ومقاومة الكبت، كما أنها قامت لتطالب بحقوق الإنسان وإفساح المجال للحريات الشخصية والسياسية والعدالة وتنفيذ القانون، فإذا تحقق لها ذلك سواء كان أيام الاحتلال أو بعده بطل قيام هذه الجمعيات ولم يعد لها وجود، وانخرط أصحابها في العمل الوطني مع الشعب وقادته، وتحولت تلك الجمعيات إلى أحزاب تنظر أفضل البرامج الإصلاحية التي ترفع من مستوى الأمة وتحقق لها الأمن والرخاء والسلامة، إذن فهناك علاقة بين الجمعيات الوطنية، وبين الفساد والكبت وضياع العدالة والقانون، فحينما يوجد الثاني وهو الفساد وتوابعه، يوجد الأول وهو الجمعيات الوطنية، ويوجد ما يسمى بالكفاح الوطني ضد الفساد حتى تزول أسبابه وهذه سنة الله في الأرض وقانون من قوانين الصراع في الحياة، ﴿كَذَلِكَ یَضرِبُ ٱللَّهُ ٱلحَقَّ وَٱلبَـٰطِل فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَیَذهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا یَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَیَمكُثُ فِی ٱلأَرۡضِۚ كَذَلِكَ یَضرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمثَالَ﴾ (الرعد: 18).
ولكل من الباطل والحق أسلحته، وكان وما زال من أسلحة الباطل في مقاومة الجمعيات الوطنية التي برزت في العصر الحديث أمور منها القوانين الاستثنائية، والأجهزة القمعية والمحاكم العسكرية، والأحكام العرفية التي يتمكن بها الطاغية أو المستعمر من أن يفعل ما يريد بغير رقيب أو حسيب وتاريخ تلك الأجهزة القمعية بدأ مع بداية تلك الجمعيات الوطنية. فبعد أن ثبت أن قاتل بطرس غالي باشا - رئيس وزراء مصر - عضو في جمعية وطنية تبلورت عند المستعمر وأذنابه أفكار لإنشاء أجهزة لمقاومة المنظمات الوطنية، ولما كان قانون العقوبات المصري لا يتضمن مواد يعاقب بموجبها كل من ينضم إلى جمعية وطنية من هذه الجمعيات تنص قوانينها على محاربة الاستعمار والاضطهاد والفساد، فقد صدر القانون رقم ۲۸ لسنة ۱۹۱۰م الذي أضاف إلى قانون العقوبات المصري المادة ٤٧ مكرر لتجريم تلك الجمعيات وعقوبة الأشخاص المنضمين إليها، وقد أعطى هذا القانون للسلطات سلاحًا تشهره ضد العناصر الوطنية، حيث لم يعد الوطني الثائر الذي يمسك سلاحًا هو المجرم فقط، بل أصبح الإجرام يمتد إلى المشاركين في الجمعيات الوطنية والأصدقاء، ومن تريد السلطة إلحاقهم به، وقد كان وراء هذا القانون المعتمد البريطاني في مصر «الدون جورست»، ثم أتبع ذلك بإنشاء «جهاز المقاومة السرية» و«الخدمة السرية»، وقد صرح المعتمد البريطاني بمهام مكتب الخدمة السرية هذا فقال: أردنا إنشاء مكتب الخدمة السرية في مصر ليخدم أهداف بريطانيا في مصر، ويحقق الأمان للسراى «يعني الملك»، وللدوائر التي تخدمنا سواء كانت حكومية أو حزبية، وصدر الأمر إلى نظارة الداخلية «وزارة الداخلية» وعلى رأسها «Hervy باشا» بمباشرة العمل ليقوم المكتب بصفة خاصة بجمع المعلومات عن الجمعيات الوطنية التي سميت سرية، ومراقبتها ومراقبة أشخاصها وكتابة تقارير يومية عن أفرادها وعن مدى خطورة هذه الجمعيات، ولكن ما هي المبادئ المتطرفة التي يجب أن تلاحظ عند كتابة التقارير من مكتب الخدمة السرية؟ نجدها في تقرير تلك الأنظمة القعمية التي على أساسها يُراقَب الناس ويصنَّفون:
أول هذه المبادئ التمسك بالوطنية والتعصب لها.
ثانيًا: المطالبة بالديمقراطية.
ثالثًا: معاداة القمع الحكومي واعتباره عملًا غير مشروع.
رابعًا: استنكار الاعتقالات والسجن دون تحقيق.
خامسًا: محاولة التمسك بالقانون وكشف التعديات للمستعمر وأذنابه وكشف مساوئ الحكم.
سادسًا: معاداة الاحتلال.
سابعًا: الحديث عن أبطال الشعب وقادته وزعمائه أو الاحتفال بذكراهم.
ثامنًا: الاتصال بعلماء الأزهر الوطنيين من أمثال الشيخ عبد العزيز جاويش أو غيره خوفًا من بعث الروح الإسلامية.
والشيء الذي يلفت النظر من دراسة وثائق هذه الفترة، أن هناك عدة حقائق يجب الالتفات إليها:
أولها: أن هذه المبادئ التي كانت تعتبر الإنسان متطرقًا هي إلى الآن تعتبر مصدرًا للتطرف.
ثانيها: أن رئاسة هذه الأنظمة القمعية كانت بيد الإنجليز المستعمرين وعملائهم، حتى كانت تقارير مكتب الخدمة السرية ترسل مباشرة إلى دار المعتمد البريطاني، ثم المندوب السامي البريطاني الذى كان يرسلها بدوره إلى لندن، رغم أن مكتب الخدمة السرية والأجهزة المماثلة كانت تابعة لوزارة الداخلية المصرية، ولكن وزارة الداخلية أو حتى السراي الملكي ما كانت تعلم عنها شيئا، وأمور المصريين في الرضا والغضب والوطنية والخيانة الوطنية وتصريف الأمور كان بأيد خارجية تدير الحكم من وراء الستار وكثرت الأنظمة والاستخبارات التجسسية والقمعية في مصر في ذلك الوقت. واستمرت بأسماء مختلفة ومتعددة منها البوليس السياسي «الفرقة ب» المباحث السياسية المخابرات العامة، وكانت كل هذه الأجهزة تبحث عن الخونة وعن حثالة السياسيين الذين خرجوا من المعتقلات والسجون تائبين عن الوطنية، وكانت هذه الأجهزة تستعملهم جواسيس على إخوانهم داخل السجون، وقد ضمنوا ولاءهم بعد الخروج واستعملوهم في الانغماس مع الوطنيين واختراق صفوفهم، هذا مع تجنيد ضعاف النفوس بالترغيب والترهيب، حتى كان يخيل لك أن الأرض قد زرعت جواسيس للسلطة، وحتى ترى وتسمع عن تجار الظلام كيف يستدرجون الأبرياء إلى الدواهي، يكتبون عنهم أو يلفقون لهم ليجدوا أنفسهم في النهاية أمام البوليس السياسي وجهًا لوجه، والبوليس السياسي لديه تهم جاهزة، وجرائم تفصيل على المقاس إرضاء للسادية التي تتمتع بها أعداد كبيرة من هذه العناصر، ورغم ذلك اشتدت المقاومة المصرية فأعلن جون مكسويل قائد جيوش الاحتلال في مصر الأحكام العرفية، فازدادت المقاومة فأعلنت الحكومة البريطانية خلع خديوي مصر عباس حليم الثاني، لأنه كان يلاين المصريين في نوفمبر ١٩١٤م ثم أجرى بعد ذلك مسح عام للمواطنين الوطنيين وألقيت في السجون بغير محاكمات حتى ازدحمت كل سجون مصر بأعداد كبيرة من الطلبة وزعماء الكفاح، ثم فُصلت أعداد أخرى، ورغم ذلك ازداد الهياج على السلطة وظهر السخط والأعمال العدائية ضد الإنجليز وضد الخديوي «حسين كامل» الذي عينته الإنجليز بدلًا من «عباس حليم» في العرش وجرت أكثر من محاولة لقتله منها محاولة 1915م بواسطة محمد خليل تاجر خردوات بالمنصورة إذ أطلق عليه النار فأخطأه، ثم كانت محاولة أخرى بالإسكندرية حيث ألقيت عليه قنبلة فلم تصبه، ثم ازداد القتل في الإنجليز حيث ما كان يمر يوم إلا ويوجد جثث لجنود الإنجليز مبعثرة في الشوارع والطرقات.
ومن هذا يتبين أن أجهزة القمع والمباحث والمخابرات عتيقة في مصر، وهي ذات تاريخ طويل وجهاد مرير مع الجمعيات الوطنية ومع الكفاح الوطني، فهل نستطيع أن نستبدل بهذه الحقب المظلمة حقبًا أخرى مشرقة؟ كما يتبين لنا أن الأجهزة القمعية لا تزيد الطين إلا بلة، فهل تستعمل لغة الحوار حتى تمنع الطوفان؟ نسأل الله ذلك.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل