العنوان قصة قصيرة: متي تعودون
الكاتب شريف قاسم
تاريخ النشر السبت 24-أبريل-2004
مشاهدات 16
نشر في العدد 1598
نشر في الصفحة 52
السبت 24-أبريل-2004
أدت «مؤمنة» صلاة الفجر في غرفتها واستغرقت في تلاوة جزء من القرآن الكريم كعادتها كل صباح، وقبل أن تقوم بمتابعة دراستها لمنهج السنة الرابعة في كلية الشريعة رفعت يديها إلى ربها تسأله التوفيق والستر لها ولوالديها وأخواتها وإخوتها، وخصت منهم بالذكر خالدًا، الذي شرد أو كاد عن محيط الإيمان الذي حافظت عليه الأسرة طيلة حياتها وراحت تتضرع إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل شباب خالد وحيويته المتدفقة ونشاطه الدؤوب في طاعة الله تبارك وتعالى.
بينما كانت «الوالدة» تجهز ملابس خالد وحاجاته استعدادًا للسفر غدًا في زيارة إلى روسيا، وسمعت مؤمنة ما يدور بينهما من أحاديث لم تعرها كثير اهتمام فهي تعرف منحي حديث خالد، منذ عشر سنوات حين تخرج في الجامعة، وصار أستاذًا مرموقًا في مدارس مدينته، ويحمل عبء اتجاه سياسي أغنى الله بقية إخوانه عن مشاويره العابئة وأفكاره الجرداء من كل ثمار الحياة السعيدة ولكن لابد لخالد من أن يلحق الأذى بأخته الطاهرة ذات الحجاب والسيرة الفاضلة من خلال تهكمه على الكلية التي فضلتها على سائر الكليات والفروع وهناك تدخلت مؤمنة بأدبها الجم وحسن منطقها قائلة: والله ما اخترت كلية الشريعة إلا لأعيش على بينة من أمر ديني ولعل الله يقيلني في منازل الصالحات وأكشف لكل مسلمة ما تبينونه لها من أسباب الانحلال والفجور.
ها أنتم تحاربون الحجاب وتدعون إلى السفور وتعادون شريعة الإسلام ولا تقيمون وزنًا ولا عدلًا لدين الله. كان الوالد قد جلس على أريكته الخاصة، وقد امتد به العمر بعد أن جاوز الثمانين وراح يبتسم مسرورًا لكلمات ابنته ورد خالد بنبرته المعهودة، ونظراته الحادة التي تكاد تقطع الحبال الصوتية في حلق أخته كفى.. كفي... كفاك تهرفين بما لا تعرفين، لقد أصبحت فيلسوفة يا .. وانطلق صوت الوالد رحيمًا هادئًا: اسمع يا خالد، كلام أختك هو الحق وأنا عنها والله راض، وأدعو الله لها بالتوفيق شعر خالد بحرج أمام والده، فمال برأسه إليه قائلًا: أجل تدعو لها ولا تدعو لي !!
اعتدل الوالد الشيخ على أريكته وقال: لا يا ولدي.. إني لأدعو الله لكم جميعًا، بل وأخصك أحيانًا بالدعاء حين ينتابني الحزن وأنا أراك لا تلبي صوت أبي هشام وهو ينادي: حي على الصلاة، أطرق خالد خجلًا أمام والده وريما حدث نفسه بأنه كان يسب من ينقص عليه لذيذ نومه في أواخر الثلث الأخير من الليل، ولكن... وربما زاد من انزعاجه صوت باب الدار للذاهبين والعائدين من المسجد بعد أداء الصلاة، انتهزت الفرصة مؤمنة فأيقظته من استغراق أفكاره بلعبة الشيطان، وقالت: مالك يا خالد أجب أبي.. واستدرك الأمر إبراهيم وكان محاميًا بارعًا.. دعيه يا مؤمنة فموعد سفر خالد غدًا إلى أقوى القوتين في عصر ضلال الطقوس الحضارية.
رد خالد: حتى أنت يا إبراهيم! تدخل الوالد مرة أخرى قائلًا: والله لا أحب لأحدكم السفر إلى بلاد الكفار، ولكنها أسبوعان كما تقول يا خالد وأرجو الله أن يرعاك ويحفظك من كل سوء وأن يجعل لك خيرًا في سفرك هذا فإن في الأسفار فوائد رد إبراهيم وأين الخير والفائدة في السفر إلى روسيا يا أبي؟؟ كظم خالد غيظه وتحاشي أي رد تنكره تربية هذا البيت الصالح، فما زال يتحلى ببعض الآداب التي تعلمتها وتعودت عليها الأسرة وانتهز إبراهيم المحامي هذه الفرصة لعله يبلغ أخاه ما يوقظ حسه فقال: لعلك لم نقرأ ما قاله المستشار الأول في السفارة السوفييتية في إسرائيل، ونشرته صحيفة ها أرتس الإسرائيلية بتاريخ 1965/2/14م.
وجم الأب واشرأبت عينا الأم وأصغت آذان بقية أفراد الأسرة، وترقبوا إنكارًا من خالد، ولكنه التزم الصمت لسبب ما قالت مؤمنة: قل يا إبراهيم بالله أخبرنا نظر إليها خالد بحنق وقال لإبراهيم: أسمعها لتزداد كاملًا ثقافتها وثرثر... قاطعه الوالد وهو يقول لإبراهيم: قل يا بني فقد سمعت الكثير عندما كنا نجاهد اليهود عام ٤٨م، ثم عدنا مقهورين من غير نصر، قال إبراهيم عندي النص في كتاب حركات ومذاهب الموجود في مكتبتي، فقد قال السفير بكل صراحة ووقاحة: لم نقدم السلاح لبعض الدول العربية إلا بما يكفي لحاجات الدفاع لا الهجوم، وعلى الشعب في «إسرائيل» أن يتذكر أن الاتحاد السوفييتي كان أول من دعا إلى حظر توريد السلاح إلى الشرق العربي ١٩٥٧م، ونحن مستعدون لحظر السلاح عن المنطقة العربية... لكن حركات التحرر اليسارية في العالم العربي تحتاج إلى السلاح لتكافح الرجعية العربية وتقضي عليها، وعلى كل من يساعدها إن القضاء على الرجعية العربية سيزيل خطر العدوان العربي على إسرائيل لأن الأنظمة والحركات التقدمية اليسارية في البلاد العربية لا تريد العدوان على إسرائيل.
هز الوالد الوقور المجرب رأسه وقال لخالد: إذن... كيف تذهب لزيارة من يدعمون ويؤيدون اليهود؟ والله يا بني لقد سمعت بعض الضباط الذين شاركوا معنا في قتال عام 4٨م يقولون : إن الأسلحة الدفاعية عند اليهود لهي أشد قوة وأبعد تأثيرًا من الأسلحة الهجومية عند العرب والسلاح كله مستورد من دول أوروبا وروسيا وأمريكا، قال إبراهيم أجل يا أبي لليهود نفوذ غريب في مراكز الحكم العليا في كل هذه الدول، ويكفي أن تعلم أن قيصر روسيا نقولا الثاني الذي أطاحت به الثورة البلشفية أراد الإقامة في إنجلترا للصداقة التي تربطه بالعائلة المالكة فيها، ولكن معارضة سوفييت بطرسبرج رفضت طلبه، وأجبرته على الإقامة في منطقة «إيكاترنبرج» جنوب روسيا، حيث أمر المفوض المحلي -وهو يهودي- بإعدام القيصر وعائلته. وبدأ المفوض الصهيوني الماسوني حيث أطلق الرصاصة التي أصابت القيصر في رأسه. وهب الجنود يقتلون بقية العائلة، ثم صبوا الزيت على الجثث وأحرقوها، ثم ألغي اسم المنطقة من التقسيمات الإدارية وأبدل باسم «ياكوف سفرد لوف»، الذي كان رئيسًا للجمهوريات السوفييتية يوم إعدام القيصر وهو يهودي ماسوني أيضًا.
كانت الأسرة تصغي باهتمام إلى حديث ابنها إبراهيم واغرورقت عينا الوالدة بالدموع متأثرة بما سمعت وقالت لخالد: والله إني لخائفة عليك يا ولدي بينما أفتر وجه مؤمنة بإشراقة نصر فكري، يؤكده تاريخ الإجرام لليهود الصهاينة من خلال ألاعيبهم الخبيثة في عالم السياسة، حيث المكر والدهاء وقالت لأمها: لا تخافي على خالد فالله يحميه!! نظر خالد إليها، وكتم في صدره حديثًا ربما خبأه لوقت آخر وأيد كلامها إبراهيم قائلًا: أمين.... آمين. إن الله تكفل بحفظ الأمة المسلمة وقرآنها الخالد... يا خالد.. من الضياع والذوبان، فخرج خالد من حيرته الفكرية بسؤال بارد وقال: فما بال المسلمين تخاذلوا وتقهقروا أمام المغول والتتار، الذين اجتاحوا البلاد، واستولوا على العراق، وانحدروا إلى بلاد الشام، وحاولوا غزو مصر بنصف مليون جندي؟! تبسم إبراهيم وقال: زد على هجمات التتار ما جاء بلادنا من الهجمات الصليبية ثم أعد السؤال على نفسك لتجد الإجابة، ولكن أحب أن أذكرك بأن التتار وجدوا ملكهم ناصر الدين بركة خان قد أسلم ودعا قومه إلى الإسلام، وله الفضل بعد الله في كبح جماح هولاكو الذي اجتاح بغداد كما قلت.
امتقع وجه خالد وأخفى غيظ قلبه، ولم يحر جوابًا، وتابع الأستاذ المحامي إبراهيم حديثه قائلًا: واقرأ إذا شئت ما كتبه مؤرخكم -عفوًا مؤرخهم- الروسي كارامزين، حيث أكد هذا المؤرخ أن التتار لما قبلوا دين الإسلام أقبلوا عليه بالكلية ولا سيما الملك بركة خان فإنه أعلن نفسه بأنه حامي القرآن والشريعة والدين وخادمها، فأسلم قوم التتار كلهم تبعًا لسلطانهم، وهل تعلم يا خالد. أن بركة خان هو من أبناء جنكيز خان وهو ابن عم المجرم السفاح هولاكو الذي قتل الخليفة العباسي المستعصم بالله!!
تبسم خالد ابتسامة الحائر المنهزم في معركة تمحيص الذات، وكشف الحقائق ثم قال: لست عدوًا للإسلام يا إبراهيم.. وإنما.. قاطعه إبراهيم، ولكن ماذا؟! وإنما.. عن أي منطلق تريد أن تكف إشراقات الحق، أنتم عندكم عقدة الانبهار بالحضارة المعاصرة بمعطياتها الجيدة والقبيحة القذرة ونسيتم أن روح الإسلام إذا هرت القلوب، وأوقدت جذى المشاعر. فإنها تذيب جليد انبهاركم بالأيديولوجيات الاستعلائية رغم هوانها وخوانها.
ويطرق باب البيت ويقوم خالد ليفتح الباب مؤملًا أن أحد رفاقه قدم ليخبره بموعد الرحلة إلى روسيا، ولكن الطارق كان عبد الحكيم صديق الأسرة، فرحب به، وأدخله بينما قامت مؤمنة وأخواتها مع أمهن إلى غرفة أخرى ألقى عبد الحكيم السلام، وناول إبراهيم كتابًا جاء به إليه، قائلًا: هذا هو الكتاب، وقد أشرتُ فيه على بعض الصفحات التي يشهد فيها أعداء الإسلام للإسلام وما فيه من خير وسعادة للبشرية.. كلمات عبد الحكيم لفتت انتباه خالد فاشرأبت عيناه تستطلعان الأفكار وقال: أسمعونا... فما زلنا في ميدان المعارك الفكرية يضحكون.
استأذن عبد الحكيم ورافقه خالد حيث حان موعد لقائه مع بقية الرفاق في المكان المعلوم وافترقا ولينضم خالد إلى المجتمعين الذين حددوا ساعة الانطلاق غدًا إلى أرض المطار وفي الصباح استيقظ خالد بكامل نشاطه وحيويته وودع الأهل، منطلقًا إلى المطار مع بقية المرافقين وارتفعت بهم الطائرة بين الربيع البيضاء التي كانت تملأ الفضاء الرحيب واهتز قلب خالد وهو يرى أجواء بلاده تفوح بعطر النبوات، ولا يعرف كيف داهمت عينيه طيوف حيه الجميل وانسياب صوت المؤذن أبي هشام ولاحت لناظريه عينا أمه وهي تدعو له. وبسمات والده المحملة بالعطف الأبوي وطرقت أذنيه كلمات طالبة الشريعة أخته مؤمنة وتهز أعماق أحنائه العبارات التي ساقها أخوه إبراهيم وصديق العائلة عبد الحكيم، فأيقظته مبادرة رفيقه «سركيس» الذي كان يجلس إلى جانبه قائلًا له: أين سرحت يا خالد؟ لم نصل بعد إلى المجال الجوي لبلاد الحرية والقوة وعدالة الاشتراكية رد خالد أين أسرح وأنا في قبضة إبداع الحضارة، إلا ترانا فوق السحاب؟ ضحك سركيس وقال بهذه الحضارة سننقل بلادنا إلى مصاف الدول القوية ذات النظام الذي يحمي حقوق العمال والفلاحين، وسوف تتخطى الموروثات المتبلدة في مشاعر مواطنينا لا يعرف خالد كيف بادرته مرة أخرى. أطياف أسرته وحيه وأذان أبي هشام وحديث إبراهيم وعبد الحكيم... فهز راسه ثم استطرد بحديثهما عن الرحلة وفوائدها، وإذا بالطائرة تحط على أرض مطار موسكو بين المستقبلين والمستقبلات، وليحاط الوفد بحفاوة الروس. ومضى يومان بأحلى اللقاءات وأوثق الصلات ومطلق الحريات لتكوين المفاهيم وبرامج العمل التي يعود بها الوفد إلى بلاده المنكوبة، ليبشر بها صوب نهضة متميزة وفي اليوم الثالث انتظم الوفد لزيارة مقابر القيادات العليا للفكر الشيوعي، ويلمح سركيس شيئًا ما في وجه رفيقه خالد لم يعهده من قبل، وأما في صباح اليوم السابع فكانوا في زيارة للمناطق الأثرية أشعة الشمس الهادئة تدغدغ أخاديد وجوه جمع المعمرين الذين اشرأبت عيونهم للوفد الزائر يتفحصون الوجوه، ويتعرفون على لهجة القوم، وقف المترجم يشرح للوفد تاريخ هذا البناء العظيم، لقد كان مسجدًا للرجعيين فأخذناه منهم وحولناه كما ترون إلى مخزن العلف الحيوانات، وقسمه الآخر جعلناه إصطبلًا لبعض الخيول.
ويتقدم نحو الوفد شيخ جاوز الثمانين من عمره يسأل المترجم عمن يكون هؤلاء، ومن أي البلاد هم فأخبره أنه وفد من بلاد العرب ظنًا من المترجم أنه يثبت لهؤلاء الرجعيين المسنين أن مبادئ الإلحاد والاشتراكية وصلت إلى عقر دار العرب، فازداد توقد وجه الشمس في وجه الشيخ بهاء وفخرًا وتقدم نحو خالد ومن حوله وراح يردد جملة واحدة على أسماع قلوبهم وعيناه تسيلان بالدموع والمترجم يدفعه إلى الوراء ويأبى الشيخ إلا أن يسمع جملته إلى الوفد العربي وحاول خالد أن يسمع من المترجم معنى ما يقوله الشيخ، ولكن المترجم ما زاد على قوله إنه يهذي.
وتختتم الزيارة، ويهرع خالد نحو المترجم وتظاهر له بما يشعره أنه مستهزئ أيضًا بهذيان الشيخ، ولكن قل لي معنى الجملة التي كان يرددها انقبض وجه المترجم وتجهم، ولكن لابد من إخبار هذا الرفيق الذي لمع في شايا وجهه ما لم يلمحه في وجوه الآخرين ثم قال: إنه يقول: متى تعودون إلينا بالإسلام من جديد!! أهتز خالد وغشيته سحابة ظليلة موحية.
وتحط الطائرة في مطار بلدتهم وتستقبل الأسرة ولدها العائد حمد الجميع ربهم وحاولوا أن يحدثهم عما شاهد وسمع، ولكن الوالد الوقور أشار عليهم بالخلود إلى النوم فالساعة كانت الحادية عشرة ليلًا.
ويرتفع صوت مؤذن الحي أبي هشام.. الله أكبر.. حي على الصلاة.. الصلاة خير من النوم، هب خالد من فراشه، معتزًا بعودته إلى الله وقد سبق بقية أفراد الأسرة إلى مكان الوضوء ووجمت مؤمنة كوجوم بقية أفراد الأسرة، وقد ترقرقت الدموع في عينيها، وقالت: أنا أحلم أم هي الحقيقة؟ تبسم خالد وقال لا يا مؤمنة أنت بكامل وعيك وعلى بساط الحقيقة التي أثارت فؤادي دعونا نلحق الجماعة في المسجد ثم أحدثكم عما رأيت وسمعت في رحاب طشقند.. قالت مؤمنة بعجب واستغراب: طشقند أم موسكو يا خالد هز رأسه والبسمة تعلو إشراقتها الروحية وجهه الوضئ.... سأقول لك بعد أداء الصلاة.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكلمن ثمرات التاريخ.. عين جالوت أو قفت الكارثة عن العالم (1من2)
نشر في العدد 1778
39
السبت 24-نوفمبر-2007