الثلاثاء 06-يونيو-1972
مجلة الأسرة
تقدمها: «أم ابتهال»
شعارنا ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾ (النحل:97)
الافتتاحية
إذا كانت ذكريات الماضي في حقيقتها دروسًا للحاضر وتوجيهًا للمستقبل.. فإني قد انتهزت لك أيتها الأخت المسلمة فرصة الذكرى الأليمة لبداية ظهور المأساة على أرضنا الطيبة في فلسطين.. لأعرض لك صورًا من النماذج النسائية المجاهدة في كل ميدان.. سواء منهم من لقيت ربها راضية مرضية، أو من تزال على قيد الحياة في خطنا الإسلامي المجيد.. لعلها تشحذ همم القاعدات منا فيأخذن مكانهن في الركــب الميمون على طريق الجهاد.
أم ابتهال
مذكرات زوجة
(١٨)
o لقد بت ليلتي مسهدة أرقة، لم يغمض لي جفن، ولم تنم لي عين.. وما أكثر ليالي الأرق في فترة تحديد المصير هذه!! والاستجابة لأوامر الإسلام وتقاليده، على حساب موروثات من أعراف سكبت سمومها في عقولنا حتى تشابه الأمر علينا، واختلط بمزيج من الفكر الوارد لنا من منابع لا تمت إلى نبعنا الإسلامي الصافي بأية صلة..!!
o کیف یا تری ستواجه أسرتنا بتصرفاته هذه مجتمع المدينة كلها التي خرجت عليه وعلى تقاليده؟؟ ماذا سيقول لي بنات عمي، وزميلاتي؟! وماذا سيكون حديث أهل الحي عنا؟! كيف يجلس أبي في مجلس العقد ليعلن أن المهر ربع «دينار»؟! وأية شجاعة ستواتيه؟! وأي جرأة تسد عنه عيون الاستنكار من مجالسيه؟! وكيف يقبل «أحمد» أن يحط من مركزه الأدبي فيقبل أن يدفع أمام الناس ١/٤ دينار صداقًا لعروسه؟! لقد تصورت فضول الصحفيين وهم يلتقطون الحفل كخيط جرى لسبق صحفي في حادث مثير، فينشرون «بالمانشيتات» الكبيرة والعناوين الساخرة، والتعليقات اللاذعة.. ورنت في أسماع مخيلتي أزجال الزجالين، وأغاني المغنين، وهم يحكون قصة زواجي للترفيه عن الناس.. وتسليتهم..!
- لكن خاطرًا واحدًا سكن نفسي القلقة.. حينما تذكرت أن أصحاب الرسالات لا بد أن يواجهوا في مرحلة تغيير العادات صعوبات حتمية.. وبقدر إيمانهم برسالتهم، وصمودهم على مبدئهم.. يكون تحقيق الأمل وانتشار المبدأ.. ثم ما هي التقاليد والأعراف؟! أليست تصرفًا فرديًا يتكرر بالتقليد والمحاكاة.. وعلى أحسن الأحوال بالدعاية لها وتركيز الجهود في المناداة بها؟! وما «الموضات».. إلا صنعة فرد يزين لها فائدتها، ويدعو إلى مزاياها، ويصر على تنفيذها؟! وإذا كان هذا منهج التغيير.. فلماذا لا أقف على القمة مع والدي وزوجي لنعلن للناس عزمنا على أن نعيش في حياتنا بمبادئ الإسلام وأخلاقه وتقاليده.. وليؤيدنا من يؤيد ويزكينا من يزكي.. وليحاربنا من يحارب، وليسفهنا من يسفه..! حسبنا أننا على الحق، وأننا نحاول أن نرضي الله في تصرفاتنا..
- ثم امتد بي هذا الخاطر المطمئن ليؤكد لي إنه إذا كان في مفهوم بعض المفكرين الذين قرأت لهم إن الدين والأخلاق والتقاليد «ربطة» واحدة، ووجهة واحدة.. فإنه فيما تراءى لنا من كتاب الله الكريم وسنة نبينا العظيم صلوات الله عليه.. أن التقاليد والأخلاق في إسلامنا ليستا بهذه الصورة.. وإنما هما فرعان في شجرة واحدة متعددة الفروع.. أصلها واحد، وساقها واحد، وصوبها واحد.. ويوم أن نقطع أحد الفروع لتطعمها بفرع من شجرة أخرى.. لا بد أن تتغير الثمرة، ويتغير المذاق والطعم.. ويتغير الاسم بعد ذلك.. تمييزًا له عن النوع الأصيل..
- ومن هنا نمت في آخر الليل على اطمئنان كامل بأن ما قاله والدي لوالدتي عن «المهر» إنما هو قمة مثالية في تأصيل المفاهيم الإسلامية في نفوس الناس، وإنزالها منزلتها الحقيقية في شجرة العقيدة الإسلامية الباسقة.. ولأكن أنا.. برضاي عن ذلك، واطمئنان به، وموافقتي عليه.. سباقة إلى اجتلاب فضل الله ورضائه.. ولتكن أسرتنا الوليدة.. نقطة تحول في هذا المجتمع الذي يحمل اسم الإسلام دون مضمونه.. ولنكن أصحاب فن في إلباس الناس الزي الخليق بهم..! ألم يرو جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- فيما أخرجه مسلم في صحيحه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
«من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء»؟!
وأغمضت عيني على غيث المثوبة والرحمة.. يغمر ساحة بيتنا في حفل عقد قراني..
(ك. أ. ع)
أم أيمن... وأم أيمن!
- امرأة مؤمنة.. أكرمها الله فقدر لها أن تكون من الرعيل الأول في عصر النبوة وأن تكون مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم.. فكانت تنهل من رحيق الوحي على لسان الرسول مباشرة فتشعر بقطراته الندية النازلة من السماء في حينها..!!
- ولقد كان يزورها المصطفى بين الحين والحين إكرامًا وحدبًا عليها.. فهي زوجة مولاه زيد بن حارثة أحد الشهداء، وحامل اللواء الذي لم يسقط من يده إلا بعد أن نزفت دماؤه وصعدت روحه.!! وهي أم أسامة بن زيد أول فتى يتآمر على جيش العسرة ويسير في ركبه الخليفة الأول أبو بكر مودعًا إياه للميدان وهو في الثامنة عشرة من عمره!
- یروي أنس بن مالك أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال لعمر بن الخطاب:
«انطلق بنا إلى أم أیمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت!! فقالا لها: ما يبكيك؟! ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم! فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم!، ولكنى أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء!! فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها.»
o لقد كان ذروة حبها لله سبحانه وتعالى، وجل أساها أن شعرت يوم وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن جبريل الأمين لن ينزل يوحي بعد ذلك، وقد كانت أمنيتها أن يطول عمر رسول الله ليطول الغيث النازل من السماء هداية وإرشادًا.. لذلك ذرفت عيونها دمعات الحزن والأسى! لم يكن ارتباطها برسول الله على مكانته الكبرى ومحبته في نفسها إلا من خلال الرسالة التي أوحي بها إليه..
فهل يا تری نستطيع نحن معشر النساء أن ينغرس في قلوبنا هذا «الحب الإلهي» من خلال آيات الله البينات، فنقرأ القرآن على طريقة «إقبال» وهو يقول لابنه: «يا بني اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك»!! وتأخذه لا قطعًا ذهبية نحلي بها صدورنا، بل آيات بينات تستقر في قلوبنا!! ولا نحمله تميمة أو رقية، بل منهجًا وسلوكًا...!!
أم أيمن.. التابعة!
o هي التي أوحت إلى بهذا الحديث عن أم أيمن الصحابية في القرن الأول الهجري رأيناها.. وقد جمعتني بها لجان الامتحانات بوزارة التربية في مدرستها بالكويت، مسلمة.. تحاول أن تعيش إسلامها قولًا وعملًا، داعية مغمورة.. تجاهد في تبليغ رسالة رب الناس للناس.. لقد استطاعت.. وهي ناظرة المدرسة أن تجعل من المدرسات معها قدوة حسنة للطالبات يلتزمن بالسلوك الإسلامي.. ولقد رأيتهن يخطرن في جنبات المدرسة بزي شرعي وسط طالباتهن اللائي نهجن مثلهن.. ولقد سعدت وزارة التربية فأعطتها التفويض في ذلك وجالستها فوجدت أصالة الفكر الإسلامي لا سطحية ولا مظهرية، وسمعت آيات المحبة والثناء عليها ممن يعملن معها أو يخالطنها..
إنها أم أيمن ناظرة إحدى مدارس الضواحي.. ولولا أني لم استأذنها في الحديث عنهـا لذكرت اسمها وعنوانها.. لعل أخواتي المسلمات يزرنها ويتعلمن منها الحماس للدعوة، والأسلوب التربوي في التبليغ بالرسالة.
أم حلمي
مجاهدة في زوايا النسيان
o رأيتها.. فرأيت التاريخ البطولي لأم المجاهدين.. وما إن وقع بصري عليها حتى تخطيت ثلاثة وعشرين عامًا لأصل إلى عام ١٩٤٨ ميلادية حينما أعلنت التعبئة الشعبية في البلاد العربية من أجل «فلسطين»..
o وبدأ جنود الحركة الإسلامية يجمعون السلاح خفية من كل مكان، ويتصيدونه من كل طريق، ويهربونه بكل الوسائل.. فقد كانت مصر ما زالت رازحة تحت الاحتلال الإنجليزي وإن كانت في الظاهر مستقلة، كذلك كانت كل البلاد العربية عدا سوريا.. ولذلك كان أول دخول جنود الحركة الإسلامية لفلسطين عن طريق سوريا.
o وأدركت بفطنتها وإيمانها ما يدور بين جدران بيتها من اجتماع ابنها «حلمي» وإخوانه بتجار السلاح الذين يهربونه إليه.. فصارحت ابنها بما شعرت به، وأبدت استعدادها لأن تسهم بدورها.. فلا يكفيها أن تقدم الطعام وتهيئه للأبطال المسافرين للميدان، ولا أن تموه على اجتماعاتهم في بيتها، ولا أن تتعرف على كلمة السر من كل طارق لمنزلها.. فقالت: يا بني.. لعلكم تجدون صعوبة في نقل السلاح المجموع إلى أماكن التهريب خارج البلاد لأرض المعركة.. فاطمئنوا إلي وأنا أقوم بحمله إلى أي مكان تريدونه!
o وكانت تشهدها نجوم السماء وهي ترتدي زى فلاحة تحمل على رأسها السلال والقفف.. ملآى بالأسلحة والذخيرة.. تركب القطار تارة، وتارة أخرى تمتطي ظهر حمار، وتارة أخرى تركب «الحنطور» عربة يجرها حصان... حتى قدر لها أن تودع ابنها إلى الميدان.. ليعود بعد شهور في يديه الأغلال إلى معتقلات «الطور» التي صنعتها الخيانة للأبطال الفدائيين عام ١٩٤٩.!
o ولم تكف «أم حلمي» عن زيارته في المنفى البعيد، وتحمل له وإخوانه سلال المطعومات.. حتى أصبح قريبًا منها في «مستشفى القصر العيني» فلا تعدم حيلة أن تصل إليه كل يوم مشجعة إياه على الصبر والمضي قدمًا تحت راية الإسلام
o وتمضي السنون وقد هاجر ابنها من أرض المطاردة إلى أقطار بعيدة عنها فلا تملك إلا أن تراه دائمًا في أشخاص إخوانه الذين يترددون عليها.. وفاء واقتداء.. وتلقتهم ما وعته ذاكرتها من الماضي المجيد.
خيرية محمد عبده
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل