; من الواقع قصة قصيرة إحسان.. بإحسان | مجلة المجتمع

العنوان من الواقع قصة قصيرة إحسان.. بإحسان

الكاتب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق

تاريخ النشر الثلاثاء 23-مايو-1972

مشاهدات 12

نشر في 101

نشر في الصفحة 25

الثلاثاء 23-مايو-1972

من الواقع قصة قصيرة

إحسان.. بإحسان

بقلم الأستاذ: عبد الرحمن عبد الخالق

في قرية متواضعة من قرى الريف المصري تقبع على جانب الخط الحديدي الموصل بين القاهرة والإسكندرية، صلى جماعة من أهل القرية صلاة العشاء في ليلة شاتية باردة في أحد مساجد القرية، وعلى ضوء مصباح من مصابيـح «الكيروسين» الخافتة يتحسس الناس هناك طريقهم إلى مكان الوضوء. جلس في أحد الأركان رجل غریب أمضى يومه طائفًا في عدة قرى يبيع للفلاحين «الفلفل، والكمون» ويقايضهم في مقابل ذلك بالصوف والأكياس الفارغة.

جلس قابعًا يلفه البرد والغربة، ويؤلمه الجوع، ينتظر الصباح ليعاود رحلته فـي القرى المجاورة، وكان في مجموعة الفلاحين فلاح فارع الطول أبيـض البشرة هادئ الطبع هو «علي الزهيري» لم يكن يترك صلاة الجماعة؛ فتراه في برد الشتاء وحر الصيف وصلاة العشاء وصلاة الفجر ذاهبًا عائدًا، يمزج تعب الحقل بلذة العبادة؛ فتراه رغم شظف العيش وقسوته آمنًا مطمئنًا كريمًا عطوفًا، انتهى من الصلاة، وسبح تسابيحه المعتادة، ثم قام ليعود إلى منزله؛ حيث الدفء، والراحة من عمل يوم في الحقول وفي عبوره إلى ساحة المسجد المعروشة؛ شاهد ذلك الرجل الغريب على حالته تلك فرق له، وتذكر زوجته وأولاده؛ حيث ينتظرون الآن حول موقد النار، وكيف سيقدم له عند العودة عشاءه اللذيذ بخبزه الدافئ وزبدته، وأكواب الشاي الساخنة، وينام في غرفة دافئة، ونظر إلى السماء فإذا المطر ينزل والغيوم ملبدة والريح قاسية، فذهب إلي الرجل الغريب دون علاج لنفسه وحمل لها على ما تكره؛ فقد أصبح لديه فعل الخير سجية وطبعًا، وإكرام أمثال هذا الرجل عادة لا يقف أمامها شح النفس، ولا ظلمة القلب، ودعاه إلى منزله، وهناك بعد أن قطعا طرقًا ضيقة مليئة بالأوحال دخل علي الزهيري منزله وأخبر أهله بمن معه، وأجلس ضيفه عند النار، وأمر زوجته بتسخين ماء للاستحمام وإحضار ثياب خارجية وداخلية، ثم عزم على ضيفه أن يغسل جسمه، وأن يغير من ملابسه!! وتردد الغريب قليلًا، ولكنه نظر إلى حاله فرأى أنها تستدعـي ذلك، ونظر إلى مضيفه، فرأى أنه كريم بالطبع لا كريـم بالتصنع، وحول الموقد مرة أخرى تناول علي وضيفه الغريب عشاءهما وشربا أقداح الشاي، وتسامرا وقتًا عما قرب وبعد من حياتيهما، ثم أعد لضيفه مكان نومه، اضطجع الضيف في فراشه الدافئ، وملابسه النظيفة، وقد سد حاجة بطنه، وتذكر مكانه بالمسجد والريح تصفر حوله والمطر يهطل وتذكر أيضًا جوعه وقذارته وكل ما حوله؛ وكأنها ذئاب تحرمه النـوم والراحة، ثم نظر إلى نفسه ثانية فحمد الله، وأثنى عليه ودعـا لصاحبه بظهر الغيب، ولم يمهله النعاس في تأملاته طويلًا بل سكن عينيه، وحل بجسمه الذي يبدو أنه لم يذق نومًا مريحًا منذ مدة طويلة.

 وقبيل الفجر كان الشيخ الوقور علي الزهيري يوقظ ضيفه ليستعد للصلاة؛ صليا وعادا حيث موقد النار وأرغفة لذيذة محماة على جمره الصافي وقطع من الزبد والجبن وبعض البيض، ثم أقداح من القهوة تناولها الرجلان قام بعدهـا الرجل الغريب يحمل كيسه على ظهره خجلًا من كرم صاحبه

شاكرًا له حسن صنيعه لابسًا ملابس الشيخ: علي، وما كاد يودع صاحبه وينصرف؛ حتى انزلقت دمعة من عينه، واشتعل في قلبه لهيب عجيب أن لا يستطيع أن يرد إلى صاحبه معروفه، وكيف يستطيع ذلك؛ وهو فقير غريب تلقيه قرية لتتلقفه أخرى في بيع تافه لا يسد ربحه من حاجته شيئًا.

وأما الشيخ: علي فودَّع ضيفه، وامتلأ قلبه بمزيج عجيب من الفرح والطمأنينة والألم والثناء على الله؛ الفرح مد من معروفه الذي قدمه يرجو ثوابه، والطمأنينة التي تحدث عادة في قلب المؤمن بعد فعل المعروف والألم من أحوال مثل هؤلاء الفقراء المساكين؛ حيث لا مأوى صالح ولا عيش هني، والثناء على الله أن من عليه بالرزق الكفاف؛ حيث الحاجات الضرورية مكفولة والعيش هانئ كريم، ثم احتمل آلات زرعه، وركب دابته، وساق جاموسته، وانطلق إلى حقله مع شروق يوم جديد؟

·       مرت الأيام ودارت أعوام وصاحبنا: علي الزهيري يسير في حياته الرتيبة لا يكاد يغادر قريته، إلا في أحوال نادرة حتى إنه ليظن أن الدنيا تنتهي بانتهاء المدينة المجاورة، ولكنه عرض له في عام أن يسافر مع بعض من أهل بلده بالجمال لشراء بعض أحمال التبن من «عزبة» بعيدة «والعزبة»  إقطاعية، أو ملك لشخص واحد لا تقل عن عشرات من الفدادين، وقد تزيد إلى الآلاف، ويكون بها قصر المالك وبيوت قليلة للفلاحين الذين يعملون لمالك الأرض، ويتوافد الفلاحون أصحاب الملكيات الضئيلة على مثل هذه «العزب» لشراء التبن والخضار والفاكهة في مواسمها.

دخل الزهيري تلك «العزبة» النائية يقود جمله مع أولاد بلده وفي طريقهم مروا أمام القصرالرابض وسط رياض من الحقول ومباهج الحدائق وجداول المياه، وبينما هو في طريقه إلى مكان التبن، إذا برجل من عمال العزبة وفلاحيها يضع يده على عاتقه ويقول له: علـى الزهيري! فيلتفت إليه ويتفرس في وجهه فلا يعرفه ثم يقول الرجل له: إن سيد المكان يدعوك إلى القصـر، ويأمرك بترك جملك في أمانتي، ولا يجد الزهيري بدًا من الإجابة.

ويدخل الرجل أمامه، ويأمره خادم المنزل بالدخول إلى مكان الاستحمام لتغيير ملابسه بأخرى وغسل جسمه استعدادًا لمقابلة صاحب المكان، وينفذ الزهيري الأمر، وهو في استغراب ودهشة من أمره لا يدري ما يقول، وما يفعل، ثم يخرج من الحمام، وقد ارتدى ثيابًا أخرى قد أعدت له، ويدخل إلى غرفة استقبال جميلة، ثم يدخل عليه رجل ببذلة أنيقة وهندام مرتب، ويحييه قائلًا: السلام عليك يا أبا يوسف!! فيجيب الزهيري خجلًا: وعليكم السلام ورحمة الله! ثم يقول الرجل: أتعرفني؟! فيرد: ومن أين لي أن أعرفك يا سيدي. فيقول: سبحان الله! ألا تعرف ذلك الرجل الذي كان يبيع الفلفل والكمون والبدأ! والذي أخذته من المسجد في الليلة الشاتية الباردة وصنعت به ما صنعت! ويعود الزهيري بذاكرته إلى الوراء ليتذكر، ثم يقول: نعم فيقول: أنا ذلك الرجل!! فيبهت الزهيري، ولا يجيب، وتسقط الكلفة والرهبة شيئًا، ثم يقول، ولكن كيف وصلت؟!! هذا المكان وهذا الملك، وعملك السابق لا يؤهلك إلى شيء من هذا؟ فقال: سأسرد عليك قصتي: تركتك منذ ذلك اليوم والبلاد تتقاذفني وحالي البائسة لا تفارقني، وقليل مثلك من يعطف على أمثالي وفي ليلة آواني جدار من جدران هذه العزبة، وإذا برجال يستدعونني إلى هذا المنزل الذي أعيش الآن فيه وإذا قاض يستعد لأن يعقد قرانًا، وشهود، وناس وإذا بهـم يقولون لي: إننا سنعقد قرانك على سيدة هذا القصر! واعلم يا منحوس أنك ستطلقها في الصباح! لم أكن أصدق ما حولي: زواج من امرأة ثرية لليلة واحدة، وطلاق، وقاض، وشهود ما هذا؟، ولم يمهلوني أفكر، ولم أمهل نفسي أيضًا أن تتردد فلا شك أنهم سيسمحون لي أن أنام في زاوية من زوايا هذا القصر، وقد يعطفون عليّ بأن أشرب كوبًا من شراب العرس، وأن أملأ بطني الخاوي بخبزة من خبز هذا القصر.

 وقلت: يا أبا يوسف؛ لعلها ليلة من ليالي عمري أضيفها إلى ليلتي السعيدة بداركم؛ حيث حملتني من برد الشتاء في المسجد إلى الدفء في منزلكم، ونظرت إلى سيدة المنزل الجالسة أمام القاضي، وأخذت تدور الأفكار برأسي، أين أنا من هذه السيدة وما هذه العقود الباطلة، ولماذا هذا التحايل الخبيث!! ورمقتني السيدة بنظرة، ويبدو أنها رقت لحالي الرثة، ولوني الشاحب وثيابي القذرة وانفض الحفل، وأمرت السيدة بإخلاء المكان وأمرت الخادم أن يعد لي ثيابًا نظيفة، ودعتني إلى تغيير ملابسي وإصلاح شأني وغسل جسمي.

 وفعلت وأنا مأخوذ مشدوه، ثم دعتني إلى غرفتها الخاصة، وقدمت لي الطعام، وأخذت تسامرني، وتسألني عن أحوالي؛ وأنا لا أدري أفي حلم أنا أم في يقظة، ثم قالت لي: ألست زوجي الآن في شرع الله، فقلت: والله لا أدري -يا سيدتي- من أمري الآن شيئًا، فقالت: إنك الآن زوجي، وأنا أكره التحايل على الدين، وسأعيش معك، فقلت ولكنني يا سيدتي لا أدري من أمري هذا شيئًا، فلماذا أنا بالذات؛ وأنا رجل غريب فقـير أختار لأكون زوجًا لك، وليس عندك معرفة سالفة بي؛ فقالت: إنني مالكة هذه العزبة وقد تزوجت رجلًا عصبي المزاج غضوبًّا طلقني ثلاث مرات مع أني أنفق عليه ولما حدث هذا منه قال الناس: إنني لا أحل له حتى أتزوج بآخر ليكون هذا تحليلًا له للعودة إلى زواجي من جديد، وقد أتوا بك وأنت رجل غريب فقير لتقوم بهذا الدور: الزواج الصوري التحليلي البغيض، وأنا أكره الحرام، ولقد رأيت فـي عينيك كثيرًا من الحب والعطف والرقة؛ ولست أدري لم وقع حبك في قلبي منذ رأيتك ونحن نعقد العقد الذي أرادوه أن يكون باطلًا، ووالله لأجعلنه حقًا وأجعلك زوجًا لي؛ فهل أنت موافق على ذلك؟!

فقلت: يا سيدتي؛ وتطلبيـن موافقتي بعد، وهل أصلح أن أكون زوجًا لمثلك؛ إنني أتشرف أن أكون خادمًا عندك، قالت: بل زوجي من الآن وإلى أن يشاء الله.

وفي الصباح أمرت زوجها السابق الذي حضر مسرعًا إلى الغرفة ليأمرني بالخروج لإنهاء العقد أمام القاضي!! الزائف! أن يغادر المنزل، وأن يحمل حقائبه؛ لأنها قد تزوجت بي زواجًا أبديًا وليس زواجًا باطلًا لليلة واحدة!

وهنا أفاق الزهيري من استغراقه؛ فهنأ صاحبه بما من الله عليه من غنى وستر ومال، وأراد أن يودعه؛ فقال: بل أنت ضيفي الليلة لقد رأيتك من شرفة القصر، فعرفتك وحمدت الله أن أقدرني أن أجازي إحسانك بإحسان.

عبد الرحمن عبد الخالق 

 

الرابط المختصر :

موضوعات متعلقة

مشاهدة الكل

الثَور الأبيَض

نشر في العدد 2

42

الثلاثاء 24-مارس-1970

النصر الأعظم

نشر في العدد 10

32

الثلاثاء 19-مايو-1970